حِوار حَول ديوان »شفاه الريح« للشاعرة أسماء الشرقي

نسرين الرجب- لبنان

»بمنتهى الفرح نعيش كذبة الحزن«، بمثل هذه العبارة تفتتح الشاعرة والفنانة التشكيليّة التونسيّة »أسماء الشرقي« ديوانها »شفاه الريح«، الصادر عن دار فواصل اللبنانيّة، العبارة التي تحمل زخمًا من العاطفة والأمل بفرح ما يتربّصُ بالأحزان العابرة، إضافة إلى عبارتَيْن مقتبستيْن »لا أعرف شيئًا عن سر الإله، ولكني أعرف عن أشياء بؤس الإنسان« لبوذا، و»آه ما أجمل أن نموت واقفين: هنالك فقط تقف لنا القبور«، لعبد الرزاق الجبراني، شكّلت فواصلاً مفتاحيّة للقصائد الثلاث والأربعون وقصيدتين مترجمتين، فواصِل تنبئ بمفاتيح دلاليّة عميقة، تطالعنا في الديوان من خلال عناوين شعريّة باذخة في مجازها، وانزياحها اللغويّ، عناوين تعدُ بالكثير وتفتح شهيّة التلقي، واندفاع المتُلقّي للغور والغوص في بعديّة نصوص تتدافع فيها المشهديّات، وتنفلت فيها الدلالات عن حدس المتلقي، لتحدّث أخبارها بأسلوب يُضلّل من لم يهتدي بذائقة الحس الفني.

 عن التجربة الشعريّة وتفاصيلها الغنيّة، في ديوانها »شفاه الريح«، كان لمجلة الحصاد هذا الحوار مع الشاعرة:

»الحصاد«: قالوا أنّ الشعراء هم أعظم الرسّامين، وأن الرسم شعر صامت، وعن الجاحظ قوله: »فإنما الشعر صناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير«، إلى أي حدّ يتفق الكلام مع تجربتك في الكتابة الشعرية ؟

أسماء الشرقي: أن يكون الشعر سجّاد الشاعر ليطفو على حرير الإبداع وجه، وأن يُطوّع التشكيلي أطياف ألوانه ليُجدّد خلق الصورة وجه آخر… والفيصل بين التجربتين حدود وهمية لقفا واحد.. لذا كنتُ دائمًا أرى لوحتي بياضًا ينتظر أن أسْكُب في أغواره بعضًا منّي تمامًا كما كنت أفعل بدفتر أوراقي وانا أُمارس الكتابة.

»الحصاد«: تشهد الساحة الشعريّة الكثير من الوافدين ممن يبحثون لهم عن مكانة في عالم البوح، وسمحت مواقع التواصل الاجتماعي في ظهور نموذج جديد من الشعراء الطارئين على المشهد، كيف تحصّنين موقعك وسط هذا الزحام؟

أسماء الشرقي: أعتقد أنّ التحصين كمبدأ وكفكرة، تعتمد أساسًا على قناعات الشاعر وقدرته على نحت خطّه التحريري باستقلالية وثبات، لا شكّ أن التجارب الشعرية في وطننا العربي تعدّدت أوجُهها واختلفت مساراتها، خاصة من خلال شبكات التواصل الافتراضيّ، وهذه الظاهرة في حدّ ذاتها سلاح ذو وجهين، ساهم في التعريف بالتجارب الشعريّة المُضطّهدة من ناحية ورفع شأن بعض التجارب الواهيَة لغةً وإبداعًا.. وتبقى التجربة الجادَة التي تعتمد على جماليّة الصورة وعمق الفكرة نبراس كل مبدع في مجاله.

»الحصاد«: تتميز عناوين قصائدك بأنها تتناص مع البعد الديني القرآني تحديدا، والتاريخ الاسلامي، (حديث الإفك استخارة، تجليات، فاتحة الرؤيا، رسالة إلى أبي ذر، ظل البلد..)، على ماذا تقوم رؤيتك كشاعرة إلى الحداثة الشعرية، هل هناك أيديولوجيا معينة تبنين عليها رؤيتك الفنية؟

أسماء الشرقي: فعلاً لقد لامست بهذا السؤال كُنه والمسار الايديولوجي لقصائدي، فالكتابة من منظوري الخاص هي تأسيس مُحكم لجملةٍ من الروافد الإنسانيّة ونسيج متناسق بين التاريخي، العقائدي، اللاهوتي والأسطوري، وهي مفاتيح للخلق الكوْني قبل أن تكون شفرات الوجود البشريّ.. ولعليّ راهنت في ذلك على مشاربي المعرفيّة وتجاربي المبتدئة في فن التصوُّف الروحي والعشق المتماهي واللامتناهي، وأعتقد أنّها من أهم التجارب التي يمكن أن تساعد المبدع على تنقيَة كينونته الصُغرى السّابحة في الكَوْن المطلق.

»الحصاد«: في البناء التصويري للقصيدة، تتميز بعض قصائدك بكثرة الاحالات، فنجد مثلا في قصيدة حديث الافك: (حمم دانتي الذليلة_ ريشة العنقاء-متاهة جلجامش_ خريطة ميكافيل..). الكثير من الإشارات التي تحيل إلى أسماء شخصيات أسطورية وتاريخية..ألا ترين أن كثرة الاحالات ترهق القصيدة، وهل يفر الشعر معها من مهمة الامتاع إلى الامتناع؟

أسماء الشرقي: أوافقك الرأي في جانب منه، وذلك، إذا كان توجه الشاعر ومرجعياته تعتمد أساسًا على تكثيف الإحالات والإطناب في الاشتغال على الهُلاميات المشهديّة، لكنّي أعتقد بدوري أنّ هناك من القصائد المخصوصة التي تحتاج بل وتتعطش صورة وفكرة إلى هذه الإنزياحات لما تزخَر به من عمق فكريّ وتاريخيّ يساعد الشاعر على حسن توظيف أحاسيسه وتوجيهها بشكل مباشر إلى ذائقة المتلقي، وذلك على غرار قصيدة »حديث الإفك«.

»الحصاد«: قصيدة »شفاه الريح« والتي أطرتها عنوانا لمجموعتك الشعريّة، أشبه بلوحة تشكيلية ضاربة في المجاز، ما هي مهمة الشاعر اتجاه مآسي بني قومه، ومآسي المظلومين في العالم؟ لماذا قمت بترجمتها إلى الفرنسية دون سواها؟

أسماء الشرقي: لا يفوت القرّاء أنّي أنتمي إلى مجتمع »فرنكوفوني«، تحتل فيه اللغة الفرنسيّة الصدارة من السّلم الثقافي الخاص والعام، وبالتّالي فإن تعمّدي ترجمة هذه القصيدة جاء إلى دافعين: الدافع الأول هو أنّ معضلة الهجرة السريّة أو ما نعبرّ عنه في تونس بـ»الحرقة«، تأتي دائمًا مشفّرة بلغة أجنبيَة وأنا اخترت اللغة الفرنسيّة لأنّها الأقرب إلى الثقافة المُتداولة، والدافع الثاني هو أنّ لي صديق شاعر وحقوقيّ إيطالي الجنسيّة طلب مني أن أترجم هذه القصيدة باللغة الفرنسيّة كي يفهم أبعادها وعمقها.

 »الحصاد«: قصيدة »لا أنسى« هي أيضا مترجمة إلى الانكليزية، ما الذي دفعك لهذا الخيار من الترجمة، وماذا عن حالة التناقض، وكأننا أمام أنثى أثقلها الوجد وهي تعيش نشوة الشوق ووصلة العشق، في غياب؟

أسماء الشرقي: لا أعتقد أن في أبعاد قصيدة »تذكر«، تناقضًا لأنّ الشاعر هو في نهاية الأمر مزيج متداخل من الأحاسيس يطفو بها لغويًّا على سطح الورقة ليرسم صورًا شعريّة من زوايا روحه وأبعاد أفكاره، وهو فعلاً ما حدث في هذه القصيدة وغيرها. أمّا عن سبب ترجمتها باللغة الانجليزية فهي كانت مجرد تجربة شخصيّة لتوسيع دائرة أبجديات القول في ديوان شعري واحد.

 »الحصاد«: تمنحين الأنا أفعال القيامة، فهي ليست أنا مستلقية على تعبها ولكنها أنا تفعل وتمارس طقوسها بجمالية، كيف تعقلنين جنون القصيدة؟

أسماء الشرقي: إنّ الأنا في جغرافية أحاسيسي الشعرية قبس من الخلق وفراشة لا تخاف الاحتراق ما دامت تؤمن أنّ التجدّد سنّة الكون..

»الحصاد«: هل تعتقدين أن تجربة المرأة في الكتابة لا تزال رهينة الذات والعاطفة الخاصة؟

أسماء الشرقي: كنتُ قد أجريت منذ فترة قصيرة تحقيقًا حول »الأدب النسوي في تونس »، باستقصاء شهادات من مبدعات تونسيات، وهنا أقف عن عتبات سؤالك لأقول أنّ المرأة المُبدعة كما الرجل هي ذات فاعِلة ومُنفعِلة لغويًّا وفكريًّا وعاطفيًّا، ومن ثمّة فكلّ ما تكتبه هو نابع من كينونتها البشريّة ولا رهان في اختلافها مع الرجل إلّا في درجة الوعي بالأشياء داخلها وخارجها.

»الحصاد«: أحترق بكلي المبعثر في الأجزاء/عليّ أتماهى..عليّ أتناهى اليك.. إليّ الهي«، هناك روحانية غالبة في مداك الشعريّ، وحالة من الوجد الصوفي.. ترجمتها ببلاغة حاذقة، كيف يفصل الشاعر بين ايمانه العقائدي وايمانه الفطري بعيدا عن المباشريّة التي تحصر المعنى في الوعظ المنفر ؟

أسماء الشرقي: بعيدًا عن أيّ توجه عقائديّ يمكن أن يكبّل المبدع العربي ويضعه في فخاخ المرجعيّة الدينيّة،

يبقى الفكر الصوفي في أبهى تجلياته جماليّة حسيّة ودربة صعبة ودقيقة المراحل لنحت منهج جديد للإبداع. والشاعر من منطلق هذا السياق مطالب بأن يفصل بين هذا المبحث الروحي الإبداعي من جهة وتوجهاته الدينيّة العقائديّة الآسرة للفكر والحبر.

»الحصاد«: لديك قصائد موزونة وأخرى غير ملتزمة بوزن، هل تؤمنين بالشكل أو القالب الشعري؟ وكيف يؤثث الشاعر قصيدته عندما يغيب عنها الايقاع الخارجي؟

أسماء الشرقي: سؤال دقيق حقًّا، لأنّه لامس جانبًا هامًا من هدفي الواضح لخلق شكل من المصالحة الأسلوبيّة لكل الكتابات الشعريّة فنحن في تونس وبعض الدول العربية الأخرى أصبحنا نصنّف الشعر والشعراء في خانات وقوالب، تبجّل البعض وتقصي البعض الآخر، لذا حاولت أن أجعل مضمون هذا الديوان باقة مختلفة من الكتابات الشعرية كرسالة مني للناقد والقارئ على حدّ السواء بأن الشعر هو مولود يشترط أن يكون كامل المفاصل الجماليّة ومنسابًا بصدقه وعمقه من دون ضوابط وهميّة، صنعناها بأنفسِنا أو توارثناها من مدوّنات أدبيّة غابِرة.

»الحصاد«: تقولين في مقطع من قصيدة أراجيح الريح: »يصوغ السادة أحلامهم /تحف بهم غصون البيان..« كيف يُدَوْزنُ الشّاعر علاقته مع السُّلطة؟

أسماء الشرقي: الشاعر يمتلك أصل اللغة والسياسي بدوره يتحكم بحواشيها، لذا يبقى الشعر مقصلة الحاكم، ليس هناك دوْزَنة مضبوطة في العلاقة بينهما بيد أنّه هناك فاصل وهميّ بين النقد والإبداع من حيث شكل اللغة وأسلوب التبليغ، ولا ننسى أن عنصرَيّ الإيحاء والمحسّنات البديعية تلخص الهدف بجماليّة أراها أبلَغ من المباشرتيّة.

»الحصاد«: هل تعتقدين أن صوت أبي ذر ما زال مدفونا في منفاه الأخير؟ وما الرسالة التي أردت ايصالها من خلال استحضاره في قصيدة »رسالة إلى أبي ذر«؟

أسماء الشرقي: إنّ أبا ذر هو فكرة محمّلة بزخم القيَم الإنسانيّة بقطع النظر عن مرجعيّته التاريخيّة في المدوّنة الإسلاميّة، وأنا من تلك الزاويَة استدعيتَه في قصيدتي تلك، وتبقى القصيدة حمّالة أوجُه تقرأ براحا تماما كما اللوحة التشكيلية.

»الحصاد«: ماذا عن مجموعتك الشعرية وتجربة النشر مع دار فواصل اللبنانية؟

أسماء الشرقي: شفاه الريح هي بدء لتجربة جديدة ارتأيتُ أن أضعها بين يدي دار فواصل للنشر لثقتي الكبيرة في مؤسسها الأستاذ الشاعر والمفكّر نعيم تلحوق، وذلك لمعرفتي الخالصة بسموّ أهدافه وأبعاد تأسيس هذه الدار، التي جاءت لتثبّت منظومة التواصل الفكريّ والإبداعيّ بين كلّ مُبدع يروم التميُّز والاختلاف.