رُهاب المتاهات المستمرّة

فيصل طالب

لماذا القلق في شعر بدر شاكر السيّاب ؟ وهل أفلت شاعر من براثن القلق المؤرّق، ما دامت المعاناة أصلا لكل إبداع؟

ألم يقل أمير الشعر العربي أبو الطيّب المتنبي:

على قلق كأنّ الريح تحتي

أوجّهها جنوبا أو شمالا

ثمّ ألم يبح عاشق فلسطين الكبير محمود درويش بقوّة الدفع الرئيسة في شعره قائلا : كل ما أردت أن أقوله قاله المتنبي في نصف بيت :  »على قلق كأنّ الريح تحتي« ؟!

غير أنّ للقلق السيابي سمة لا تشبه أيّا من سمات القلق لدى كل شعراء الأرض؛ إذ تجمّعت في نفس الشاعر عواملُ القلق المتأتيةُ من مصادرَ شخصيةٍ وعائلية واجتماعية واقتصادية وصحية وسياسية بشكل لم يسبق له مثيل، حتى بدا الشاعر كأنه أيوبُ زمانه، فكان مثالا صارخا للإنسان المعذّب الحامل صليبه في طريق الجلجلة، وكان قلقه تَبَعا لذلك المحرّكَ الرئيس لحركته الشعرية المندفعة بلهيب الألم والتمزّق بين أحلامه ومطامحه المثالية، وبين ضعف الطبيعة البشرية فيه.

لقد كانت أزْمة الشاعر، بمستوياتها كافة، جزءا من الأزمة العامة في بلاده والمنطقة، والتي تمحورت، بالإضافة إلى معطيات الأوضاع الداخلية، حول الأبعاد الكارثية والتأثيرات الإحباطية لنكبة فلسطين التي ناءت بكلكلها على الواقع العربي، وما خلّفه ذلك من تخلخل الأبنية الفوقية والتحتية للمجتمعات العربية، كان للعراق منها النصيبُ الأكثرُ ضراوة من الشروخ والنزاعات والتوترات. إنّ هواجسَ القلق المتولّدةَ من تصادم السيّاب بالحاضر المرفوض شغلته بالماضي ورموزه وعالمه النقي؛ وهذا الانشغالُ بالماضي كان يتفاقم كلّما ازداد وعيُ الشاعر بالموقف

المدير العام السابق لوزارة الثقافة فيصل طالب

القائم، فيسوقه إلى زلزال الاضطراب والانقسام النفسي الحاد الذي حال دون اتخاذه القرارالجذري المرتكز إلى صلابة في الفكر والرؤى. لقد كانت قصائد السيّاب مرآة لتجاربَ وجوديةٍ مبكرة في الأدب العربي الحديث، وإن لم يكن قلقه قلقا فلسفيا وجوديا يستند إلى مرتكزات فكرية واضحة، ما دمنا نعلم أن الشاعر قد بدّل المواقع والمواقف على مدى مسيرته الحياتية والشعرية، وهو الذي أخفق في أن يكون مفكرا ونجح في أن يكون شاعرا.

شعرية القلق هذه هي النذير العاطفي والتمثّل الحقيقي لرهاب المتاهات وعصف التحوّلات التي تجتاح الشاعر في سعيه إلى الحضور الحيّ، وهو في طريقه لاختراق الجدران السميكة للعالم الواقعي. إنها متاهات القلق برائحة الإبداع التي تفوح من جماليات النص الشعري المنسوج من تداخل المعنى واللغة والصورة والإيقاع في لوحة الدلالة الشعرية.

أيها السيدات والسادة

نحن نقلق عندما نملك وعيا بحياة أسمى من الحياة التي نحياها، ولا نفتح بصيرتنا على الأحلام، ولو شاغبتها كوابيس اليأس والإحباط، وعندما لا تستفزّنا المعاني الغائبة، ولا نرتاد الضفّة الأخرى للحياة، ولا ننتشل أنفسنا من دوار الترجّح بين الإحجام والإقدام، ولا نسرج خيل الخروج من ضباب الصمت إلى مطالع الريح الآتية من خلف جدران العبث والهذيان، ولا نفتح في سدود التقليد مسارب التجديد كي يفيض من تراكم الضجر دفقُ الحياة في بقايا الأمل. ونقلق عندما تأتي المُزْن بلا مطر، والربيع بلا زهر، والصيف بلا ثمر، وعندما نشعر بأننا نمشي بلا قدمين، وننظر بلا عينين، ونكتب بحبر التوجّع والتفجّع ولا نقرأ في كتاب الحبّ والرجاء، وعندما لا تشرق الشمس إِلَّا من خلف الدخان، ولا تفتح شجرة التين ذراعيها لأفواج العصافير بل لفؤوس الحطّابين، وعندما تتّسع أزقّة الحواشي، وتضيق ساحات المتون، ويرتفع جدار بين المبتدأ والخبر، ويختنق الفوح في قارورة العطر، ويصمت البوح في حرم الحب والجمال!

تُرى هل اختلف زمن السيّاب عن زماننا، فغادرتنا أسباب القلق، واقتربنا من آخر النفق، وبدأنا نتلمّس مسالك الخروج من متاهات الضياع والشفاء من رهابه، أم لمّا نزل نقيم على حافة الهاوية، أم سقطنا إلى قعر الغيبوبة الرهيب، أم نحن نجهد لنصدح من حنجرة مسكونة بحشرجة الأنفاس المتهدّجة في الصدور، أم نستمر في الوقوف على تخوم النبض نرسم بكائيات الوجع المنتحب على الجدران المتهالكة لـ »مدن الملح« من المحيط إلى الخليج، أم نكتفي بالصمت الصارخ في وجه الوهْن المتناسل، نحن الطاعنون بالقلق منذ صرخات الولادة؟!

هل تعلمين أيَّ حزن يبعثُ المطر

وكيف تنشج المزاريبُ إذا انهمر

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياعْ

بلا انتهاء- كالدم المُراق، كالجياعْ

كالحب، كالأطفال، كالموتى-هو المطرْ

مطر

مطر

مطر

في كل قطرة من المطر

حمراء أو صفراء من أجنّة الزهر

وكل دمعة من الجياع والعراة

وكل قطرة تُراق من دم العبيد

فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد

أو حلمة تورّدت على فم الوليد

في عالم الغد الفتي، واهب الحياة

ويهطل المطر..

 أيّها الأصدقاء.. في زمن القحط يحلم الناس بالمطر. دائما بعد القحط يهطل المطر.