لبنان.. الشارع يهتز على حافة الانهيار الاقتصادي

تحركات نقابية وعمالية تربك المشهد العام

إضراب موظفي  »المركزي« يصوّر الانهيار قبل أن يحدث

بيروت – هيثم محمود

يتفق المراقبون على أن المرحلة التي يمر بها لبنان قد تكون من الادق في تاريخه على المستوى الاقتصادي مع وصول الأمور الى مرحلة حرجة مع إعداد الحكومة لموازنة هي الأكثر تقشفاً في تاريخ البلاد التزاماً منها بخفض العجز من مستواه القياسي البالغ 11.4 في المئة الى نحو 9 في المئة، ويقوم ذلك على خطوات إصلاحية غير شعبية، تتضمن خفضاً للنفقات والمخصصات ومعاشات التقاعد.

إلا أن بنود الموازنة والاقتراحات المبنية عليها لم تبق من دون ردود فعل إذا أعلن العديد من الجهات الحكومة والمؤسسات التابعة للدولة الاضراب وتنادى العمال والموظفون الى التظاهر وفي مقدمهم الضباط المتقاعدون. إلا أن الأبرز في كل ما حصر كان إضراب موظفي المصرف المركزي مع كل ما أنتجه ما جعله نوعاً من تمرين منح اللبنانيّين فرصة أن يروا آثار انهيار من دون أن يحدث الانهيار الكامل فعلاً. بكلمة آخرى، فإن إضراب  »المركزي« قرّب للجمهور صورة انهاير لم يحدث. ومع أن التحركات والاضرابات انتهت عملياً لكن منسوب الثقة بالأداء السياسي والاقتصادي ما زال دون المطلوب، رغم التطمينات بأن الاضرابات التي اربكت البلد.

قبل ان يلتئم اجتماع ثلاثي بين الرؤساء ميشال عون ونبيه بري وسعد الحريري حصل خلاله اتفاق على ضبط الشارع، كانت التحركات والاضرابات التي تنفّذها مختلف القطاعات العامة رفضاً للمس بمكتسباتها تأخذ الشارع الى حافة الانفجار الشامل.  ومن ضمن الملفات التي

إضراب مصرف لبنان يرعب اللبنانيين ويضغط على المسؤولين

استطاع الاجتماع الرئاسي الثلاثي أن يضع حداً لها وينقل الهدوء الى الشارع كان إضراب اتحاد النقابات العمالية للمؤسسات العامة والمصالح المستقلة، الذي كان أعلن استمرار الاضراب والاقفال التام وعدم الحضور الى مراكز العمل لحين إلغاء المادتين 54 و61 من مشروع قانون موازنة العام 2019، إلا أن الاتحاد ما لبث أن عدل عن وجهة نظره وعاد الموظفون الى استئناف العمل بشكل معتاد وإن كان من ضمن تلميح بالعودة الى الاضراب في حال دعت الحاجة. وشملت التحركات المطلبية جهات رئيسية في القطاع العام مثل هيئة أوجيرو التي تدير شبكة الهاتف الثابت، والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي،  والعسكريين المتقاعدين وعمال مرفأ بيروت.

المصرف المركزي مقفل

غير أن الاضراب الأقسى والأشد تأثيراً كان إضراب موظفي مصرف لبنان مع كل ما ترافق معه وأنتجه. هذا الاضراب أتى على خلفية البند رقم 60 في الموازنة والذي تضمن اقتراحاً لإعادة تنظيم العلاقة بين وزارة المال من جهة ومؤسسات لها استقلالية، الأمر الذي فُسّر على انه استهداف لاستقلالية البنك المركزي المكفولة بقانون النقد والتسليف.  ووفق بيان أصدرته، أعلنت نقابة موظفي مصرف لبنان  »الاضراب المفتوح استنكاراً للهجمة الشرسة غير المبرّرة التي يتعرض لها المصرف وموظفيه ورفضاً للمحاولات التي تهدف الى وضع اليد عليه، الأمر المخالف لكل القوانين والاعراف الدولية«.

الإضراب امتد على مدى ثلاثة أيام عمل ليتحوّل إلى شلل أصاب الأسواق وأدى من جملتها إلى إقفال بورصة بيروت ووقف تداولاتها الضئيلة أساساً. ومن جملة ما أدى إليه الاضراب ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة في السوق السوداء الى 1550 ليرة ليصل في اليوم الأخير من إضراب  »المركزي« سرت أنباء عن أن الدولار بلغ 1580 ليرة.

وقد أخذت المصارف إجراءات ووضعت سقوفاً للسحب النقدي من داخل الفروع أو من أجهزة الصراف الآلي بسبب نقص مؤونة المصارف من العملات.  في موازاة ذلك، شهدت حركة الشراء بين تجّار الجملة جموداً، مع توقّف عمليات المقاصّة واستتباعاً العمليات بالشيكات وتحصيلها. كما توقّف عمل الحوالات بين المصارف.

وأصابت التداعيات أصحاب محطّات المحروقات، الذين فرضت عليهم شركات التوزيع سداد الفواتير نقداً وبالدولار، بسبب إقفال المصرف المركزي، وعدم القدرة على تحصيل الشيكات أو توفير الدولارات.

يتوقّع البعض أن يكون ما جرى عرض عضلات من قبل موظّفي المصرف المركزي، قبل أن تقدم الحكومة على أي خطوة تطال مكتسباتهم، بينما اعتبرها البعض رسالة من المصرف المركزي نفسه إلى السلطة السياسيّة، ومن يعمل على التأثير على هامش عمله. وفي النتيجة، تم تعليق الإضراب. وكلمة تعليق تعني بوضوح إبقاء الإضراب سلاحاً في وجه الجميع. وبالتالي، يكون كل ما جرى من ظواهر تلامس حدود الانهيار، مجرّد استعراض لما يمكن أن يحدث على نطاق أوسع، ولفترة أطول، في حال لم تنته المفاوضات في الأيام المقبلة إلى ما يريده موظفو القطاع العام.

غياب الرؤية

ويرى الخبراء الاقتصاديون انّ مشروع الموازنة المطروح يخلو من أي رؤية اقتصادية للسنوات المقبلة، ولا يتعدّى كونه خطة محكومة بالفشل تهدف فقط الى شراء الوقت وتعميق الأزمة. فمشروع الموازنة لا يُظهر أيّ بند اصلاحي بنيوي يساهم في تحفيز الاقتصاد ونموه، بل هي

جانب من اجتماعات مناقشات الحكومة لمشروع الموازنة

موازنة تقشفية مبنيّة على خفض الرواتب والاجور والتقديمات، أو على الرسوم والضرائب.

وثمة سؤال يطرح ذاته عن السياسة التقشفية المعتمدة في هذه الموازنة وأين هو الاصلاح الحقيقي؟ وفي رأي كثيرين فإن المسعى التقشفي على حساب المواطن لا يحظى بأي تأييد لأنه يظهر قصر نظر الحكومة ونيّتها سحب الاموال من المواطنين لسنة اضافية تحسّباً لما قد تؤول اليه الاوضاع لاحقاً. ففي رأي هؤلاء السياسة التقشفية الحقيقية تكون عبر خفض مداخيل المواطنين في مقابل تحفيز النمو الاقتصادي، في المقابل فإن الحكومة لم تقرن مشروع الموازنة بأي خطة اقتصادية مقترحة لتحفيز النمو مقابل التخفيضات المطروحة والضرائب المفروضة.

الإصلاحات وسيدر

الواقع أن المسؤولين لا يَعون ان عدم اجراء اصلاح حقيقي في قطاع الكهرباء سيحرمهم من اموال  »سيدر«، والدليل ان البنك الدولي شدّد مرارا وتكرارا انه لن يموّل اية مشاريع في لبنان في حال عدم اجراء اصلاح حقيقي. وتشير معلومات حصلت عليها  »الحصاد« إلى أن ممثلين من سفارات الدول المانحة يجتمعون بشكل دوري لتقييم ما تقوم به الحكومة. وتأتي التعليقات في هذه الاجتماعات لتؤكد امتعاض هذه الدول من سير الأمور وهو يشددون على أنهم يريدون رؤية تطبيق خطوات فعلية في مجال الإصلاحات قبل دفع أي دولار.

ضرائب الفوائد

في سياق متصل، يأخذ موضوع زيادة الضرائب على الفوائد المصرفية من 7 الى 10 في المئة حيّزاً كبيراً من النقاش.  فرفع الضريبة الى 7 في المئة عند اقرار سلسلة الرتب والرواتب، سبب انعدم نمو الودائع المصرفية في لبنان، وهو المحرّك الرئيس لتسليف القطاع الخاص، وبالتالي فإن رفع الضرائب الى 10 في المئة سيؤدي حتماً الى خروج الاموال من لبنان وبالتالي خفض حجم الودائع. ويتفق خبراء محليون على انه لا يمكن تحميل المودعين ضرائب مرتفعة من هذا النوع، لأن ذلك سيؤدي الى هروب المودعين وخروج الاموال من لبنان. وليس سراً ان رفع الضرائب على الفوائد، سيؤدي الى تراجع تحويلات المغتربين وسيضغط أيضا على ميزان المدفوعات.

العدد 93 – حزيران 2019