بصمات الانتقام على جدار عبّارة الموصل

د. ماجد السامرائي

تتكسر الأقلام وترتجف الأنامل قبل أن تخط تراتيل الحزن على جدار عبارة الموصل الغريقة تحت أمواج الخديعة والكذب والفساد والتآمر على حياة العراقيين وأهل الموصل  حيث تتوشح خارطة العراق سوادا إجلالا لأرواح الأطفال والنساء والرجال الذين خنقتهم تحت الماء عبارة الموصل  لكي يأخذ دجلة الخالد نصيبه من الكارثة بعد أن كان رمزاً للحياة والربيع ليتحول الى شاهد من شهود حلقات الموت المدّبرفي العراق والموصل خاصة  ولعل من موروثات وتقاليد المجتمع إن المكلوم الحزين الذي يعلن الحداد على من فقده ويفتح باب مجلسه لاستقبال وملاقاة المعزين لا يترك مجلسه قبل إنتهاء مراسم التعزية  والعراق أعلن الحداد لثلاثة أيام وكان من الأجدر ألا يسافر رئيس وزرائه خارج البلد قبل إنقضائها  وكان على مستشاريه تنبيهه رغم اعتذاره العلني بذلك. الموصل هذه المدينة أراد لها الغرباء الحاقدون أن تلعق سموم الذل والخنوع  وأن تتجرع الموت اليومي لأن موتاً واحداً أهون عليها بكثير  لقد ظلت منارتها رمزاً لعدم السقوط حتى جاء الغرباء فمسحوا هذه الرمزية الخالدة لكنها ستعود مجدداً بالتفاتة كريمة من الخيرين في الإمارات العربية  وسترتفع مجدداً بشموخها. ورغم حجم هذه الكارثة الانسانية إلا أن ردود الفعل الرسمية بطيئة ما عدا التقاط صور لرئيسي الجمهورية والوزراء أمام مسرح الكارثة الجريمة  التي يختفي خلفها اخطبوط الفساد الذي تغلغل في جميع شرايين أجهزة الحكومة. وتسربت الكثير من الأخبار عن المستثمرين وصاحب مشروع المدينة السياحية وعن التعطيل الفني المتعمد في إجراءات الوقاية الأمنية لتلك العبارة التي تم صنعها بحسب الفنيين قبل مائتي عام  أو من حيث معرفة كثافة المياه في دجلة خلال فترة الفيضان التي لا تسمح  »لعبارة« قديمة أن تحمل (280) راكباً بضعف حجم تحملها مما ادى الى هذه الكارثة  ويختفي خلف هذه الكارثة مسلسل الحقد على أهل الموصل مثلما هو ذات الحقد على أهل البصرة وبغداد وغيرها من مدن العراق.

إعادة التذكير بتاريخ هذه المدينة وصمودها ومواجهتها للحصارات لا يشكل تكراراً لأنها مثال للأجيال الحالية والمقبلة لكي لا تختلط عليهم الصور بسبب كثافة التعتيم الذي يلقى من المزورين والمحرّفين. فقصة حصار (نادر شاه) للموصل ليست ببعيدة فقد حدثت عام (1743 م) حيث سجلت وقائع التاريخ وشهوده ملاحم نادرة لصمود أهل الموصل بوجه الحصار والغزو بأكثر من (300 ألف مقاتل فارسي) حيث منعهم أهل الموصل من النفوذ الى داخل مدينتهم ومن ثم عبورهم نحو الشام ومصر  فالفرس كانوا يعتبرون إن الموصل هي مفتاحهم نحو البحر المتوسط. وحين قُرأت على أهل الموصل المحاصرين رسالة القائد  »نادر شاه« بضرورة الاستسلام أجابوا بأنهم مستعدون للقتال ولو كلفهم ذلك أراقة دمائهم جميعاً في سبيل عزة مدينتهم ووطنهم  وكانت ملحمة شهد لها التاريخ في الصمود حيث أُمطرت الموصل بالمدفعية الثقيلة لمدة ثمانية أيام متواصلة  وتم سحق هجوم  »نادر شاه« على المدينة مما أضطره الى الهزيمة. ولأن نظام ولي الفقيه الحالي هو وريث تلك العنجهية والكراهية  فهو يعتقد بأن الموصل أنجبت خيرة الضباط والمقاتاين الى جانب اخوتهم من أهل الجنوب الذين قاتلوا ببسالة دفاعاُ عن وطنهم خلال الحرب العراقية الإيرانية. فلا بد أن تتلقى هذه المدينة وفي هذه الفرصة التاريخية فصولاً من التدمير والإذلال إنتقاماً  »لنادر شاه« مثلما يتم الانتقام من أهل البصرة ومدن الجنوب المحاذية لإيران في قطع المياه عنهم. وحكاية الموت الكبير في سقوط الموصل بأيدي  »الدواعش« ثم  »الغرباء« لم يتم طويها  فما زالت الأجساد لأطفال ونساء ورجال موصليين راقدة تحت أنقاض القنابل اللئيمة التي أرادت تأديب اهل الموصل وليس مطاردة فلول  »داعش« ولا مغيث لذوي هؤلاء الشهداء لأن جوقة الفساد فتشّت في ملفاتها فلم تجد ورقة تلعبها في ملف  »فاجعة الموصل« لتمرير الصفقات والمصالح  بل إن جميع الأطراف الكبيرة والصغيرة النافذة والتابعة متوافقة على سحق كبرياء هذه المدينة منذ عام 2003 وحتى 2014  وما يمكن أن يحصل كنتائج عرضية لكارثة  »العبارة« هو محاولة إحياء لبعض الوجوه الرتيبة لبعض متعاطي السياسة ومتسولي الجاه عن طريق ظهورهم  »كندّابين« أو  »قارئي مواكب« يلوكون الأكاذيب على مسامع المفجوعين من أهل العراق ومحبيهم من العرب والمسلمين على الفضائيات لعلهم يقبضون الأثمان الرخيصة أو قد يستذكرهم أولياء الباب العالي غير مدركين بأن العقاب القادم من طهران لا ينال أهل الفجيعة فقط وإنما مرثيها أيضاً. ولأن الموصل هي رأس العراق وموطن  »جيش يزيد« فكان لا بدّ من وضعها تحت رحمة أنواع رذيلة من  »الهولاكيين« الجدد الذين أصروا على إبقاء  »المنائح« مفتوحة خاصة في أحياء الموصل القديمة ومركزها الطافح بعبق تاريخ الصمود والمقاومة في  »باب الطوب« و »النبي يونس« وغيرها وحين وجدوا إن الشعب الموصلي حي وقوّي ولم ترّكعه حملات  »داعش« وآبائها وامهاتها ومربيها ورعاتها  كان لا بدّ من تسليط  »أخطبوط« الفساد ليلتف على عنقها بأساليب لا تخطر على بال  فهناك كلام يدور على أطراف كارثة  »العبارة المشؤومة« بأن المدينة السياحية التي يتم نقل الموصليين إليها في أوائل أيام الربيع الحالي والتي استحدث بناؤها على ضفاف دجلة في الموصل يدير استثمارها أشخاص بينهم من لديهم نفوذ داخل الأحزاب الحاكمة بالإضافة الى فساد الحكومة المحلية ومحافظها. هنالك وهم شائع ومتوارث لدى جميع الطامعين والمحتلين بأن قتل وتجويع الشعوب وتهديم منازلهم وإهانة كرامات هامات رجالهم وتحطيم رموزهم وترويع أطفالهم ونسائهم قد يسّهل تنفيذ المرامي الخبيثة  ولكن دائماً ما تقدم الشعوب روايات أسطورية في الصبر والمجالدة  وتحويل مشاهد الكوارث المؤلمة الحزينة الى عناونين للصمود والغلبة. إن  »شفرة« بصمات جدار عبّارة الموصل هي الأحقاد والانتقام وكراهية أهل العراق وخيانة قيم الإنسانية.

العدد 92 – ايار 2019