تبدّل القيم

د. جان نعوم طنّوس

هل تبدّلت القيم في المجتمع اللبناني منذ ثلاثين سنة تقريبا حتى اليوم؟ إن الملاحظة العميقة والاحتكاك اليومي ينبئان بأن ثمة تحوّلا هائلا في سيكولوجيّة السّواد الأعظم على نحو يشير إلى تدهور خطير في الاخلاق العامة، عبّر عنه الشّاعر العباسي الطغرائي بقوله:

غاض الوفاء، وفاض الغدر، وانفرجتْ

مساحة الخلْف بين القول والعملِ

ولست أقصد، في هذا المجال، حريّة الاختلاط بين الجنسين، وإنما أؤكّد أن القيم انقلبت رأسا على عقب. فقد كان القوم يتباهون بالإخلاص والتّعاون والوفاء والأمانة، إلى ما هنالك من مسلّمات لا يقوم مجتمع بدونها، وتراهم اليوم يفاخرون بنقائصهم إلى حدّ أن الاستقامة أصبحت شتيمة في رأيهم. ذلك أنّ المصائب التي تنيخ بثقلها على وطن الأرز لم تهبط من شاهق، ولكنها نتيجة حتميّة للفساد المستشري في القاعدة. وما مثل سدوم وعمورة ببعيد عن الأذهان، إضافة إلى ما حصل للقبائل البائدة كطسم وجديس وعاد وتمود، وكلها تعني شيئا واحدا: فساد القيم هو الذي يستجلب الكوارث لأنّ الإناء بما فيه ينضح. وقديما قال شوقي: وإنّما الأمم الأخلاق ما بقيت… «

إن هيمنة الفرديّة، ومن أسبابها انسداد الآفاق، وانعدام الحلول من فوق، تدفع المرء إلى أن يكون ذئبا يدافع عن نفسه، ضد الذئاب الأخرى. فإذا كان المجتمع عبارة عن غابةٍ يضيع في ظلماتها القانون والعرف والآداب العامة، فكيف ترجو صلاحُا من هذا التكالب المستشري على

د. جان نعوم طنوس

المال، ومن ثم شيوع الحسد والحقد والغدر والنّكايات، وكل قوم بما لديهم فرحون؟

اعتبر بالتّجمعات الصغرى كمكان العمل والمبنى الواحد تجدّ الناس فيهما غير متفقين على هدف محدّد. ويعود ذلك إلى تضخّم الفردية التي لا تطيق تعاونا مثمرا أو تنافسا شريفا. والأدعى للعجب أن جارين متلاصقين يختلفان في توافه الأمور، ولكنّهما يتردّدان إلى المعبد نفسه، من غير أن يحيي أحدهما الآخر. فأين تبخّرت التّعاليم السّامية؟ أم أنّ هنالك انفصاما خطيرا بين الإيمان والعمل الصّالح، فكأنّ هوّة كبيرة تفصل بينهما؟ وهل نحن جماعات متجاورة، غير مندمجة، تقول ما لا تفعل، وتفعل ما لا تقول؟

إنّ الفرديّة، الاسم المهذب للأنانيّة الجوفاء، هي التي تعيدنا إلى الوراء، إلى مرحلة البربريّة، حيث الكل أعداء الكل، ويكون السلام عندئذٍ سلام القبور بعد حروب أهليّة دامية، أو مشاحنات مدمرة ما أنزل بها الله من سلطان.

كان نيتشه ينبّه إلى أن انهيار الحضارة ناشئ عن تبدّل القيم وسيادة العبوديّة الداخليّة. وبقطع النّظر عن شطط هذا الفيلسوف فلا ريب أن القيم الأخلاقيّة والتي تنصّ عليها الأديان، عامل أساسي وحاسم في تكوين اللحمة الاجتماعيّة والوطنيّة. فما الذي يجمع الجماعات اللبنانيّة المتصارعة متى غابت هذه اللحمة، وبات كل امرئ يعزف على وتر أنانيّته الضّيّقة؟ إنّما الوطن أنانيّة كبرى تجمع الكل تحت جناحيها، فإذا تفتّتت إلى أنانيّات متشاتمة، أو متقاتلة، فلا يبقى منه إلّا البؤس والخراب.

لا تزال في الوسط اللبناني خميرة خير، وطليعة تجدّد، والواجب أن نعزّز الاستعدادات الطّيّبة لتتغلب على نوازع الأثرة والكراهية. على أن هذه الخميرة مغلوبة على أمرها، في خضم هذا الهيجان الكبير. فإن ظلّت الحال كما هي، فلا يستبعد أن يتفاقم الوضع، فنشعر، بعد مدة طويلة أو قصيرة، أننا على قارعة الطّريق بعدما فاتنا قطار الحضارة وسط معترك الأمم المتنافسة في هذا الكون الرّحيب.