سرّ الجزائر! الشارع يخرج ضد التمديد لبوتفليقة والنظام يحذر من سوريا جديدة

محمد قواص (*)

ما بين كتابة هذه السطور ونشرها ستشهد الجزائر تطورات تحسب هذه الأيام ساعة بساعة. كان البلد خارج دائرة الاهتمام الإعلامي ولم تصبه لعنة »الربيع العربي« التي هبت على بلدان المنطقة. احتفظ البلد بهذه الحصانة دافعا عن حدوده أي أخطار ينفخها الخارج الملتهب في الجوار المباشر كما في الجوار البعيد. غير أن الجزائر نفسها، لا سيما نظامها السياسي رعى بدأب ولادة أزمة ليست مفاجئة، بل أن سياقها منطقي تم بناؤه مدماكاً فوق مدماك. فأن يترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة، فذلك جرى التنبيه إلى مخاطره من قبل الأحزاب والتيارات والشخصيات المعارضة، لكن حتى هؤلاء لم يتوقعوا خروج الشارع الجزائري ضد ما تم التخطيط له داخل دائرة الحكم المغلقة في البلاد.

قبل ذلك جرى في الأشهر الأخيرة مداولات كثيفة داخل الجزائر كما خارجها للبحث في مصير الرئاسة الجزائرية بعد انتهاء ولاية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة (81 عاماً). بدا أن عواصم كبرى، في مقدمها باريس وواشنطن وحتى موسكو، انشغلت في تفحص الاحتمالات البديلة على

عبد العزيز بوتفليقة: تخوف من انهيار المنظومة في حال غيابه

رأس السلطة في هذا البلد، ذلك أن استقرار الجزائر بات بنيويا في ارتباطه باستقرار شمال أفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط.

عرضت المداولات في قلب الجزائر العاصمة للخيارات المتاحة. وعرضت أجهزة المخابرات الدولية تقارير حول الوضع الداخلي عامة وذلك المتعلق بالطبقة الحاكمة خاصة. وكان أن انتهى الضجيج خلف الغرف المغلقة إلى منح الجزائر وقتا إضافيا لإنتاج البديل، وهو وقت تحتاجه الجزائر، كما فرنسا والاتحاد الأوروبي، كما الولايات المتحدة في الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي. فإذا ما كان مهاتير محمد (93 عاماً) في ماليزيا والباجي قايد السبسي (92 عاماً) نماذج رئاسية معمّرة حاضرة في العالم، فيبدو بوتفليقة في عرف رعاة ترشيحه في ريعان شبابه رغم مرضه الثقيل.

قبل اندلاع »انتفاضة« الجزائريين لم يكن في الجزائر من كان مؤمنا بجدية هذه الانتخابات. تعودت البلاد على خوض انتخابات قلما جذبت ناخبين مع شعور مواكب بعدم نزاهتها. قبل أن يتقدم بوتفليقة عبر مدير حملته الانتخابية بطلب الترشح للانتخابات لدى المجلس الدستوري، وقبل أن تندلع المظاهرات في 22 شباط/ فبراير، كانت أوساط المعارضة تزعم اندهاشها من قرار بوتفليقة الترشح لولاية خامسة. لم يكن الأمر مفاجئا، فالمعارضة كانت تعي أن الأمر حاصل لا محالة، وأن سياق الأمور قد أُعد بدقة، بحيث يصبح ترشح الرئيس حتميا لا بد منه. وإذا ما كان قرار ترشح بوتفليقة يساوي قرار فوزه في الانتخابات الرئاسية، فإن أمر ذلك لا يُعد حلا لأزمة السلطة في البلاد (وفق خطط دوائر الحكم)، بل تأجيلا يقي البلاد صراعا موجعا داخل الدائرة التي تحكم باسم الرجل.

لا أحد يريد تفعيل المادة 102 من الدستور الجزائري التي تنظم حالة إثبات شغور منصب رئيس الجمهورية بالمرض أو العجز. والظاهر أن الوضع الصحي للرئيس الجزائري وعجزه المرجح عن إصدار القرارات، بما في ذلك قرار ترشحه ربما، يتيح للسلطة الغامضة أن تستمر في إدارة أمور البلد وفق صيغة معقدة يصعب فك شيفرتها، ذلك أن غياب الشخصية البديلة يكشف العجز عن وثوق تلك السلطة ببديل يؤمن جانبه يوفر لها الديمومة والاستمرار.

والظاهر أيضاً، وقبل أن يظهر أن الشارع يدلي بدلو مفاجئ، أن خارطة طريق سرية، قد لا تكون عواصم أجنبية بعيدة عنها، قد أفرجت عما كان ضجيجا خلفيا وإشاعة رمادية، وأتاحت الجهر رسميا بنية الرئيس الحالي على أن يكون الرئيس المقبل لبلاده ممداً 20 عاماً من حكمه بعهدة خامسة.

تتحدث المعلومات أن العواصم، وخصوصا باريس، اشترطت لتغطية ترشح بوتفليقة دولياً إجراء تعديلات في دستور البلاد يسمح بتعيين نائب للرئيس يحضر البلاد ويحضر هذا النائب لقيادة دفة الحكم في حال شغر المنصب الأول بداعي المرض أو الوفاة. كان يفترض لمن كان يعمل خلف الكواليس أن يكون ترشح بوتفليقة المعلن، على الرغم من سرياليته، خبرا جيدا، يطمئن الجزائريين، كما المعنيين في الإقليم والعالم بشأن الجزائر، باستمرارية، ولو صورية ورمزية، لرأس الحكم، على نحو يبعد شبح الفوضى والسيناريوهات السوداء التي تسربها حالة الغموض وغياب الشفافية التي تتسم بها إدارة البلاد.

لا يمكن فصل حاضر الجزائر عما يطلق عليه في الجزائر اسم »العشرية السوداء«. شهدت البلاد في تسعينيات القرن الماضي حربا داخلية دموية عنوانها الرئيسي صراع بين السلطة والجماعات الإسلامية، فيما أن في خفايا تلك الحقبة جوانب غامضة تلمح إلى تورط أجهزة الأمن آنذاك بتسعير تلك الحرب وارتكاب بعض من مشاهدها الدموية.

ولئن انتهت تلك الحرب بالقضاء على الجماعات وشلّ حراكهم، فإنه يسجل للرئيس بوتفليقة دوره السياسي في إرساء مصالحة داخلية هدّأت من توتر الجبهة الداخلية و»أنزلت السلاح من الجبال«. وفيما اشتعلت المنطقة العربية عام 2011 بما أطلق عليه »الربيع العربي«، فقامت البراكين المدمرة في سوريا وليبيا واليمن.. إلخ، فإن الجزائر والجزائريين عرفوا تلك البراكين قبل ذلك دون أن يعترف العالم بمعركة البلاد ضد الإرهاب، ودون أن يكون للاحتراب الداخلي أي ظلال على المشهدين العربي والدولي العام.

وعلى هذا فإن درجات الاعتراض الداخلية في الجزائر بقيت خلال السنوات الماضية متواضعة، بحيث وقف الشارع متفرجا أمام اندلاع ذلك »الربيع«، منذ تفجره على تخوم الجزائر، في تونس، في سيدي بوزيد في تونس. وعلى هذا أيضا بقي الجزائريون شديدي التوجس من أي

الشارع فاجأ الجزائر قبل أن يفاجأ النظام السياسي

حراك قد يهدد أمن البلاد على النحو الذي قد يعيد كوابيس التسعينيات إلى حاضرهم. وعلى هذا أيضا وأيضاً كان يمكن فهم ركون العامة الجزائريين إلى وصفة »الرئيس مدى الحياة«، تاركة لمنابر المعترضين التقليدية، والتي يقوم اعتراضها وفق ما هو مرسوم ومقبول ربما، أن تستنكر وتدين وتدعي الدهشة والانبهار. والظاهر أن معادلة ترك الأمور كما هي، هي كلمة السرّ التي انتهجها أهل الحكم في إدارة الشأن الداخلي والخارجي، والتي لم يقو الرأي العام المحلي على الدفع لتطويرها.

بدا ذلك الجمود واضحا في العلاقة التي تربط الجزائر بفرنسا. يعلم أي مشتغل على الحالة الجزائرية مدى النفوذ الذي ما زالت باريس، بعد عقود على استقلال الجزائر، تمتلكه داخل البلاد. تعرف فرنسا، التي عالجت مستشفياتها الرئيس الجزائري، وضع بوتفليقة الصحي بدقة. وتعرف مؤسساتها الدبلوماسية والأمنية خريطة الدائرة الحاكمة في الجزائر. حتى أن قرار ترشيح بوتفليقة لولاية خامسة جرى، وفق ما يتسرب من معلومات، بالتنسيق مع باريس وأولي الأمر بها. ومع ذلك فإن الجمود ما زال يعتري علاقة الجزائر بفرنسا لجهة مقاربة البلدين المختلفة لفترة الاحتلال الفرنسي وحرب التحرير التي خاضتها جبهة التحرير الوطني. وبغض النظر عن الروايات التاريخية المتعارضة، إلا أن الحكم في الجزائر ما زال يغرف من زاد التاريخ للامساك بشرعية حكم للحزب الحاكم والرئيس الحاكم.

الجمود أيضا يكمن في تلك العلاقة المفخخة التي تربط الجزائر بالمغرب. يستدعي النظام الجزائري »حرب الرمال« تشرن الأول/أكتوبر 1963) كقاعدة عقائدية تؤسس لطبيعة التوتر الذي يراد له أن يكون بنيويا دائما، بين البلدين. وعلى أساس تلك القاعدة تتوالى ملفات النزاع التي تفسر إغلاق الحدود البرية ودوام الحملات المتبادلة التي تثور وتخبو وفق أجندة الحكم في الجزائر. والمسألة هنا لا تتعلق بمسؤولية المغرب أو الجزائر عن أصل هذا الخلاف ولب ذلك النزاع، بل ترتبط بعجز الجزائر عن الوثوب نحو الصلح وفتح الحدود وتطبيع كامل للعلاقات، على الرغم من تكرار المغرب، وعلى لسان الملك محمد السادس، طلب إنهاء الخلاف، لما للأمر من مصلحة للبلدين، كما لكل المغرب العربي.

وإذا ما ارتأت الدول الكبرى عدم التأثير على جدل إنتاج السلطة في الجزائر، فذلك أن العالم يدعم تجنيب الجزائر أي تطورات غير محسوبة.

راقبت العواصم تمكن بوتفليقة، أو الدائرة الحاكمة، من الإطاحة بجنرالات داخل المؤسسة العسكرية والأمنية لطالما اعتبرت »آلهة« داخل النظام السياسي الذي حكم البلاد منذ عام 1962. بدا أن مواكبة دولية كانت تجري عن بعد سهّلت للرئيس هذا المسعى. كانت العواصم تدفع باتجاه تطوير من داخل السلطة نفسها يقدم للعالم طاقما آخر بإمكانه مجاراة شروط المشهد الدولي. وكان خبراء الشأن الجزائري يراقبون بدهشة سقوط الرؤوس الكبرى برشاقة وحذق دون أي ممانعة تذكر من قبل مؤسسات لطالما أنتجت السلطة وصنعت الرؤساء في الجزائر. فإذا ما استكانت مراكز القوى التقليدية الكبرى في البلاد لإرادة هذا الرئيس، فإن رعاية العواصم الكبرى لولاية خامسة لبوتفليقة قد يكون سببها أن للرئيس (وظلاله) مهام لم تنجز وأن ما يحاك للبلاد يحتاج »انعاشاً اصطناعيا« لبوتفليقة حتى إشعار آخر.

فاز بوتفليقة في انتخابات عام 2014 بنسبة 81 بالمئة من عدد الناخبين دون أن يظهر في الحملة الانتخابية. فأن يترشح لولاية خامسة، فإن الأمر على غرابته ليس مفاجئا في أبجديات الحكم في الجزائر. بيد أن المراقبون بدـوا يسلطون المجهر لمعرفة هوية نائب الرئيس المنتظر، ففي ملامحه كان يمكن قراءة الأعراض الأولى لمستقبل هذا البلد.

غير أن عاملا صاعقا لم يخطر على بال أصحاب القرار داخل النظام السياسي. والحقيقة أن خروج الشارع الجزائري معارضا ترشح بوتفليقة لـ »عهدة خامسة« لم يخطر على بال المراقبين لشؤون الجزائر، لكنه أيضا لم يخطر على بال الجزائريين أنفسهم. بدا أن دينامية مفاجئة حقنت دافعا شعبيا عاما لوقف مهزلة »الرئيس مدى الحياة«.

لم يتحصن النظام في الجزائر بأية خبرة أنتجتها تجارب الحراكات الشعبية التي شهدتها بلدان المنطقة منذ عام 2011. ولا يبدو أن هذا النظام مّتعظ من تجارب الجزائر نفسها، على الأقل منذ اندلاع الاحتجاجات الشهيرة عام 1988. وقد لا نفاجأ من عدم قدرة الغرف المغلقة في أعلى الهرم القيادي في البلاد على اجتراح حلول خلاقة مفاجئة تعيد الهدوء إلى

لم تر السلطة في الجزائر في حراك الجزائريين إلا ظلال أخطار تحذر من حرب أهلية على منوال النسخة السورية، وفق تصريحات رئيس الوزراء أحمد أويحي، أو استعادة لكوابيس السنوات السوداء التي شهدتها الجزائر نفسها قبل عقود.

يحكم الجزائر منذ الاستقلال عام 1962 نفس النظام الذي تتغير واجهاته ولا تتبدل مناهجه في الحكم وفلسفاته في السلطة. تدور ديناميات السلطة حول حزب جبهة التحرير الوطني في السياسة وحول مؤسسة الجيش والأجهزة الأمنية في إنتاج وجوه الحكم وأصوله. لا شيء تغير سوى أن النظام يعبر عن انسداد هذه الأيام تجعله عاجزاً عن تقديم واجهة رسمية له غير الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة. فإضافة إلى أن الأخير تبوأ سدة الرئاسة لأربع ولايات منذ عام 1999 ما يجعل التمديد له لـ »عهدة خامسة« امراً استفزازيا، فإنه في ما يشكوه من مرض يُقعده ويغيّبه عن المسرح العام فإن ذلك يفترض أن يدفع »أولي الأمر« في هذا النظام إلى الهرع نحو شخصية بديلة رأفة ببوتفليقة المريض ورأفة بالجزائر ونظامها السياسي.

والظاهر أن شللا بنيويا أصاب التركيبة الحاكمة داخل الدائرة الضيقة المحيطة بالرجل المريض. والظاهر أيضا أن بوتفليقة يمثل كلمة سرّ معقدة لنظام حكم سريع التفكك بغيابه وغياب رمزية حضوره. وقد يستغرب المراقب عدم قدرة العسكر والأمن وساسة الحكم على التوافق على

السعيد بوتفليقة: شقيق الرئيس وظله في الحكم

بديل يمثل مصالح كافة تيارات النظام السياسي، وقد يتساءل عما هم فاعلون في حال تدخلت الإرادة الربانية وغيبت الرجل على نحو لا يمكن معه إلا الاعتراف بأن المنصب شاغر عمليا، حتى لو أنه كان شاغراً بالفعل منذ الجلطة الدماغية التي أصابت بوتفليقة عام 2013.

يحاول نظام الجزائر أن يشتري الوقت. لا يريد أن يعترف بأن الشارع ينتفض وأن المظاهرات التي لم يرها التلفزيون الحكومي هي حقيقة تتطلب أجوبة سياسية عاجلة. بدا أن الاحتجاجات تركز على أن الأمر لا يتعلق بـ »اسقاط النظام« على منوال ما رفعه متظاهرو »الربيع العربي«. تحرك الناس لمطلب بسيط: »لا للعهدة الخامسة« لبوتفليقة. بمعنى آخر لم يخطر على بال المنتفضين المطالبة أن يرفضوا أي عهدة جديدة للحزب الذي يحكم الجزائر منذ ستينيات القرن الماضي. مطلب العامة بسيط ومنطقي يكاد يقول »احكمونا بغير هذا الرجل«.

يخرج الجزائريون مجتمعين في حراك لا يشبه حراك سوريا الذي يهدد به أحمد أويحي ومنابر حكومته. فلا المجتمع الجزائري شبيه في تركيبته بالمجتمع السوري ولا النظام الجزائري يشبه في حكاياته النظام في سوريا. ثم أن الجزائريين الذي عاشوا »العشرية السوداء« الدموية يدركون قبل غيرهم الكوارث التي تنتج عن أي نزوع نحو العنف، وهم قدموا كل يوم منذ اندلاع انتفاضتهم دروسا في العمل الحضاري السلمي والحرص على وحدة الجزائر والجزائريين. وبالتالي فإن التهويل بـ »خراب البصرة« وفق حجج أويحي كان يعبر عن إفلاس مقلق لسلطة لا تجد رداً ذكيا مقنعا وتستسهل اللجوء إلى خيارات التخويف الخبيثة.

لم يستطع نظام الجزائر منذ الاستقلال تخليص البلاد من اقتصاد النفط والغاز. فقدت البلاد تجربتها الصناعية التي اعتمدها الرئيس الراحل هواري بومدين. دخلت البلاد منذ عام 1988 في حالة ارتجال هدفها ضمان السلم الأهلي. استند النظام على آلية الأمن التي تتحمل قسطا من مسؤولية وقوع البلاد في حمام دم خلال سنوات مواجهة التيارات الإسلامية والجهادية. واعتمد الحكم على آلية شراء السلم الأهلي أيضاً من خلال وفرة مالية كانت تؤمنها العهود الذهبية لأسعار النفط.

يعتمد اقتصاد الجزائر على سوق الغاز والنفط (35 بالمئة من الناتج القومي العام، 75 بالمئة من مداخيل الميزانية، 95 بالمئة من مداخيل التصدير). وحين تتراجع أسعار هذا القطاع ينكشف أمر السلم المجتمعي المزيّف.

لم يعد سوق النفط مواتيا لسوق اجتماعي جزائري يطالب بالبحبوحة وفرص العمل، ولم يعد جيل هذه المرحلة الذي يراكم شهادات جامعية داخل جفاف في سوق العمل، متأثرا بحكاية »التحرير«، ثم حكاية »العشرية السوداء«، وحتى حكايات البراكين في ليبيا القريبة وتلك في سوريا البعيدة.

يدور بحث المراقبين حول شخصيات الظل التي تقرر شأن البلاد حول بوتفليقة. والأسئلة كثيرة حول الدور المثير للجدل الذي يلعبه شقيق الرئيس، السعيد بوتفليقة، داخل دائرة القرار الضيقة حول الرئيس. بعض المعلومات تتحدث عن نفوذ يمتلكه الرجل يقرر فيه هوية الوزراء وطبيعة السياسات التي ينفذها رئيس الحكومة.

ويسلط المجهر أيضا على الفريق أحمد قايد صالح رئيس أركان الجيش الجزائري ونائب وزير الدفاع (رئيس الجمهورية هو وزير الدفاع) باعتباره واحدا من أخطر الشخصيات التي عملت إلى جانب بوتفليقة. ويعود للرجل ودهائه عملية إبعاد كبار من قادة الجيش والأمن في البلاد لصالح سلطة الرئيس وحده، فيما يعتبر المراقبون أنه كان أكثر المستفيدين من إقالة الجنرال محمد مدين الملقب بـ »توفيق« الذي قاد جهاز المخابرات في الجزائر لمدة 25 عاماً.

ولا يمكن تناول دائرة الحكم دون التنبه إلى الدور الذي يلعبه اللواء عثمان طرطاق الذي اختاره بوتفليقة بديلا عن الجنرال »توفيق« على رأس جهاز المخابرات. بدا أن الرجل يمثل ركنا أساسيا من أركان سلطة الظل التي اعتمدها بوتفليقة في السنوات الأخيرة. يمسك الرجل بملف

الفريق أحمد قايد صالح رئيس أركان الجيش الجزائري: العسكر يراقبون

الأمن وامتداداته خارج البلاد ويجعل دوره وحضوره مفصلياً داخل خرائط الأمن في العالم، وما يتطلبه ذلك لاستقرار أمن الحكم في الجزائر.

بدا أن دوائر العسكر والأمن المتحالفة مع حفنة من رجال الأعمال الكبار عاجزة عن قراءة مشهد الشارع في الجزائر. بدا أيضا أن معطيات العسكر والأمن المتحالفة مع سلطة المال لم تستشرف انتفاضة على النحو الذي تشهده البلاد هذه الأيام. وبدا أيضا وأيضا أن شبكة المصالح التي تؤسس منظومة بوتفليقة لم تلحظ عامل الشعب ومزاجه، أو اعتبرته تفصيلا هامشيا، وهي وفق ذلك غير حاضرة للتأقلم مع هذا المستجد، ومضطرة لأن تتمسك ببوتفليقة رئيسا، وأن يقدم ملف ترشيحه من ينوب عنه طالما أن في الجزائر حكم ينوب عن رئيسه.

تحتاج تلك الدائرة إلى الوقت في محاولة للتمديد لحكم ران البلاد منذ الاستقلال. يتلو ذاك النظام وعداً لبوتفليقة للرحيل قريبا، ربما حين تهتدي تلك الدائرة إلى الرجل البديل. هذا النظام أصمّ لا يستطيع أن يسمع صوت الجزائر هذه الأيام. وفي الجزائر من يرى أن البلاد تخلّصت من استعمار فرنسا قبل 57 عاماً وتحتاج هذه الأيام إلى الاستقلال عمّن حررها من ذلك الاستعمار.

على أية حال أفرجت انتفاضة الشارع عن واقع جديد، ذلك أن الجزائر تستيقظ على نفسها وتحادث نفسها، كما أن الجزائريين الذين تباعدهم الجغرافيا وجدوا في الحراك عصبية واحدة. وقد يكون حريا أن يترك لأهل البلاد الاهتداء إلى السبل الأنجع الخروج من أزمتهم على نحو يقي البلاد نارا اشتعلت في بلدان المحيط.

الظاهر، وقبل أن يظهر أن الشارع يدلي بدلو مفاجئ، أن خارطة طريق سرية، قد لا تكون عواصم أجنبية بعيدة عنها، قد أفرجت عما كان ضجيجا خلفيا وإشاعة رمادية، وأتاحت الجهر رسميا بنية الرئيس الحالي على أن يكون الرئيس المقبل لبلاده ممداً 20 عاماً من حكمه بعهدة خامسة.

لا يمكن فصل حاضر الجزائر عما يطلق عليه في الجزائر اسم »العشرية السوداء«. شهدت البلاد في تسعينيات القرن الماضي حربا داخلية دموية عنوانها الرئيسي صراع بين السلطة والجماعات الإسلامية، فيما أن في خفايا تلك الحقبة جوانب غامضة تلمح إلى تورط أجهزة الأمن آنذاك بتسعير تلك الحرب وارتكاب بعض من مشاهدها الدموية.

والظاهر أن شللا بنيويا أصاب التركيبة الحاكمة داخل الدائرة الضيقة المحيطة بالرجل المريض. والظاهر أيضا أن بوتفليقة يمثل كلمة سرّ معقدة لنظام حكم سريع التفكك بغيابه وغياب رمزية حضوره. وقد يستغرب المراقب عدم قدرة العسكر والأمن وساسة الحكم على التوافق على

للواء عثمان طرطاق: عين الأجهزة على الجزائر

بديل يمثل مصالح كافة تيارات النظام السياسي، وقد يتساءل عما هم فاعلون في حال تدخلت الإرادة الربانية وغيبت الرجل على نحو لا يمكن معه إلا الاعتراف بأن المنصب شاغر عمليا، حتى لو أنه كان شاغراً بالفعل منذ الجلطة الدماغية التي أصابت بوتفليقة عام 2013.

العشرية السوداء

بدأ نشاط التيار الإسلامي السياسي بالازدياد تدريجيا متأثرا بالثورة الإسلامية في إيران. فمن خلال بعض العمليات التي كانت تستهدف محلات بيع المشروبات الروحية وممارسة الضغط على السيدات بارتداء الحجاب. وفي عام 1982 طالب ذلك التيار علنا بتشكيل حكومة إسلامية. ومع ازدياد أعمال العنف، وخاصة في الجامعات، تدخلت الحكومة وقامت بحملة اعتقالات واسعة حيث تم اعتقال أكثر من 400 ناشط من التيار المتبني لفكرة الإسلام السياسي، وكان من بينهم أسماء كبيرة مثل عبد اللطيف سلطاني.

 ولكن الحكومة بدأت تدرك ضخامة وخطورة حجم هذا التيار فقامت وكمحاولة منها لتهدئة الجو المشحون بافتتاح واحدة من أكبر الجامعات الإسلامية في العالم بولاية قسنطينة في عام 1984 وفي نفس السنة تم إجراء تعديلات على القوانين المدنية الجزائرية وخاصة في ما يخص قانون الأسرة حيث أصبحت تتماشى مع الشريعة الإسلامية.

لكن الاقتصاد الجزائري استمر بالتدهور في منتصف الثمانينيات وازدادت نسبة البطالة وظهرت بوادر شحة لبعض المواد الغذائية الرئيسية. ومما ضاعف من حجم الأزمة كان انخفاض أسعار النفط في عام 1986 من 30 دولارا للبرميل إلى 10 دولارات وكان الخيار الوحيد أمام الشاذلي بن جديد للخروج من الأزمة هو تشجيع القطاع الخاص بعد فشل الأسلوب الاشتراكي في حل الأزمة وقوبلت هذه التغييرات بموجة من عدم الرضا وأخذ البعض في الشارع الجزائري يحس بأن الحكومة تظهر لامبالاة بمشاكل المواطن البسيط.

تصاعد الغضب في قطاعات واسعة من الشارع الجزائري. وفي أكتوبر 1988 بدأت سلسلة من إضرابات طلابية وعمالية أخذت طابعا عنيفا بصورة تدريجية، وانتشرت أعمال تخريب للممتلكات الحكومية إلى مدينة عنابة والبليدة ومدن أخرى فقامت الحكومة بإعلان حالة الطوارئ وقامت باستعمال القوة وتمكنت من إعادة الهدوء في 10 أكتوبر بعد أحداث عنيفة أدت إلى قتل حوالي 500 شخص واعتقال حوالي 3500 شخص. وسميت هذه الأحداث من قبل البعض بـ »أكتوبر الأسود« كما يصفها البعض الآخر بـ »انتفاضة أكتوبر.

كانت للطريقة العنيفة التي انتهجتها الحكومة في أحداث أكتوبر نتائج غير متوقعة، حيث قامت مجاميع تنتهج الإسلام السياسي بإحكام سيطرتها على بعض المناطق، وطالبت منظمات عديدة في الجزائر بإجراء تعديلات وإصلاحات. فقام الشاذلي بن جديد بإجراءات شجعت على حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير فقام عباسي مدني وعلي بلحاج بتأسيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ في مارس 1989 بعد التعديل الدستوري وإدخال التعددية الحزبية.

بدأت الجبهة تلعب دورا بارزا في السياسة الجزائرية وتغلبت بسهولة على الحزب الحاكم، جبهة التحرير الوطني الذي كان الحزب المنافس الرئيسي في انتخابات عام 1990 مما حدى بجبهة التحرير الوطني إلى إجراء تعديلات في قوانين الانتخابات. وكانت هذه التعديلات في صالح الحزب الحاكم فأدى هذا بالتالي إلى دعوة الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى إضراب عام وقام الشاذلي بن جديد بإعلان الأحكام العرفية في 5 يونيو 1991 وتم اعتقال عباسي مدني وعلي بلحاج.

في ديسمبر 1991 أصيب الحزب الحاكم بالذهول حيث أنه برغم التعديلات الانتخابية واعتقال قيادات الجبهة الإسلامية للإنقاذ، إلا أن الجبهة حصلت على أغلبية ساحقة من المقاعد في الدور الأول وهو 188 مقعدا من أصل 232. وفي محاولة من النظام القائم للحيلولة دون تطبيق نتائج الانتخابات، تم تأسيس المجلس الأعلى للدولة بعد إجبار الشاذلي بن جديد على الاستقالة وإلغاء نتائج الانتخابات. وبناء على ذلك دخلت البلاد في حرب داخلية دموية استغرقت عقدا كاملا يعرفه الجزائريون باسم »العشرية السوداء«.

(*) صحافي وكاتب سياسي لبناني

العدد 91 – نيسان 2019