فرص عودة  »داعش« للعراق بثوب جديد

د. ماجد السامرائي

برزت سينوريوهات عدة حول مستقبل العراق بعد النهاية العسكرية لداعش نهاية عام 2017 بمعارك متواصة قادها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبدماء وتضحيات الشباب العراقي داخل القوات المسلحة أو المتطوعين تلبية لنداء وفتوى المرجع الشيعي في النجف (علي السيستاني) أبرز تلك السينوريوهات تحدثت حول احتمالات تفكيك العراق وحتى تقسيمه وفقاً لنظريات الاستراتيجيين الأمريكيين وأبرزهم (هنري كسينجر) الذي طالب عام 2008 بتقسيم العراق على غرار ما حصل في أعقاب حرب يوغسلافيا  وسيناريو تقسيم العراق لم يبتدئ تارخيا عام 1982 فقط وإنما امتد للسنوات الثلاثين التالية ولحد اليوم. سبق ل(يينون)الاسرائيلي أن روج لمشروعه عام 1982 ووصفه  »بأنه الطريقة الوحيدة التي قد يتمكن بها شعبٌ صغير مثل الشعب اليهودي من حكم مساحة تمتد من النيل للفرات ذلك حينما تكون لكل طائفة دولة«، فوجود دولة يهودية يصبح مبررًا تمامًا  ولا شك إن مشاريع التقسيم والفدرلة تنتعش وكذلك تصاعد المنظمات الارهابية في ظل بيئة العنف والاضطهاد الطائفي والعجز عن تحقيق الخدمات للمواطنين وانتشار الفساد. لقد عزز احتلال  »داعش« للمحافظات الغربية من العراق المشاريع الطائفية في العزلة الطائفية والقومية  وكان لهذا التظيم دوره في تبلور مشاريع العزل  كان تنظيم  »داعش« الارهابي يوهم العرب السنة بأن مستقبلهم الحقيقي في ظل دولته  »الخلافة الاسلامية« التي رسمت خطوطاً جغرافية طائفية امتدت ما بين الأنبار وصلاح الدين والموصل والرقة السورية في الوقت الذي كان يقتل فيه أبناء العرب السنة المخالفين له. كان هذا الايهام يتطابق مع دعوات  »التقسيم« الطائفي التي راجت خلال الثلاثين سنة الماضية  مزيداً من الحروب الطائفية لتعزيز فكرة الانفصال. كان هذا التنظيم كاذبا ولو كانت دعواته صادقة لوفر لأهل الموصل وتكريت والانبار وديالي والحويجة الأمن والطمأنينة لكي يعطي التبرير لولاء العرب السنة الذين وجدوا أنفسهم بين فكي (اضطهاد أهل الحكم وداعش) ويبقى هذا السيناريو التقسيمي خامداً تحت الرماد لحين توفر الفرص الجيوسياسية في إطار ما يخطط وينفذ لعموم المنطقة وأبرزها سوريا. كان السيناريو الايجابي الأكثر ملاءمة للحالة العراقية هو انحسار دور الطائفية السياسية وتراجع شعاراتها وبرامجها ضد طائفة دون أخرى لفسح المجال أمام مشروع الاصلاح السياسي في ظل ذات النظام السياسي القائم  لكن ما حصل في انتخابات عام 2018 أكد بأن تغوّل الأحزاب الدينية الطائفية عميقا في مفاصل الأجهزة الحكومية والمنظمات الشعبية الخاضعة لها  ولهذا تم تدوير مواقع تلك الأحزاب وهيمنتها مما قلل من فرص قيام نهضة سياسية وعمرانية في المحافظات التي دمرتها الحرب على  »داعش« وعموم العراق  ولم يتمكن غالبية أهالي تلك المحافظات المنكوبة من العودة الى منازلهم المدّمرة  ومن عادوا خصوصاً في الموصل واجهوا مشاهد الكارثة الانسانية الكبرى التي تفوق كارثة (هيروشيما) كما إن هيمنة بعض الفصائل المسلحة في هذه المحافظات قد وضعت المعوقات أمام تفير الحد الأدنى من الأمن والاستقرار  بل برزت الكثير من حالات الاستيلاء على الدور والأراضي من أصحابها بالقوة. والأخطر من ذلك كله هو إن العوامل والعناصر الجيوسياسية التي وفرت المناخ لقيام التنظيم الارهابي  »داعش« في تلك الحواضن الاجتماعية لم يتم القضاء عليها  ولهذا أصبح الحديث عن عودة  »داعش« يملأ صفحات الصحف والقنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي  لدرجة قيام فلول هذا التنظيم ببعض العمليات الارهابية في مدينة الموصل إضافة الى غربي الأنبار  مما أدى الى تراجع البيانات عالية النبرة بنهاية  »داعش« في العراق وسوريا خصوصاً بعد إعلان الرئيس الأمريكي (ترامب) بسحب قواته من سوريا وتحويلها الى العراق وسط تخوفات داخل المؤسسات الاستشارية الأمريكية من احتمالات عودة  »داعش« بثوب جديد  رافقتها تخوفات من الدول الغربية وخاصة (فرنسا). ومحلياً داخل العراق تصاعدت المخاوف ذاتها خصوصاً في الموصل الذبيحة التي واجهت الإرهاب والفساد في حزمة قاتلة واحدة. وقد صرّح السياسي الموصلي (أسامة النجيفي) بأن  »التطرف بدأ ينشط في الموصل التي شبهها بـالرمال المتحركة معللاً ذلك بـسياسات الدولة الانحيازية تجاه طرف دون آخر«. هناك نصف مليون نازح موصلي يقبعون في المخيمات الرديئة الخدمات وهي تشكل بؤرة لعودة نشاط  »داعش«. كما لم يلمس أهالي هذه المدينة أي إهتمام حكومي بإعادة الاعمار وأية مكانة تتناسب وحجمها داخل ميزانية عام 2019. وتبقى الموصل في ظل هذا الإهمال والفساد الإداري وسوء معاملة المواطنين وهي ذاتها العوامل المباشرة التي ساعدت على سيطرة  »داعش« عام 2014  ولعل المثال الأخير بهروب المحافظ وطاقمه بعد صدور أوامر إلقاء القبض عليه بعد كارثة  »العبارة« خير مثال على ذلك. والموصل هي أكثر المدن العراقية الأخرى كالأنبار وصلاح الدين وديالى في احتمالية عودة نشاط  »داعش« فيها. صحيح إن  »داعش« لم يعد تنظيماً يسيطر على مدن كبيرة  لكن لديه قدرات على استحداث أساليب جديدة في العمل ويمكنه أن يتسلل مجدداً الى الحواضن الاجتماعية إذا ما ظلت فيها الأمور على حالها أو تزيد. ويكاد يجمع سياسيوا العراق في الحكم على ترديد هذه المخاوف لكن الكرة هي في ملعب الحكومة لكي تمنح الناس جرعات من الإطمئنان ولكن هذا لم يحصل وبدلا من ذلك تنشغل دوائر الأحزب والسلطة بقضية تواجد القوات الأمريكية في العراق وسط سعي من بعض الأحزاب الموالية لإيران لاستصدار تشريع إخراجها من العراق تلبية لرغبات طهرن التي توجه رسائل عدة لواشنطن بأن لديها أذرعها داخل العراق التي بإمكانها إزعاجها. ولو أدركت تلك الأحزاب خطورة الأوضاع العراقية لتعاملت مع هذا الملف باستقلالية ووفق المصالح العراقية العليا ألم تكن القوات الأمريكية هي التي جلبت هؤلاء السياسيين عام 2003 ودافعوا عن بقاء الاحتلال لثماني سنوات في أوقات قاومهم الشعب بالسلاح لحين ما قوى عود تلك الأحزاب بفضل الرعاية الإيرانية يطالبون اليوم أمريكا بالرحيل بعد أن أنجزت مع دول التحالف المهمة الكبيرة في طرد  »دولة داعش« من العراق  وما زالت مخاطر  »داعش« قائمة. وهذه هي الازدواجية السياسية على حساب مصالح العراق العليا. ليس مستغرباً أن يعود  »داعش« مرة أخرى ولو بثوب جديد أو ولادة لتنظيم إرهابي جديد طالما يتوفر الرحم الناتج لمثل هذه الكيانات الإرهابية  وكان الله في عون شعب العراق الصابر.

العدد 92 – ايار 2019