فنزويلا.. موروث صراع الحرب الباردة يستيقظ هناك

– أمريكا منزعجة من وجود الصين الاقتصادي الاستراتيجي في فنزويلا

د. ماجد السامرائي

ليس جديدا على واشنطن أن تطلق ادارتها تحت ولاية (ترامب) التهديد بالتدخل العسكري في فنزويلا فلأمريكا تاريخ طويل لما تسميه حديقتها الخلفية أمريكا اللاتينية،واستخدمت في سبعينيات القرن الماضي أداتها الاستخبارية (السي آي أي) لتنفيذ إنقلابات عسكرية أشهرها الانقلاب العسكري في شيلي من قبل الجنرال (بونوشيه) ضد الرئيس المنتخب (آليندي) وعملياتها اللاحقة للدعم العسكري لعملائها في (نيكاراغوا) وما سمي بفضيحة (إيران كيت).

وامريكا إن كانت قد تركت هذه القارة سنوات ليست قصيرة للقوى المحلية اليسارية لتصل للحكم في بعض البلدان لأنها إنشغلت بمنطقة الشرق الأوسط، لكنها اليوم تستفيق من كوابيس تدخلها العسكري في كل من العراق وإفغانستان وبلدان شرق أوربا وآسيا، لتعود بقوة الى أمريكا اللاتينية ضمن استعادة لاستراتيجيات سابقة مثل إحياء مبدأ (مونرو) ثم اشتغلت مبادئ استراتيجية جديدة بسبب صراع القطبيتين السوفيتية والأمريكية خلال الحرب الباردة،ولم تظل محيطات أمريكا اللاتينية هادئة بعد نمو التيارات اليسارية فاضطرت واشنطن الى التدخل العسكري المباشر مثلما حصل في عمليتها الكبيرة ضد  »كوبا« (جزيرة أم الخنازير) التي فشلت وفي بنما وخلعها للرئيس (نورويغا) الذي تمرد على رئيسه الاستخباري الرئيس بوش الأب ثم الاجتياحين العسكريين واسقاط الانظمة الحاكمة في إفغانستنان 2001 والعراق 2003 أو الى تحريك أصابعها الاستخبارية لتغيير الأنظمة عبر الانقلابات العسكرية مثل الانقلاب على الرئيس (تورويغا) في السلفادور والانقلاب العسكري للجنرال  »بونوشيه« ضد الرئيس (أليدني) وظلت عين واشنطن على أمريكا اللاتينية وخصوصا فنزويلا ذات الثروة النفطية والثروات المعدنية الغزيرة والمهمة للولايات المتحدة.

ولذلك تحركت بالطريق السالبة حيث أجهضت المحاولة الانقلابية العسكرية للضابط الفنزويلي (هوجو جافيز) وأعادت بالقوة العسكرية وعبر القواعد العسكرية القريبة من كاراكاس الرئيس (اندريس بيريز) عام 1992 لا أن هذا الضابط الطموح أصبح فيما بعد عبر الانتخابات رئيسا لفنزويلا عام 1999 فاتحا بذلك أبواب وجع الرأس لواشنطن وانتقال عدوى التيار  »البوليفياري« اليساري الى بلدان لاتينية أخرى كالبرازيل والبيرو وكولومبيا وبورغواي والأرجنتين وشيلي الى جانب كوبا  »الشيوعية« ثم تراجع النفوذ الاقتصادي الأمريكي كثيرا.

 لكن تلك الأنظمة الجديدة فشلت في معالجة مشكلات الفساد المالي والسياسي، ومثلا في فنزويلا أصبح المواطن رغم ثروة بلاده النفطية لا يستطيع سد رمق جوعه وأطفاله.

لكن واشنطن خلال ثماني سنوات من إدارة (أوباما) بددت المخاوف التاريخية من عودة سياسة  »الذئب المفترس« وقدم الرئيس الأمريكي حينذاك التطمينات الى دول أمريكا اللاتينية بأن العهد الأمريكي بالاحتلالات قد انتهى بعد التجربة العنيفة لاحتلال أمريكا للعراق، لكن (ترامب) وجد في استعادة فنزويلا مطلبا استراتيجيا ضروريا يتطابق مع فكرة عدم التورط في حروب وغزوات في المناطق البعيدة كالشرق الأوسط، وكذلك في الاستجابة للمتطلبات الاستراتيجية الاقتصادية لمواجهة النمو الخطير للصين في أمريكا اللاتينية وخصوصا فنزويلا،في الموازاة للانسجام مع مشروعه في تضييق الخناق على إيران اقتصاديا، ولهذا كان (ترامب) منذ دخوله البيت الأبيض) عام 2017 واضحا في خياره العسكري ضد فنزويلا ولم يتردد في إعلانه لذلك في تصريحه ودعوته للتدخل العسكري في فنزويلا متعللا  »بوجود آلاف من الجنود الأميركيين في أماكن بعيدة كثيرا عن الولايات المتحدة، بينما فنزويلا بلد جار ويشهد أزمة إنسانية كبيرة تستلزم تدخلا أميركيا« فالرئيس (ترامب) بحاجة الى عملية خارجية ذات بعد درامي غير مكلف مكانها ليس الشرق الأوسط المكلف في عقله التجاري، ولهذا ففنزويلا غير مكلفة في جميع المقاييس ودخول القوات الأمريكية هناك لن يكون بتلك الأعداد الهائلة، حيث من المتوقع أن يتم التدخل العسكري عبر الحدود الكولومبية الفنزويلية، كما لن يتطلب تحالفا مع بريطانيا مثلما حصل في احتلال العراق بين (بوش وتوني بلير) عام 2003 أو صناعة معارضة مثل المعارضة العراقية التي استلم قادتها ثمن خدمة مشروع الاجتياح قبل حصوله حيث استلم الراحل (أحمد الجلبي) مبلغ 72 مليون دولار عام 1998 رغم الاعلانات المزيفة بالتخلص من  »النظام الدكتاتوري« ففي كاراكاس لا يحتاجون الى  »عرابين« فرئيس البرلمان جاهز بمقعده الديمقراطي والجمهور الجائع جاهز أيضا، كما إن الجنود الأمريكان لن يحتاجوا الى دبابات تدخل مرتفعات  »كاراكاس« أو تخترق طوق  »الصفيح« التأريخي حول العاصمة كاراكاس أو تمثال يرمز الى الحاكم هناك، هم بحاجة الى ما يسمى بعالم الأفلام الى (أكشن) للتغيير.

 لقد كانت هناك بعض الدول اللاتينية ذات الحكم الثوري اليساري متحالفة مع كاراكاس إضافة للصداقات مع كوبا الشيوعية وروسيا خليفة الاتحاد السوفييتي والصين وإيران وسوريا. حاولت واشنطن التضييق على فنزويلا اقتصاديا وحصارها فيما بعد، لكن هذا البلد رغم وفاة زعيمه (شافيز) عام 2013 لم تتغير توجهاته وسياساته في ظل الرئيس الجديد (مادورو) بل على العكس تضاعفت الخلافات الفزويلية الأمريكية، واستثمرت واشنطن المشكلات الاقتصادية بسبب تدني أسعار النفط وزيادة مستوى الفقر، فسعت الى خنق الاقتصاد الفنزويلي عن طريق جيران فنزويلا (كولومبيا) بعد تولي اليمين للحكم هناك وكذلك (البرازيل).

 وتشهد فنزويلا أزمة سياسية إثر إعلان رئيس الجمعية الوطنية خوان غوايدو، نفسه رئيسا مؤقتا للبلاد في 23 يناير/ كانون الثاني الماضي.

واعترف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بزعيم المعارضة رئيسا انتقاليا، وتبعته كندا، كولومبيا، بيرو، الإكوادور، باراغواي، البرازيل، تشيلي، بنما، الأرجنتين، كوستاريكا، غواتيمالا وجورجيا ثم بريطانيا. فيما أعلن الرئيس المنتخب نيكولاس مادورو، قطع العلاقات الدبلوماسية مع واشنطن، متهما إياها بتدبير محاولة انقلاب ضده. وأيدت كل من روسيا وتركيا والمكسيك وبوليفيا شرعية الرئيس الحالي نيكولاس مادورو الذي يمارس كبار المسؤولين الأمريكان ضغوطا اعلامية وسياسية عليه لإجباره على التنحي، وقبيل هذه التصريحات حاولت واشنطن تسويق حملتها الديبلوماسية داخل مجلس الأمن الدولي لكن روسيا والصين لم تسمحا بذلك الولايات المتحدة تنظر دائما الى أمريكا اللاتينية باعتبارها مجالا فسيحا للاستثمارات الأمريكية الخاصة. وقد حرصت على تكريس نمط التبعية الاقتصادية لها وساعدها على ذلك عجز النخب الحاكمة في بلدان أمريكا اللاتينية عن إحداث تنمية حقيقية، الأمر الذى أتاح للولايات المتحدة السيطرة والتحكم في اقتصادات معظم بلدان القارة.

 وقد أشار الكثيرون إلى احتياطيات فنزويلا الهيدروكربونية الضخمة كدافع محتمل وراء تدخل واشنطن في فنزويلا. وقد صرح مستشار الرئيس لمجلس الأمن القومي، جون بولتون، علانية أن الأمر يتعلق بالنفط. كما إن هناك عنصر استراتيجي مهم هو تنامي وجود الصين في فنزويلا. فمن المعروف إنها ترغب في تأمين إمدادات نفطها من مجموعة واسعة من الدول من إيران إلى روسيا، ومن المملكة العربية السعودية إلى أنغولا. ومن فنزويلا أيضا وهي دائن رئيسي لنظام مادورو، حيث تصل القروض الى 61 مليار دولار.

 ومنذ تصريحات واشنطن الداعمة لغوايدو، كانت الصين صريحة بشكل غير عادي في الدفاع عن مادورو، وهناك تنازلات لثروات فنزويلا الباطنية غير المستغلة للصين من الذهب أو المعادن الأرضية النادرة مثل  »الكولتان« ويسمى أحيانا  »الذهب الأزرق«، في منطقة الأمازون في فنزويلا بالقرب من الحدود مع البرازيل وغويانا، والتي تقدر قيمته بنحو 100 مليار دولار. الكولتان هو مصدر  »التانتالوم« الذي يكون أحيانا أغلى من الذهب وهو معدن يستخدم في المكثفات التي تخزن الطاقة في الإلكترونيات الحديثة مثل الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية. تعد مكثفات التانتالوم ضرورية أيضا في تشغيل الأسلحة العسكرية الحديثة وتعتمد الولايات المتحدة على التانتالوم لبناء العناصر الأساسية في أنظمة التحكم في التوجيه للقنابل الذكية والأنظمة الملاحية الموجودة في الطائرات بدون طيار، والأنظمة المضادة للدبابات، والروبوتات ومعظم أنظمة الأسلحة.

 هذا المعدن هو عنصر مهم للدفاع في الولايات المتحدة. وفقا للمسح الجيولوجي الأمريكي، فإن معظم التانتالوم العالمي من الكولتان يأتي من رواندا والكونغو في إفريقيا تليها البرازيل ونيجيريا والصين. اضافة للذهب وهو مورد ضخم غير مستغل في فنزويلا يقدر بحوالي 15500 طن. يصف تقرير حديث صادر عن مركز أبحاث واشنطن عن الهدف الأكبر للصين من وجودها في فنزويلا. ويقول المؤلف إيفان إليس،  »في أمريكا الجنوبية، ستربط البنية التحتية العابرة للقارات التي تضم شبكة من الطرق السريعة والقطارات والطرق النهرية البرازيل بالأطلسي ومنطقة البحر الكاريبي والمحيط الهادئ. وتعتقد واشنطن أنه من خلال إجبار الصين على تقليص وجودها بشكل كبير في فنزويلا، والضغط عليها لتقليص جدول أعمالها الاستراتيجي العالمي، سيزيد من الضغوط التي تفرضها العقوبات الأمريكية على إيران، وهي مصدر نفطي رئيسي آخر للصين«.

 فنزويلا لها خصوصية تاريخية واستراتيجية للولايات المتحدة على جميع المستويات الاقتصادية والعسكرية. الغياب الامريكي في هذه المنطقة الحيوية المكلف وفر الفرص لتواجد قوى شرق الكرة الأرضية (روسيا والصين) والدول والمنظمات الأديولوجية كحزب الله. وشمالها في كوبا التي تترنح ما بين الولاء العقائدي الشيوعي والرغبة في الحرية تجاه الولايات المتحدة بعد عقود من معاناة القيود العقائدية الشيوعية التي فشلت في قيادة العالم الشرقي الأوربي فكيف بها في مناطق وسط وشمال أمريكا.

 وفي هذه القارة لا يوجد في النطاق الجيوسياسي مكانة لأوربا التي ممكن لها المنافسة في مناطق أخرى مثل الشرق الأوسط. لكن مع كل هذه التبسيطات للاجتياح العسكري المريكي في فنزويلا بعد فشل خيار الانقلاب العسكري، لكن هذا الخيار سيعيد موروث امريكا المخزي ليس في امريكا اللاتينية وإنما في كل من العراق وإفغانستان، والذريعة الحالية لإنقاذ الديمقراطية غير مقنعة للعالم.

العدد 93 – حزيران 2019