كارثة المخدرات في العراق.. وجهها اجتماعي وحقيقتها سياسية

د. ماجد السامرائي

يبدو الحديث عن عالم المخدرات ناقصا دون ذكر مملكته (كولومبيا) وليست الأرجنتين مثلما ذكره رئيس الوزراء العراقي (عادل عبد المهدي) أخيراً في دفاعه عن إيران واستبعادها عن التورط في هذه الكارثة الانسانية المخربة لقلب الوطن العراقي »الشباب« فمن يدخل في تفاصيل هذا العالم الجنوني »المخدرات« يكتشف بأنه لا ينحصر في عمليات تداول وبيع وشراء هذه المادة المدمرة حسب مثلما يظهر في وسائل الاعلام خصوصاً العراقية. إنه كيان كبير وامبراطورية لها نظامها وأجهزتها وأدواتها وقوانينها الرادعة، ولها مناخها وطقوسها. ومملكة »كولومبيا« أنتجت منظمات وقادة لا تنحصر في التعاطي الانتاجي والتجاري لمختلف أنواع المخدرات وأبرزها »الكوكاكايين« وانما تمتد إلى عالم السياسة والمنظمات الثورية وغير الثورية في أمريكا اللاتينية لدرجة إن أحد رموز وأباطرة المخدرات كان يحلم بأن يكون رئيسا لكولومبيا.

ومن دون شك فقد كانت وما زالت الولايات المتحدة الأمريكية هي المستهدف الأول في تجارة المخدرات القادمة من امريكا اللاتينية ليس لتخريب مواطنيها حسب وإنما في تهديم الاقتصاد الأمريكي. من هنا لا بد من أخذ هذه المقدمة المعلوماتية حين الحديث عن مخاطر التعاطي وتجارة المخدرات في العراق، مع إن الحالة العراقية ليست بهذا الحجم الكبير والامكانيات اللوجستية في أمريكا اللاتينية لكنها تنتمي لذات العالم، تاريخياً عمر المخدرات في العراق قليل لا يتعدى عمر العهد السياسي الجديد بعد دخول قوات الاحتلال الأمريكي حيث فتحت عمدا حدود العراق أمام برابرة الأطماع وأنواع العصابات وكارتلات المخابرات الدولية والإقليمية كان الهدف من بين أهداف تخريب الانسان العراقي هو تحطيم قدراته وفعالياته الانسانية كقاعدة كبيرة في البناء والتنمية.

هذا البلد لم يكن قبل عام 2003 يعرف المخدرات وفق احصائيات مكتب المخدرات التابع للأمم المتحدة حيث لم تسجل غير حالتين ما بين 1970 – 1990 فيما أصبح بعد عام 2003 وجود 3 مدمين من بين كل 10 أفراد في العراق، كانت العقوبة تصل حد الاعدام لمتعاطي المخدرات فيما أصبحت العقوبة في العهد الحاضر تصل إلى ستة شهور فقط. والتقارير الحديثة لمكتب مكافحة المخدرات التابع للأمم المتحدة أكدت أن هناك ممرين رئيسيين لدخول المخدرات نحو العراق الذي تحوَّل إلى مخزن تصدير تستخدمه مافيا المخدرات، مستفيدة من ثغرات واسعة في حدود مفتوحة وغير محروسة، فالعصابات الإيرانية والأفغانية تستخدم الممر الأول عبر الحدود الشرقية التي تربط العراق مع إيران، أما مافيا تهريب المخدرات من منطقة وسط آسيا فتستخدم الممر الثاني وصولا إلى أوروبا الشرقية إضافة إلى ذلك هناك الممرات البحرية الواقعة على الخليج العربي الذي يربط دول الخليج مع بعضها.

وأضافت التقارير أن العراق لم يعــد محطة ترانزيت للمخدرات فحسب، وإنما تحوَّل إلى منطقة توزيع وتهريب، وأصبح معظم تجار المخدرات في شرق آسيا يوجهون بضاعتهم نحو العراق، ومن ثم يتم شحنها إلى الشمال، حيث تركيا والبلقان وأوروبا الشرقية، وإلى الجنوب والغرب، حيث دول الخليج وشمال أفريقيا.

إن معظم قادة الشرطة في المناطق الحدودية الجنوبية بين العراق وإيران يؤكدون إن إيران هي المصدر الوحيد للمخدرات في العراق وأعرب أحد الضباط عن استغرابه من تصريح رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي بشأن قدوم المخدرات من الأرجنتين ولبنان.

أكثر أنواع المخدرات تعاطياً بين العراقيين هي ما يصلهم من الجارة إيران وهي الحبوب رخيصة الثمن ذات النتائج العالية في التدمير وأخطرها ما يسمى (الكبتاجون) وهي ذات قوة تدمير هائلة للدماغ البشري حيث تم أخيراً ضبط (16) مليون حبة من هذا النوع على حدود البصرة، إضافة إلى »الحشيش« وحبوب (الكريستال) ذات الخطورة العالية وهناك قصص غريبة حصلت في الآونة الأخيرة بالبصرة في تصنيع هذه المادة القاتلة محلياً عن طريق »طباخين« غير عراقيين يحضرون هذه المادة السامة بطرقهم الخاصة وبشكل خفي جداً.

وهناك معلومات رسمية عن إدخال الكثير من الشتلات الزراعية للمخدرات حيث تدخل بين الشتلات الزراعية الأخرى.

كما اتجه بعض الفلاحين إلى التخلي عن زراعة الخضروات والفواكه بعد تدني أرباحها بسبب الغزو الاقتصادي الايراني فاتجهوا إلى زراعة بعض المواد المخدرة لسهولتها وارتفاع أرباحها. مافيات المخدرات تمتلك إمكانيات وقدرات متعددة تتجاوز عمليات إلقاء القبض الشكلية التي تحصل على الحدود العراقية الإيرانية سواء في طرق اخفاء المخدرات مع البضائع المتدفقة يومياً وبلا رقابة من الأراضي الإيرانية في الجنوب او في منطقة كردستان شمالي العراق، أو في إبتكار اساليب تقنية حديثة للعبور داخل العراق.

وتناقلت الأخبار الرسمية أخيراُ عن توظيف الطائرات المسيّرة لتهريب المخدرات إلى العراق في منطقة (ديالى) وتشير تقارير الشرطة إلى أن رجال عصابات تسليب السيارات التي عاودت أنشطتها في الآونة هم الأكثر في تعاطي الحبوب المخدرة، فهم يستخدمونها في تخدير ضحاياهم من سائقي السيارات الحديثة داخل المدينة وعلى الطرقات الخارجية فيما تؤكد السلطات الأمنية في المدينة إنها ضبطت أخيرا 58 كلغم من المخدرات في المنطقة الحدودية بالقرب من سفوان 60 لكم جنوب غرب البصرة.

ليس مستغرباً أن يتركز مركز خارطة المخدرات في العراق في مدينة البصرة واطرافها إضافة إلى بغداد ومدن العراق الجنوبية.

 فلقد حكمت جغرافية الجوار الإيراني على البصرة أن تكون في صدر المدفع كما يقولون، تلقت في حرب ثمانينيات القرن الماضي ضربات الصواريخ والمدفعية الإيرانية، وأصبحت بعد عام 2003 مكبّ نفايات المياه القادمة من إيران، والأخطر هي أن تكون اليوم مركزاً للاتجار وتعاطي كافة أنواع المخدرات فالمستهدف الأول هو إنسانها وشبابها وتحويلها من ثغر العراق وبوابته المشرقة نحو الخليج إلى مرتع للعصابات ومافيات المخدرات.

إن وجوه التدمير كثيرة وتصبح المخدرات هي خاتمة القتل الجماعي بعد الفقر والمرض والحرمان من أبسط مقومات الحياة الكريمة لدرجة وضع الشاب البصري بصورة خاصة والعراقي بصورة عامة من دون خيارات لحياته ومستقبله، وهذا الانغلاق في افق الحياة يدفعه إلى تهلكة المخدرات فيقدمون اليه السم كحل انتحاري اخير يغيّبه عن عالمه الحقيقي، وأظهرت نتائج الحوارات والمشاهدات مع هؤلاء المتعاطين للمخدرات أن الكثير منهم يعاني شعوراً متزايداً بالضياع والخوف من المستقبل، وعدم جدوى حياتهم، وغيرها من المشكلات النفسية التي قد تجعلهم يهربون إلى المخدرات.

وبعد إسقاط المتعاطين في بئر الجحيم يتم التلاعب بهم وحينذاك تصبح الجريمة ميدانهم وحين يتذوقون الدماء يعجبهم مذاقها في خضوع تام للمافيات الكبيرة وعصاباتها المسلحة التي تتحكم بالشارع. ومنظمة المخدرات لها أغطية سياسية لحماية رجالها خصوصاً في البصرة والمنافذ الحدودية لها، ذلك إن تسهيل حركة رجال العصابات هؤلاء يتم من قبل الأحزاب السياسية لأنها تشكل أحد الموارد المالية لها وللمليشيات المسلحة التابعة لها.

في مركز العاصمة بغداد يتم توفير إمكانيات الاستمرار في هذه التجارة القاتلة بواسطة التشريعات البرلمانية التي قررت منع تعاطي المشروبات الكحولية مما دفع الكثير من المراقبين لتأكيد إن هذه الخطوة كانت بمثابة إيذان باستمرار ومضاعفة تعاطي وتجارة المخدرات كملاذ للشباب الضائع.

لقد أكدت التقارير الاخيرة من العاصمة العراقية بغداد بان تعاطي المخدرات وخصوصاً »الحبوب المهلوسة« أخذ ينتشر في العديد من مدارس العاصمة. ورغم الصورة المؤلمة لنتائج تعاطي المخدرات والاتجار بها في العراق، فإن القصة تتجاوز الظواهر إلى أن هذا الاخطبوط الخطير له الحرية الكاملة في التحرك سواء في تمرير هذه البضاعة القاتلة إلى الأراضي العراقية أو في عدم القدرة على التضييق في تعاطيها بسبب انعدام الاجراءات القانونية الصارمة ضد تجارها او متعاطيها.

صحيح إن نشأة عالم المخدرات حديث في العراق لكنه نما بشكل سريع لتوفر البيئة الحاضنة لنموه، وليس من باب المبالغة التأكيد بأن امتدادات هذه الامبراطورية تدخل في عالم السياسة الفاسد. وللأسف الشديد لا توجد هناك روادع قوّية لايقاف النزف الانساني والمادي الذي يمّر به العراقيون.

وهذه الكارثة تحتاج إلى حملة وطنية كبرى تديرها رئاسة الحكومة تتضمن العلاج الطبي المباشر للمبتلين بهذا الإدمان من جهة واتخاذ حلول استراتيجية في القضاء على البيئة التي تنتج هذا الخطر، وهي لا تختلف عن بيئة الإرهاب التي ابتلي بها العراق، ذلك إن أفواجاً من هؤلاء اليائسين ينخرطون في عالم الجريمة حتى وإن لم تكن خلفياتها عقائدية أو مذهبية.

هذه الكارثة التي ابتلي بها أهل العراق هي الأخطر في مسلسل الكوارث الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يمر بها البلد، ومن لديهم غيرة على البلد وأهله من السياسيين عليهم أن يلتفتوا على السبب المركزي لمجمل هذه الكوارث إنه النظام السياسي المخلخل وهيمنة الفساد والتحزب المصلحي وغياب الدولة القوية ذات العدالة والقانون الصارم.

 

العدد 91 – نيسان 2019