الكتابة الى رجل حاضر

 بعد ثمانية وعشرين عاما من الغياب، وجدتني أقف خاشعا أمام قسمات وجهك، أستلقي على خيباتي الكثيرة، وأنت تضحك كلّما تعفّرت فرائسي خجلا من التاريخ… كان لا بدَّ أن أعلم سرَّ هذا الصمت الضاحك، والقهر المزيَّن داخلك بغربة أضفَتْ على حياتك الكثير… وكنت تعرف أن الكلام لا يجدي فيها، طالما لم نجرّب عنك تيكَ الأيام والساعات والدقائق التي شكّلت بمجملها خمسة عشر عاما من الخيبات المتلاحقة…

 في ذكراك الثامنة والعشرين، خشيت أول كذبة شهدها القرن الفارط… وكان فيها أن فلسطين هي أرض عربية بامتياز، وإن صلاح الدين سيعيد لنا مجد  »المكروبات والعقد الكثيفة« التي تحتلّ داخلنا منذ السبي البابلي، فتيمّمت خيرا بهذه القضية وأسميتَ أحد أبنائك باسمه، ظنَّا بأن القضية اشتعلت وأخذت طريقها نحو الحرية…

 كل ذلك، في محاولة منك لإبعاد فلسطين والعرب عن شبهات الماضي والخطايا العاريات، غير أن هذه المحاولة لم تكن لتخفي القلاقل والأصوات الدامية التي كانت تسأل عن مصالحها خلف أقبية الشعارات الضيقة، وداخل أقنية التنابذات والمشاحنات التي عمَّرت طويلا في نفوس المضللين بأهوائهم وغاياتهم الرخيصة…

 أبي…

 البارحة ضحك معك طفل فلسطين، حين كان نتنياهو ثاني مجرم حرب في القرن الماضي والحالي بعد  »شارون« – يقطف الكحل من عيونهم وهم في أحضان أمهاتهم، ويخطف أحلامهم على حواجز الدم الآلي، وينضّد حقده المجنون عبر بيوت العجائز والأرامل والثكالى… البارحة، كانوا جميعهم يضحكون عليّ، ويقيسون تعبهم بدم بارد فوق قضية الشجعان… كل هذا تحت شعار الحكمة والدراية والعقل الراجح… والصوت ينادي صداه… مَن منّا هو الحقيقة، أيُّنا الأصل في الأساس، لنفهم إذا كانت حرارة إيماننا زيفا وتدجيلا أو خطأ تاريخيا.. ؟

 لا أرتجي من مخاطبتك كل عام سوى استذكارك بحب، وتذكيرك ببعض ما لم أنله منك، وأنت الشارد في متونك تبحث عن بيدر تذري فيه قمحك على مَن صدَّقك الكلام ولم يصدّقك الحياة… انت هناك بفرح عارم، ونحن هنا، ببؤس شديد…

 أيُّ جنون يخرج إلينا بعد صبحك الدافئ على عتبة أحلامك، ترشف قهوة الخوف من الماثل أمامك… وأنت تحيط بكل قوة عصافيرك التي تنمو أمامك خارج أقفاص الخيبات؟!

أكنتَ لتحب أن أُمَنَّى بما اعتراك… أم أن العراك جافاك، فأنساك نعمة الحروف، ليتناقلها المدّعون كل لحظة، وراحوا يخلطون بين ما يُروى وما لا يُحسن أن يقال… حتى أحاسيسهم تعثَّرت بها الكلمات فصارت مضيعة للوقت المسروق…

 دائما الغاية تبرّر الوسيلة، إن عقل مكيافيللي عجيب…

 وغايتك تبقى مع كل عام… أن تضحك على هذا العراء..

 ووسيلتنا الوحيدة، أن نبكي معا على هذا الهراء…

 تقدَّم الى الوقت الآخر، فترىَ كيف ينسف العمر دمنا، إن في فلسطين اوالعراق، أو في سوريا ولبنان واليمن، وعِشْ هواك في العصر المدهش الذي نحيا فيه رضاك…

تكلّم يا أبي، هل سقط أحد من أفكارك ليلثم جرح عمر أبو ليلى، أو الأطفال الرضّع التي لم يلحظ هواك أوكسجينها، لأنك بعيد، تركت وراءك ما انتهزه العشَّاق على ناصية الأحلام…