لبنان على »كف عفريت« الدولة الفاشلة: المطلوب اصلاحات سريعة لاستعادة التوازن

بيروت – غسان الحبال

البلد يعيش أسوأ مرحلة في تاريخه: السيادة منتهكة، المال العام يتم نهبه على يد مافيا لا تتورع عن السرقة حتى لو لم يعد هناك القليل لسرقته.

موقع لبنان العربي والدولي يهتز ويكاد يسقط، بسبب دويلة السلاح التي استنزفت صورة الدولة وحولتها الى دولة فاشلة على كل الصعد.

الكلام هو لوزير العدل اللبناني السابق أشرف ريفي، وخطورته تكمن في الإيحاء بأن مصير لبنان، دولة وشعبا، أصبح في مهب رياح تفوح منها رائحة الفساد ووسط دوامة من الكلام الكثير حول مكافحة الفساد، حيث يطرح الوزير ريفي جملة تساؤلات هي بمثابة من يدق ناقوس الخطر فيقول:

»أي دولة هذه يحاكم فيها كبار الفاسدين صغارهم، منصبين انفسهم قضاة في محكمة الفساد وهم المدانون بسلوكهم وفضائحهم وصفقاتهم.

أي دولة هذه، تتعطل مرافقها الحيوية وتنهار على وقع النهب المنظم.

أي دولة هذه يصل حجم القطاع العام فيها الى مستويات قياسية بسبب التوظيف الانتخابي الذي هو الوجه الآخر لاسترهان الناس وكرامتهم ولقمة عيشهم.

أي دولة هذه يستمر فيها النهب على وقع الإفلاس، فلا خجل امام الدول المانحة التي تراقب، ولا خشية من مواطن خدروه بالطائفية والزبائنية«.

أما السؤال المصيري فيدور حول صدقية هذا الكلام التحذيري وعما اذا كان يحمل مؤشرات ووقائع تبرر قوله، أم أنه مجرد كلام يصب في خانة النزاع السياسي والحملات الإعلامية المتبادلة بين أطراف الصراع في لبنان؟

مسيرة البعث .. سيادة منتهكة

للأسف هناك الكثير من المؤشرات والوقائع التي تقول بأن »البلد على كف عفريت« وآخرها يتمثل بالتظاهرة السيارة التي نظمها حزب البعث بمناسبة ذكرى تأسيسه، والتي إنما أكدت على أن السيادة اللبنانية منتهكة.

ربما كان من البديهي أن يحتفل البعثيون في لبنان بذكرى تأسيس حزب البعث في السابع من شهر نيسان/ابريل الماضي، ولكن ما لم يكن بديهيا ولا بريئا أو عفويا، مسيرة الحافلات والسيارات التي كانت متوجّهة إلى الاحتفال والمحملة بالسوريين الرافعين لصور بشار الأسد وأعلام النظام السوري في بيروت، والمسيرة لم تكن مجرد عملية نقل لمشاركين في احتفال سياسي وفقاً للمسارات التي سلكتها، بقدر ما كانت رسالة سياسية لمن يعنيه الأمر. فطريق موقع الاحتفال لا دخل لها بطرقات الجميزة، والاشرفية، ووسط بيروت، مروراً بضريح الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ومسجد الأمين، وكان واضحا أن المنظمين لها يهدفون للقول ان بيروت أسدية، أو عادت أسدية وإن كان الخروج منها عام 2005 عبر الوحدات العسكرية والاستخباراتية فإن العودة اليها عام 2018 وبشكل علني يأتي عبر السرايا البعثية من بيئة النازحين، أو من يجلس بينهم وفقاً لأجندات سياسية وربما لاحقاً أمنية.

وكان من البديهي أن تحمل هذه التظاهرة الاستفزازية جملة من الأسئلة والتساؤلات التي أطلقت بصوت عال:

ـ من الذي وجّه هذه الحافلات والسيارات في هذه الطريق، علماً أنه كان بالإمكان سلوك طرقات أقصر وأسرع؟

ـ هل كان هدف هذا الموكب استفزاز أهالي الأشرفية وصولاً إلى الفتنة؟

ـ هل كان الهدف استعادة ذكرى البوسطة، هذا الحادث الدموي الذي جرى في 13 نيسان 1975 والذي شكل شرارة لاندلاع الحرب الأهلية في لبنان؟

ـ هل يسمح للسوريين المعارضين وهم لاجئون حقيقيون ان يقوموا بمسيرات تدعم المعارضة او تدعو الى اسقاط النظام؟

ـ أين موقف نواب بيروت من هذه التحركات المستفزة للبيارتة؟

إذا فسد الملح.. فبماذا يملح؟

الأكثر خطورة كان ما شهده مؤخرا ملف الفساد لجهة الكشف عن أكثر من فضيحة رشاوى في قطاع القضاء الذي يفترض فيه أن يحمي الدولة من كل فساد، الأمر الذي استدعى تدخل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون شخصيا، لوقف التدخلات للتغطية على بعض القضاة الذين تحوم حولهم شبهات الرشوة.

ومنذ بدء أزمة القضاء شهد قصر بعبدا حالة استنفار غير مرئية، ومشاركة فعالة في ملاحقة الفاسدين. ولا يكاد يمضي يوم إلّا ويتواصل الرئيس عون مع المعنيين في ملف الفساد القضائي، حيث يقول مصدر إعلامي في القصر الجمهوري أن »هناك قضاة أوقفوا وقضاة شطبوا من جدول المناوبة، وآخرون يخضعون للتحقيق. لن يسعدنا يوماً أن نرى قاضياً وراء القضبان، ولكن لن نحول دون هذا، مهما كان، إن استأهل العقاب«.

وتظهر التوجهات السياسية لبعض القضاة الموقوفين الذين أحيلوا الى المجلس التأديبي، أو من شطِبوا من جدول المناوبة، أو حتى من يخضعون للتحقيق في التفتيش القضائي، أنّ الغطاء السياسي الذي طالما توافر للقضاة، وتحديداً أولئك الذين تحوم حولهم الشبهات، أصبح مرفوعا من دون تقدير المدى الذي ستذهب اليه التحقيقات في كشف الرؤوس الكبيرة الفاسدة داخل السلك القضائي ومحاسبتها.

وفي إحدى محطات التحقيقات شهد ملف مكافحة الفساد القضائي تطورا خطيرا، حين انفجر صراع غير مسبوق بين مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس وشعبة المعلومات في قوى الامن الداخلي، حيث ادعى جرمانوس على شعبة المعلومات بجرم تسريب تحقيقات أولية وتحويرها وتشويه وقائع واحتجاز أشخاص قيد التوقيف خارج المهل القانونية بأسابيع وتمرد على سلطته، وبات الادعاء في عهدة المحقق العسكري الاول لمتابعته.

وجاءت هذه التطورات على خلفية تحقيق أجراه فرع المعلومات مع المدعو جو ع. (أشهر الموقوفين في قضايا الفساد القضائي)، والذي كان يزعم أنه »مدير العلاقات العامة لدى مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بيتر جرمانوس«، ويبدو أن الأمر أزعج جرمانوس الذي كان قد طلب جو للتحقيق فاستمهله فرع المعلومات، فما كان منه إلا أن اعتبر الخطوة تعد على صلاحياته وبادر إلى الادعاء على فرع المعلومات ككل وليس على أفراد محددين فيه.

أما ما يدعو إلى التساؤلات حول هذا الخلاف بين جهاز قضائي وآخر أمني، فيكمن في كشفه وجود خطر يحدق بمسار مكافحة الفساد في أجهزة وزارة العدل، ووقف التحقيق واقتصاره على أربعة قضاة جرى كفّ أيديهم، وعلى توقيف عدد من المساعدين القضائيين والسماسرة، فيما الشبهات تحوم حول أكثر من عشرة قضاة على الأقل، لأن ذلك سيعني أن المسار تعرّض للعرقلة.

اللبنانيون مكشوفون صحيًّا..!

ماذا عن حقيقة التهديدات بتوقف عمل المرافق الحيوية على وقع الحديث عن إمكانية إفلاس الدولة؟

ربما يكون وزير الصحة العامة جميل جبق قد أشار إلى هذه التهديدات بشكل غير مباشر خلال جولته الاستهلاكية التي شملت المرافق الرئيسة للقطاع الصحي في كل لبنان، وذلك حين كشف عن أرقام مخيفة حول عدد اللبنانيين الذين لا يشملهم الضمان الاجتماعي، الأمر الذي يستدعي التوقف عنده في ظل وقائع سلبية أبرزها العجز المستدام في خزينة الدولة، فضلا عن الوقائع الآتية:

ـ غياب الرعاية الصحية اللائقة لمليون و800 ألف لبناني، أي ما يوازي ثلث أعداد اللبنانيين المقيمين فوق الأراضي اللبنانية.

ـ غياب خطة صحية وطنية شاملة.

ـ تردّي نوعية الخدمات الجيدة أو المقبولة التي تقدّمها المستشفيات الحكومية، التي تحتاج إلى عمليات تطوير واسعة، سواء لجهة الكادر البشري المشرف عليها، أو من حيث التجهيزات الضرورية، أو لجهة إفتقاد المباني للصيانة الدورية.

هذه الحقائق الجارحة تفتح باب الصحة العامة على مصراعيه، خصوصًا أن موازنة الوزارة، التي هي في الأساس من بين الموازنات الأكبر، لا تستطيع تلبية حاجات المواطنين غير المشمولين بالضمان الصحي، وكان سبق لأكثر من وزير تولى وزارة الصحة أن طرح ضرورة تأمين البطاقة الصحية لجميع المواطنين، بحيث تشمل الرعاية الصحية المجانية الجميع، بعد إعادة النظر طبعا بتركيبة المستشفيات الحكومية التي يفترض بها أن تضاهي بخدماتها الصحية المستشفيات الخاصة.

الخلاصة، أنه بات من المعيب اليوم ألا تكون العناية الصحية بنوعية جيدة هي الأساس في تعميم ثقافة العدالة الإجتماعية، إذ لم يعد مقبولًا بعد اليوم أن يموت مريض على أبواب المستشفيات لأنه فقير وغير مشمول بالرعاية الإستشفائية الضرورية.

رواتب النواب والوزراء

الحديث عن تخلف المرافق الحكومية وعن التهديدات بإفلاس الدولة، يدفعنا حكما إلى إثارة قضية الهدر في المال العام والتوظيف العشوائي تلبية لمبدأ المحاصصة.

في لبنان يتقاضى رئيس الجمهورية نحو 8300 دولار شهريا فيما يتقاضى كل من رئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة 7883 دولارا ويصل راتب النائب لحدود 7400 دولار، علما بأن مخصصات وتعويضات السلطات العامة لم تدخل عليها أي زيادة منذ العام 1998، لكن المشكلة التي تشكل عبئا ماليا حقيقيا على الخزينة اللبنانية تكمن في مخصصات وتعويضات الرؤساء والنواب السابقين. إذ يصل مجموع ما يتقاضاه الرؤساء والنواب السابقون وعائلات المتوفين منهم نحو 20 مليون دولار سنويا، ويستفيد من هذه المخصصات والتعويضات 210 رؤساء ونواب سابقين و104 من عائلات رؤساء أو نواب متوفين.

من هنا كان منطقيا طرح وزير المال علي حسن خليل اقتراح حسم خمسين في المائة من رواتب النواب والوزراء لخفض العجز في الموازنة، إلا أن الأمر لم يمر مرور الكرام، وكان أن انقسم النواب والوزراء حوله بين معارض وموافق، وفيما رحب قسم منهم بالموضوع وكان سباقا في طرح اقتراحات قوانين في هذا المجال، اعتبر آخرون أن الموضوع بحاجة إلى مزيد من الدرس »لأننا بذلك نكون نحصر النيابة والوزارة بأصحاب رؤوس الأموال«.

رئيس حزب »الكتائب« النائب سامي الجميل بادر إلى إثارة جانب حيوي آخر من الموضوع حين تقدم باقتراح قانون لإلغاء تعويضات النواب السابقين مدى الحياة، إذ بدل حصول النائب السابق على راتب كامل لمدى الحياة، يقضي الاقتراح المقدّم بأن يحصل النائب على 75 في المائة من الراتب لسنة واحدة فقط، وبعدها يتوقّف راتبه. كما تقدمت النائبة بولا يعقوبيان بـ3 اقتراحات يقضي الأول بإدخال تعديلات على مخصصات الوزراء والنواب بما يتناسب مع مستوى المعيشة والأوضاع الاقتصادية والمالية، فيما يتضمن الثاني حسم مبالغ مالية في حال التغيب عن الجلسات التشريعية، ويلحظ الاقتراح الثالث خفض مخصصات النواب والوزراء السابقين وتعويضاتهم.

أما النائب في الحزب »التقدمي الاشتراكي« بلال عبد الله فقد كان من بين من رفضوا علنا اقتراح وزير المال متسائلا: »هل المطلوب حصر النيابة والوزارة بأصحاب رؤوس الأموال والعائلات الميسورة، أم دفع الجميع للدخول إلى منظومة الفساد؟«، ولفت عبد الله إلى أن هناك أكثر من 500 وظيفة في القطاع العام يتقاضى الذين يشغلونها رواتب تفوق رواتب النواب.

وبالفعل فإن الإحصاءات الرسمية تشير إلى وجود 120 موظفا في مؤسسات عامة يتقاضون رواتب تفوق رواتب النواب، ويعمل هؤلاء في: مصرف لبنان، الكازينو، قطاع البترول، مجلس الإنماء والإعمار، المرفأ، مؤسسة اوجيرو وشركة »طيران الشرق الأوسط«.

ويُعتبر حاكم مصرف لبنان الموظف الذي يتقاضى أعلى راتب في القطاع العام، إذ يبلغ راتبه الشهري أكثر من 26 ألفا و600 دولار أميركي، كما أنه يقبض عن كل سنة 16 شهرا، إضافة على حصوله عن كل يوم سفر على ألف دولار أميركي، وعلما أنه يعمل إلى جانب 4 نواب له تكاد رواتبهم تماثل راتبه.

كما تشير المستندات المالية الرسمية، إلى أن هناك سفراء للبنان في الخارج يتقاضون نحو 15 ألف دولار شهريا فضلا عن المخصصات الإضافية لطبيعة هذه الوظيفة الديبلوماسية.

هذا غيض من فيض يؤكد على أن كل المؤشرات توحي بأن لبنان بات على كف عفريت انهيار مؤسساته وإفلاسه، إذا لم يتكاتف جميع المعنيين لاستعادة ابسط واجبات الدولة والإمساك مجددا بمختلف مفاصلها السياسية والمالية والأمنية، والتمسك بقراراتها التي يفترض أن تصب دائما في المصلحة الوطنية العليا وفي المصالح العامة التي تعني المواطن، سواء تعلقت هذه القرارات بالسياسة الخارجية للدولة، أو بالحرب والسلم، أو بمؤتمر »سيدر«، أو بقطاع الكهرباء.

لقد بات من الملح اليوم أن يستعيد لبنان قراره السيادي لإنقاذ مواطنيه وناسه من نتائج الانهيار الذي يتهدد البلاد، عبر استعادة التوازن المالي والاقتصادي، وتفرغ كل مؤسسات الدولة لاجراء الإصلاحات المطلوبة بالسرعة المطلوبة.

العدد 92 – ايار 2019