اطلالة على التاريخ مائة عام على ثورة 1919

اطلالة على التاريخ مائة عام على ثورة 1919

تبقى ابرز انجازاتها انها أكدت ميلاد الدولة المصريه

حتى.. وان اختلفت التقييمات حول نسب نجاحها وفشلها

أمين الغفاري

تبقى ثورة 1919 في ذاكرة الشعب المصري شعلة مضيئة عبر حركة التحررالوطنية، ليس فقط لأنها وفق التعريف التقليدي للثورات كانت (ثورة شعبيه) طلائعها من الطلبة، ثم شاركت في انطلاقها كل فئات الشعب وطوائفه، سواء من المتعلمين أوأصحاب الحرف أوالعمال والفلاحين، ولكنها من جانب آخر أسست لميلاد الدولة المصرية ومفهومها، بعد أن كانت مصر في ظل الامبراطورية العثمانية تمثل ولاية من ولاياتها، حتى وان كانت ولاية لها سمات خاصة تميزها فالوالي في مصر حصل على لقب(خديوي) خلافا للولايات الاخرى، وحكم مصر أصبح وراثيا لأكبر ألأبناء، وذلك أيضا لم يتوفر للولايات العثمانية المختلفة، بالأضافة الى ذلك القدر من الأستقلالية في الحكم منذ الحملة الفرنسية، فاختيار محمد علي واليا على مصر كان بارادة شعبية وباختيار مصري خالص وهم مجموعة من العلماء يقودهم (عمر مكرم نقيب

سعد زغلول يتوسط قيادات الثورة

الأشراف) وقاموا اولا بعزل خورشيد باشا الوالي الذي عينه السلطان العثماني بعدم الاعتراف به كحاكم ثم توجهوا الى محمد علي قائد الجند، وقال له عمر مكرم لقد وليناك علينا بشروطنا). جاءت ثورة 1919، لتنهي كذلك (الحماية) البريطانية على مصر التي اعلنت عام 1914، وبمقتضى النتائج التي اسفرت عن هذه الثورة صدر التصريح البريطاني في 28 فبراير 1922 بأعلان استقلال مصر، مع التحفظات الأربع التي تضمنها ذلك التصريح وهي :

تأمين مواصلات الامبرطورية البريطانية في مصر

حق بريطانيا في الدفاع عن مصرضد اي اعتداءأو تدخل أجنبي

ابقاء الوضع في السودان على ماهو عليه

حماية المصالح الاجنبية والأقليات.

عوامل الثورة

تتعدد تلك العوامل التي كان من شأنها حدوث هذا المد او الأنفجار الثوري الذي لم يكن يدور يرأس سعد زغلول) نفسه الذي تنسب اليه قيادة الثورة، ولكنه وكما وصفه (الميثاق الوطني) الذي صدر في اوائل الستينات من القرن الماضي بأنه (ركب الموجة الثوريه) التي اندلعت 1919، ومن تلك الأسباب:

أولا :يقف على رأس تلك العوامل الظروف المعيشية البالغة القسوة التي عانى منها الشعب المصري ويضاف اليها بعد ذلك الظروف الطارئة بقيام الحرب العالمية الأولى واقدام الأحتلال البريطاني على تجنيد الآلاف من ابناء الشعب المصري وتتجاوز اعدادهم المليون، لخدمة ومساندة القوات البريطانية

، ولم يكتفوا بذلك وانما قاموا أيضا بتجنيد اعداد اخرى من خلال مجموعات أطلق عليها (فرق العمل المصرية) لكي تقوم بعمليات المساندة وراء خطوط القتال في بعض الدول والمواقع مثل سيناء وفلسطين والعراق، كما قام الأحتلال كذلك باستغلال ثروات البلاد بأبشع صوره من صور الأستغلال حين أجبروا الفلاحين على زراعة المحاصيل التي تتناسب مع احتياجات القوات البريطانية من الغذاء والتموين، والتي تخضع لضرورات الحرب واحتياجات الجهد العسكري في المعارك التي يخوضها، بصرف النظر عن الحياة المعيشية للشعب، والمحاصيل اللازمة التي توفر احتياجاته الخاصة، ثم عادوا فأجبروا المزارعين من جديد على بيع المحاصيل بأسعار زهيدة قاموا هم كذلك بتحديدها.

 ثانيا : المخزون العام من القهر والتسلط الذي عانته الجماهير الشعبية منذ أن قامت القوات البريطانية بغزو مصر عام 1882تحت مزاعم مختلقة، وتصريح اللورد جرانفيل وزير خارجية بريطانيا، بأن دخول بريطانيا الى مصر لايستهدف أي نوايا استعمارية، وان القوات البريطانية سوف تغادر مصر فور استتباب الأمن واستقرار البلاد، ومع ذلك استمر الأحتلال، وتمت محاكمة قادة الثورة العرابية الذين تصدوا للأحتلال، وتم نفيهم خارج البلاد، ثم القيام بمذبحة قرية (دنشواي) عام 1906 واعدام ستة من الفلاحين على أرض القرية التي شهدت الأحداث بادعاءات باطلة أنهم قتلوا جنديا بريطانيا، أثناء قيامه مع زملاء له بعمليات صيد، وغفلوا عن ماجرى من اصابة فلاحة بطلقات الرصاص، أو الحرائق التي تمت في اجران القمح، بالأضافة ان هذا الجندي قد قضى نحبه أثر ضربة شمس قوية بعد فراره هاربا من القرية اثر اندلاع الحرائق ووفاة الفلاحة.

ثالثا – تأثير قادة الحركة الوطنية المطالبة بالأستقلال بعد تصفية الثورة العرابية، وبروز مصطفى كامل وخطبه البليغة التي كانت تتغنى بحب الوطن (بلادي بلادي لك حبي وفؤادي) و(أنني لو لم أولد مصريا لوددت أن أكون مصريا)(لاحياة مع اليأس ولايأس مع الحياة) و(أحراراً

(السلطان الذي أصبح ملكا)
الملك فؤاد الأول ملك مصر
اعتبر دستور 1923 منحة من الملك

في أوطاننا، كرماءً مع ضيوفنا) و(الأمل هو دليل الحياة والطريق إلى الحرية) كما قام بتشكيل (الحزب الوطني) واصدار جريدة (اللواء)، وكانت مع جريدة (المؤيد) التي أصدرها (الشيخ علي يوسف) مصادر اشعاع للحركة الوطنية و حملت رسائل للثقافة والتنوير. وقد خلفه في قيادة الحركة الوطنية بعد رحيله عام 1908 (محمد فريد) الذي أنشأ المدارس الليلية للطبقة العمالية وكانت احد الروافد الهامة للمعرفة والتهاب المشاعر الوطنية. كما نشأت ايضا أحزاب أخرى منها (حزب الأمه) عام 1907 برئاسة (محمود باشا سليمان) وأبرز قياداته (أحمد لطفي السيد) الذي لقب بأستاذ الجيل وأبو الليبرالية المصرية. وكان شعار الحزب(مصر للمصريين) وان كان يرى أن (أصحاب المصلحة الحقيقية هم أبناء البيوتات المصريه) وقد تحول الحزب بعد ذلك الى حزب (الأحرار الدستوريين) وقد رأسه عدلي يكن باشا ثم الدكتور محمد حسين هيكل باشا) وبتعدد الحياة الحزبية كانت المطالبة بالأستقلال، وان كانت بعض الشخصيات(كالشيخ علي يوسف واحمد لطفي السيد يرون أن الأستقلال التام عن الأحتلال لا يعني الأستقلال الكامل بالأنفصال عن الدولة العثمانية.

رابعا – اعتقال سعد زغلول ورفاقه بعد ان انتشرت حركة التوكيلات الشعبية. لسعد زغلول بعرض مطالب الأمة في مؤتمر السلام، مما دعم موقف سعد زغلول كزعيم للحركة الوطنية، وأعطاه بعدا شعبيا كاسحا، وكان خبر اعتقاله دافعا للغضب الشعبي أن ينفجر في تظاهرات حاشدة، قابلتها قوات الاحتلال بعنف لأخمادها، مما أكسب الثورة قوة وصلابة في المواجهة، ويتزايد لهيبها وتتحول الى ثورة عارمة قامت بها كافة القوى الوطنية بأطيافها السياسية وبفئاتها الاجتماعية، وتميزت بمشاركة المرأة بجوار الرجل، وتعانق الهلال مع الصليب عنوانا للوحدة الوطنية.

ماذا حققت ثورة 1919؟

 كانت مطالب الثورة المعلنة تتمحور حول هدفين اثنين هما الأستقلال والدستور.

أعلنت بريطانيا في 28 فبرايرعام 1922 انهاء الحماية البريطانية على مصر، وأن (مصر دولة مستقلة ذات سيادة) مع اعلان تحفظات أربع سبق الأشارة اليها. وقد تباينت ردود الأفعال الحزبية على ذلك، فقال (عدلي يكن) حزب الاحرار الدستوريين (أنه أساس طيب للأستقلال، وأنه لأول مرة في تاريخ مصر الحديث يتم الأعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة، وقال (اسماعيل صدقي) (ان وزارة عبدالخالق ثروت التي كنت أحد أعضائها أعلنت استقلال مصر، وشكلت لجنة لوضع الدستور) ولكن (سعد زغلول) قال(ان هذا الأعلان أكبر نكبة على البلاد)، ووصف لجنة الدستور بأنها (لجنة الأشقياء) وكان (الحزب الوطني) يؤيد سعد والوفد في هذه المواقف.

رأى سعد زغلول أن هذا الأستقلال بتحفظاته الأربع انما هو استقلال صوري، وان لجنة الدستور(من ثلاثين عضوا) هي لجنة الأشقياء، ومع ذلك فقد انتخب رئيسا للوزراء بعد اقرار الدستور واجراء الأنتخابات، ورغم أن (الدستور) اعتبر (منحه من الملك فؤاد) نظرا للصلاحيات الكثيرة التي وردت به للملك، وفي المقدمة منها حل البرلمان. تغير لقب الحاكم من (الخديوي) في عهد الأمبراطورية العثمانية، الى السلطان بعد اعلان الحماية البريطانية الى الملك في ظل دستور عام 1923.

نتائج ثورة 1919

اولا : ظهور الدولة المصرية بعد ان كانت ولاية عثمانية ومحمية بريطانية، وان كانت ذات سيادة منقوصة بالتحفظات الاربعة، ووجود القوات البريطانية على ارضها دون اي سند شرعي، حتى ابرام معاهدة 1936 التي نظمت وجود القوات البريطانية وأعطتها الشرعية بهذه المعاهدة.

ثانيا : تم تشكيل لجنة لوضع الدستور عام 1923 من ثلاثين عضوا كان من اعضائها خمسة من المسيحيين ويهودي واحد وهو (يوسف أصلان قطاوي)، وقد اتفق الجميع على أن (دين الدولة هو الأسلام). ورغم ان الدستور بدأ برفض سياسي من بعض الاحزاب الا انه انتهى بتوافق وطني.

ثالثا: ظل الكفاح المصري متواصلا من اجل الاستقلال الكامل، كما ظل الدستور محل عدوان مستمر، فقد تم الغاؤه عام 1930، في وزارة اسماعيل صدقي، وجرى وضع دستور جديد باسم(دستور30) وقد تضمنت عملية الأنتخابات في بنوده أن تكون (على درجتين)، ثم تم الغاء هذا الدستور عام 1931، وظلت مصر بلا دستور يحتكم اليه، وصدر تصريح وزير خارجية بريطانيا صمويل هور عام 1935 بعدم العودة الى اي دستور منهما فقد وضح عدم صلاحية الأول وهو دستور 1923، وفساد الدستور الثاني وهو دستور 1930، وترتب على هذا التصريح اندلاع مظاهرات صاخبة، تندد بالأستعمار البريطاني وعدوانه على استقلال البلاد، ومن ثم تم استدراك الأمر، بالعودة الى دستور عام 1923.

رابعا: نظرا للعدوان الدائم الذي مارسه القصر الملكي على الدستور، فان حزب الأغلبية وهو حزب

(الوفد) لم يتمكن من الحكم في الفترة من عام 1923 (عام صدور الدستور) الى عام 1952 (قيام ثورة 23 يوليو) أي خلال ما يقرب من 29 عاما سوى 6 سنوات وعدة شهور، وتفردت حكومات الأقلية بالحكم بتكليف من الملك

خامسا – بدأت مرحلة جديدة في نظام الحكم (في ظل استقلال غير كامل، ودستور مخترق بحكم الصلاحيات المتعددة التي اعطيت للملك) عرفت بالمرحلة (الليبرالية) انعكست ظلالها على الحياة السياسية والأقتصلدية والثقافية

المرحلة الليبرالية

* على الجانب السياسي: هناك نظام برلماني، وأحزاب متعددة، وتشكل لأول مرة الحزب الشيوعي المصري عام 1921، حتى وان كان بشكل سري، وتشكلت جماعة الأخوان المسلمين عام 1928 في مدينة الاسماعيلي، وانشق حوب الوفد وخرج من احشائه (الحزب السعدي) بقيادة احمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي وحزب (الكتلة الوفديه) بقيادة مكرم عبيد، ثم تشكلت حركة (مصر الفتاة) وتحولت الى (الحزب الأشتراكي) بقيادة أحمد حسين وابراهيم شكري، وظهرت حركة نشطة في الصحافة الحزبية والخاصة مثل روزا اليوسف، والجمهور المصري. وغيرها

* الجانب الأقتصادي ظهرت قفزة في عمليات الأستثمار خاصة بعد انشاء البنوك وخاصة (بنك مصر)

وبروز رجل الأقتصاد المصري الشهير (طلعت حرب) وقد اقام العديد من مصانع للنسيج وأنشأ شركة مصر الطيران وصناعة السينما من خلال (استديو مصر) والمستحضرات الطبية وغير ذلك من الشركات الصناعية. واستصلاح الاراضي، ولكن في النهاية كانت طبقة الباشوات أو الأقطاعية هي التي حصدت المكاسب النسبية التي حققتها ثورة 19 وفي مقدمتها الحكم والتشريع.

الجانب الثقافي ظهرت حركة ثقافية وفنية وأدبية كان فرسانها الكبار طه حسين وعباس محمود العقاد وابراهيم المازني واحمد حسن الزيات، كما عرفت مصر السينما من خلال فنانون كبار وظهر يوسف وهبي ونجيب الريحاني وعلي الكسار وفاطمة رشدي وازدهرت فنون الموسيقى والغناء فظهر سيد درويش وعبدالوهاب وام كلثوم ومحمد القصبجي وزكريا احمد والنحات محمود مختار.

المجتمع المصري وحاجته الى ثورة اخرى

كانت كانت قيادة ثورة 1919 قيادة اقطاعية، تنتمي لطبقة الباشوات، ولذلك فان المكاسب المحدودة التي حققتها الثورة ودعامتاها (الأستقلال المتحفظ عليه) بشروطه الأربع و(الدستور الذي اعد منحة من الملك) وليس ملكا للشعب، أثرا كبيرا في اهدار حقوق الشعب في التغيير الأجتماعي، ونتذكر من خطب عبدالعزيز فهمي باشا وهو أحد القادة الكبار للثورة أنه قال (لا يطرب سمعي سوى صوت مصري يهتف يحيا الوطن دون أن يكون له هدف أن يتغيرحاله) وكأنما حب الأوطان حب رومانسي، وليس لأن الوطن يحفظ كرامة الوطن وكبرياؤه في العيش الكريم، لقد ورثت الطبقة القائدة للثورة الحكم والثروة، ولذلك كانت الملكية الزراعية وهي النشاط الأقتصادي الغالب ملكا لمجتمع النصف في المائة. ولذلك انتشر الفقر والعوز، الى الحد الذي أصبح فيه شعار(مكافحة الحفاء) هو المشروع القومي للحكومات المتعاقبة من ثورة 1919 حتى ثورة (1952). كان الثالوث الحاكم لحركة المجتمع المصري بعد الثورة العارمة التي شاركت فيها كل قوى الشعب، وكان وقودها دماء الفلاحين والعمال وكل الفئات الفقيرة المهمشة، ان تنتهي الثورة وهم (عرايا وحفاة). كان الثالوث المعلن لكل الحكومات والمفترض مواجهته هو (الفقر والجهل والمرض)، ولم تفشل الحكومات المتعاقبة في علاجه فقط، وانما تفاقمت المشاكل، وأصبح الأمر في النهاية يتطلب قيام ثورة جديدة، ليست فقط في مواجهة المحتل الغاصب وتحقيق الأستقلال، ولكن ايضا في مواجهة الطبقات الأقطاعية وتحقيق العدل الأجتماعي. وبمعنى آخر كانت البلاد في حاجة الى ثورة سياسية، وأيضا الى ثورة اجتماعية، تعالج من خلالهما الخلل والقصور الذي لحق بثورة 1919، وتثأر للدماء التي خضبت أرض الوادي، وذهبت دون أن ترى فجرا يشرق بعد ثورة مجيدة بذلت فيها تضحياتها الجسام، وتمهد الأرض من جديد لأجيال جديدة، تتطلع الى غد مختلف.