نافذة على الحياة.. متلازمة العش الخالي

سهير آل إبراهيم

متلازمة العش الخالي عبارة متداولة في الغرب، تصف حال الوالدين عندما يغادر الأبناء المنزل وبشكل نهائي. فالبيت هو العش الذي ينشأ فيه الأطفال، وفيه ينعمون برعاية الوالدين وحنانهما. ذلك العش الذي يجهد الوالدان في بنائه، ويكافحان في سبيل جعله موطن الراحة والأمان لأطفالهم.

عندما يغادر الأبناء منزل الأسرة، وبالتحديد عندما يغادره آخرهم، يتغير إيقاع الحياة في البيت، فتنتهي الامتحانات مثلا، وما تحدثه من توتر وقلق وربما فوضى في جوانب الدار. وغالبا ما يتوقف حضور الأصدقاء وما قد يتبع ذلك الحضور من صخب الموسيقى والضحكات المجلجلة او الحوارات الساخنة. حتى طريقة التسوق تتغير، فلا يعد الوالدان بحاجة لشراء مكونات الأطباق المفضلة لدى الابناء بالقدر الذي كانوا يفعلونه قبل ذلك. والأمثلة كثيرة على التغيرات التي تحصل في نظام الحياة اليومية للأسرة عندما ينتهي الحال بالوالدين بمفردهما في العش الذي أمضيا أجمل سنوات عمريهما في إنشائه ورعايته ورعاية فلذات أكبادهم فيه. عند ذاك تظهر أعراض متلازمة العش الخالي.

متلازمة العش الخالي عبارة تطلق على المشاعر التي تجتاح نفوس الآباء والأمهات، أو لنقل بعضهم، عندما يخلو الدار من الابناء. غالبا ما تكون تلك مشاعر حزن وفراغ ووحدة، قد تشتد عند البعض فيكون حزنهم كحزن من فقدَ عزيزاً الى الأبد، لا سيما لدى الأمهات ربات البيوت، اللواتي كرسن حياتهن لرعاية الأسرة والأبناء. يضاف الى الحزن على غياب الابناء القلق عليهم وهم بعيدين عن رعاية الأهل، يعتمدون على أنفسهم في معظم تفاصيل الحياة اليومية لأول مرة!

متلازمة العش الخالي ليست حالة مرضية، ولا يوجد دواء خاص يوصف كعلاج لها، لكن توجد الكثير من النصائح التي تُقدم للوالدين لمساعدتهما على التكيف مع الوضع الجديد؛ مثل العودة الى ممارسة الهوايات التي أبعدتهم مشاغل الحياة عن ممارستها، او إدخال بعض التغييرات في حياتهم لغرض ملىء الفراغ الذي تركه الابناء.

ان أساليب التكيف مع غياب الابناء تختلف من أسرة الى اخرى، بلا شك، إلا أن أسلوب احدى الأمهات في ذلك كان مختلفا وواقعياً الى حد كبير، وقد راق لي جدا.

لتلك الأسرة ولدان، غادرا المنزل لغرض الدراسة الجامعية، فأصبحت المسافة الجغرافية بينهما وبين الوالدين كبيرة جدا بحيث صار من الصعب ترتيب اللقاء بينهم على فترات متقاربة. بعد إنقضاء الفترة الأولى، والتي أسميها فترة الصدمة؛ صدمة الفراغ والهدوء المفاجيء في الدار، أعادت الأم ترتيب نظام الحياة في المنزل، والذي اصبح يضمها مع زوجها فقط. فكتبت لولديها رسالة افتتحتها بالتعبير عن حبها الكبير لهما وإشتياقها اللامحدود اليهما. المعتاد أن تحث الأم أبناءها على العودة لزيارتها كلما اتيحت لهم الفرصة، لكن تلك الام طلبت من ولديها أن لا يفكرا بزيارة منزل الأسرة بشكل مفاجيء، فالحياة في ذلك المنزل انتظمت لتناسب إثنين فقط، هي وأبيهم، وهي لا تود أن يختل ذلك النظام.

قالت لم يعد إعداد الطعام والتسوق له من الواجبات الأسبوعية المتعبة، خصوصا وان ذوقها في الطعام يماثل ذوق زوجها، لذلك صار الوضع الجديد انهما يقرران في نفس اليوم ما يودان أكله، فيذهبان لشراء ما يحتاجانه لذلك، ويشتركان في إعداد الوجبة الغذائية، على أنغام موسيقى من اختيارهما، ثم يأكلان براحة وشهية وهدوء، بدون الحاجة لتحمل ضجيج التليفزيون الذي كان يملأ البيت عادة وقت الطعام. لم تعد لديهما الحاجة للتسوق بكميات كبيرة وحمل أكياس التسوق الثقيلة والتي كانت تُملأ بما يحبه الأولاد من أطعمة! قالت إن البراد لم يعد مكتضا بالمحتويات كما كان في السابق،  لذلك أصبح استخدامه  وتنظيفه أسهل بكثير، مما يسهم في تخفيف الأعباء المنزلية عن كاهلها.

حدثت الام ولديها أن أبيهم أصيب بالرشح بعد مغادرتهما بفترة بسيطة، فاضطرت نتيجة لذلك الى ترك سريرها المشترك معه والنوم في غرفة أحد الولدين، أكتشفت حينها كم هو مريح سرير ولدها، وذلك أوحى اليها بفكرة تخصيص غرفتي الولدين للتأجير السياحي، وفي ذلك فوائد كثيرة أهمها زيادة دخل الأبوين واتاحة الفرصة لهما للتعرف على أناس جدد. لذلك أكدت عليهما ان يحجزا موعدا مسبقا للقدوم الى دار الأسرة لو فكرا بذلك، لكي لا يحضرا فلا يجدا مكانا للنوم، إن كانت الغرف مشغولة من قبل مستأجرين!

تحدثت تلك الأم في رسالتها المطولة عن الكثير من الجوانب الإيجابية لخلو البيت من الأبناء قالت انها كانت، قبل مغادرتهما الدار، تخشى فكرة العش الخالي، لكنها اكتشفت ان الدار بعد رحيلهما تحول الى عش للحب يحتويها وزوجها، فغياب الأبناء أتاح لكليهما التركيز على علاقتهما ببعضهما، والتفكير بكيفية قضاء الوقت بما يناسبهما ويدخل البهجة على حياتهما، فلم يعد هناك التزام بمواعيد إمتحانات الابناء أو الحرص على تهيئة الأجواء الدراسية المناسبة لهما، أو قضاء الوقت وبذل الجهود في سبيل تلبية متطلباتهما وتهيئة حياة مريحة لهما.

لقد أصبح لأولئك الوالدين برامجا تلفزيونية مفضلة، يشاهدانها معا، بعد سنوات من فقدهما الاهتمام بذلك، بسبب تعارض تلك البرامج مع ما يشاهده الأبناء، قالت الأم ذلك وأضافت ان القنوات الرياضية التي كانت السبب في استيلاء ولديها على التلفزيون لم يعد لها من يهتم بها، وقد عاد جهاز التلفزيون مع منظم القنوات عن بعد الى يدي الوالدين أخيراً.

ختمت الأم رسالتها بالتعبير مجددا عن حبها الكبير لولديها، وعن سعاتها لهما في استقلالهما بحياتهما، كل منهما في مسكن خاص به وحده، في مدن بعيدة تتطلع بلهفة الى زيارتها وقضاء أوقات للسياحة والتجوال فيها، وقد أكدت لولديها انها وزوجها لن يطيلا الإقامة لديهما، فلا داعي للقلق.

لا أشك في أن كلام تلك الأم قد لقي، وسوف يلقى إستنكاراً من البعض، وخصوصا لدينا. فكلام كهذا غريب علينا، حيث تبقى الأم لدينا تعطي بلا حدود، فلا تقل أعباؤها بتقدم العمر، بل يحصل العكس أحيانا، عندما تكبر الأسرة بقدوم الأحفاد، وكثيرا ما تقع العناية بالاحفاد على كاهل الجدة إن كانت ربة بيت وكانت أم الأطفال عاملة.

لا يزال الهدف الأساسي من الزواج برأي البعض لدينا هو تكوين أسرة، بدلا من أن تكون الأسرة نتيجة لعلاقة كانت تهدف الى الإرتباط بمن تسكن النفس اليه،  اعتقد ان الامر يختلف بشكل كبير عندما يكون أساس الزواج التوافق الفكري والحب والتفاهم، عندها تكون الأسرة نتيجة رائعة لتلك المكونات السامية، فيمتلئ العش بها ولا يخلو  بمغادرة الأبناء، لأنه يظل مملوءاً بالحب، والذي قد يكون  أكبر وأكثر عمقا وثباتاً.

العدد 93 – حزيران 2019