لا خلاافة ولا دولة ولا رجال دين في القرآن 7 من 7

رسالة إلى »المسلمين« العرب:

لا خلاافة ولا دولة ولا رجال دين في القرآن (7 من 7)

رؤوف قبيسي:

في القرآن آيات فيها مديح للنصارى، ومديح غيرعادي لبني إسرائيل، كما في الآية »يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وإني فضلتكم على العالمين«. يكفي أن نشير إلى تصالح الإسلام مع اليهودية والمسيحية ما جاء في سورة البقرة: »إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون«. لقد أتى القرآن على ذكر »موسى نبي العبرانيين« 136 مرة، وعلى ذكر »المسيح« 33 مرة، إشارة إلى عمره، فيما لم يأت على ذكر »نبي« الإسلام إلا خمس مرات، أربع منها بلفظ محمد، ومرة بلفظ أحمد، كما أن مريم البتول، هي المرأة الوحيدة التي ذكرها القرآن بالاسم، ما يدل على أن الإسلام كشريعة، استكمال لشرائع سابقة، تعززها آية من سورة المائدة تقول: »وقفّينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوارة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور«.

 إن قراءة إيمانية غير حرفية للقرآن، واعتبار بعض الأحكام لزمن محدد، يساعدنا على إدراك كنه الكتاب، والوقوف على حال العرب وتقاليدهم قبل ظهور الإسلام وبعده. وكما أن الأمورمرهونة بأوقاتها كما يقال، كذلك بعض الأحكام الزمنية مرهونة بأوقاتها أيضاً، أو هكذا يجب أن تكون. الحياة دورات متواصلة، لا تتوقف عند مفاهيم معينة وضعها أقدمون، سواء كانوا من »السلف الصالح«، أو غير الصالح، وهذا ما عناه الإمام أبوحنيفة بقوله »هم رجال ونحن رجال« في إشارة إلى أن الفقه حركة حياة، وأن قراءتنا القرآن على أنه مصحف حياة وحركة، لا مصحف جمود، يخفف عنا أثقال الحياة، ويمهد لنا الطريق لبناء دولة قوانينها وأحكامها من زماننا المعاصر، من غير تأثيرات سلبية على الجواهر الكامنة في الآيات.

ربما تكون قد تساءلتَ أيها القارىء الكريم، عن سبب وضعي »علامات الازدواج«، حول كلمات مثل »الله« و»يسوع« و»النبي« و»موسى« و»الكتب المقدسة« في كتبت من فصول. لا أخفي عليك أن السبب هو إيماني المطلق بحرية الإنسان، وتحسباً من أن يظن أحد أنني أحاول فرض رأيي على أحد، أو أفرض وجود شخصيات لا يعتقد بعضنا بوجودها، وأضع »المسيح ومحمد« في صورة ليست في أذهان بعض الناس، فأنا ما زلت في الدرجة الأولى من سُلّم المعرفة، ولي إيماني الخاص في الوجود والطبيعية، وما وراء الطبيعة والوجود، لكن ما أعرفه حق المعرفة، هو أن الناس يختلفون في شؤون الدين، كما يختلفون في شؤون الدنيا، وكما أن هناك مؤمنين، ومتدينين، هناك أيضاَ ملاحدة ولاأدريون، ومنهم من لا يزال يبحث عن »الله«، وأسرار الكون في الكتب وخارج الكتب. المهم في الأمر وفي كل أمر، أن يسود الاحترام بين الناس، ولا يكفّر أحد أحدنا باسم الرب، أو يقتل باسمه، لأنه إذا كان يؤمن برب للعالمين، فعليه أن يعرف أن بين يدي هذا الرب وحده يكون الحساب، لا بيد من يدعون تمثيله على الأرض زوراً وبهتاناً.

قد يشك أحدنا بوجود شخصية تاريخية اسمها »المسيح ابن مريم«، وقد يعتقد آخر بألوهيته، ومنا من قد يراه »نبياً من أنبياء الله«، وقد يحسبه آخر رجلاً مصلحاَ عاش في فلسطين الرومانية، وصلب لأنه خالف القوانين، وجدّف على عقائد بني قومه، وقد يعتقد بعض الناس أن موسى نبياً، في حين قد يراه آخرون فرعوناً، أو رجلاً هارباً يستحق العقاب، لأنه قتل مصرياً في الطريق، أو شخصية خرافية لاوجود لها. الشي نفسه ينطبق على كل ما هو »مقدس« في رأي بعض الناس، لكنه ليس »مقدساً« في رأي بعضهم الآخر. لهذه الأسباب كلها وضعت »علامات الإزدواج«، عملاً بحرية الرأي، وليحكم كل قارىء بمنظاره. هكذا الحياة، أو هكذا يجب أن تكون، حواراً خلاقاً في طريق البحث عن الحق والحقيقة، وإلا توقف العقل وانتعشت الغرائز.

وضعت »علامات الازدواج« هذه أيضاَ، حول كلمات مثل »مسيحيين« و»مسلمين«، وسبب ذلك، كما سبق وذكرت غير مرة، هو اعتقادي بأن ليس كل من يولد في عائلة »مسيحية« هو مسيحي حقاً، وليس كل من يولد في عائلة »مسلمة« هو مسلم حقاً. الإيمان الصادق بالفعل لا بالقول، وليس كل من ذهب إلى الحج صار حاجاَ بالروح، وليس كل من قال »يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات«، كما جاء على لسان »المسيح« في الأناجيل. الإيمان العفوي الصادق، لا يتم من خلال طقوس جامدة، بل بالخروج من الدروب الضيقة إلى رحاب الإيمان الطلق، من الصلاة المحدودة إلى النجوى الكونية التي لا تحد، والتي لا تتقيد بلغة ولا بهيكل ولا بمعبد، ولا تتأثر ببيئة أو بموروث، ولا تعرف إلا التأمل والإيمان الخالص طريقاً إلى »السماء«.

هذه الأسباب، وإيماني الشديد بالدولة المدنية كحل لا حل غيره، هو ما دفعني إلى توجيه هذه الرسالة، لأن الدولة المدنية هي دولة القانون العام الذي يسري على الجميع، بغض النظرعن معتقد كل منا. هي الدولة التي فيها وحدها يتنامى الشعور الوطني الصادق، وينمو تعايش حقيقي وتتوالد محبة، وفيها وحدها تتلاحق الأفكار، وتتجلى العقول، وتنفتح على حقول العلم والفن والمعرفة. لقد ولدت هذه الدولة في الغرب، وجاءت ولادتها بعد مخاض عسير، وصراع حاد بين العلم والجهل، بين التدين والإيمان، بين البصيرة والغيب، بين المنطق والغريزة، بين العقول النيّرة وصلف الحاكم، وحكم المقصلة ومنصّات المشانق. حاربتها السلطة الدينية الغربية باسم »المسيح«، وتحاربها في الشرق اليوم، قوافل من وثنيين جدد، تحت راية الإسلام و»نبي« الإسلام، وبأشد ضروب الجهالة والغريزة العمياء. لكن، كما جاء يوم، انتصر فيه النص الإنجيلي على السلطة الدينية، والسلطة الزمنية في الغرب، سيأتي يوم قريب ينتصر فيه النص القرآني على السلطة الدينية والسلطة الزمنية في الشرق، وهذا النصر العظيم الهائل لن يتحقق، إلا في ظلال دولة مدنية إنسانية حرة.