التركيز على (نكسة 1967) هدفه الرئيسي اغتيال ذكرى عبدالناصر

حول مقال سمير عطاالله بعنوان (لايليق التذكر)

التركيز على (نكسة 1967) هدفه الرئيسي اغتيال ذكرى عبدالناصر

نزار قباني- ليس ندابا ولا نائحا- لكنه صفحة مشرقة من تاريخ الأدب العربي

أمين الغفاري

سمير عطاالله كاتب معروف ومقروء، ومن أبرز الكتاب في جريدة (الشرق الأوسط) وفي الصحف التي كتب ويكتب فيها، ولذلك فان اجتهاداته لابد ان تحظى بالأهتمام، خصوصا وان كانت تتعرض لبعض القضايا التي من شأنها أن تؤدي الى الألتباس في المفهوم أو المعنى. لقد كتب في جريدة الشرق الأوسط مقالا بعنوان (لايليق التذكر) بتاريخ 30 مايو 2019، وهو يشير الى نكسة يونيو 67 ، خلال عرضه لبعض ما ورد في كتاب (غرق الحضارات) للكاتب أمين معلوف. عن صدمات وكوارث الأحتلال لبعض الدول، وتطرق الى العدوان الأسرائيلي عام 1967، وما نتج عنه من احتلال بعض الأراضي لثلاث دول عربية، وقال ان الكثير من الدول قد تعرضت عبر تاريخها لبعض الهزائم، فلماذا نقف وحدنا عند هزيمة 67 ونختلف حول توصيفها بين نكسة وهزيمة، ومن المسؤول عن ذلك الحدث هل هوعبدالناصر أم عبدالحكيم، ثم يعيد ما سبق وان طالب به من قبل وهو أن ننسى دفاتر (النكسة) وقصائد نزار قباني ومرثياته الجميلة الساحرة، ثم يستطرد في القول لقد اضر بنا نزار كثيرا عندما تقدم قافلة النواح فاستعذب البكاؤون ايقاع الندب ونسوا ان النكسة أو الهزيمة حدث عابر في كل التاريخ وجميع الشعوب. لم يتطرق الكاتب الى أبعد من ذلك، ربما لفرط البراءة، لم يدرك أن الذين يصرون على تعبير (الهزيمة وليس النكسة) كانوا يغمزون الى أن القصد من تعبير (النكسة) هو التخفيف من وقع كلمة (الهزيمة) على مسامع جماهير الشعب المصري والعربي ولاأكثر، بمعنى آخر يحاولون القول أن تعبير (النكسة) قد صك لغش المشاعر العربية وتخديرها والتحايل على وجدانها من وقع تعبير(الهزيمة)، مع ان هذا التعبير (النكسة) كان تعبيرا أكثر صدقا كما ذكر الأستاذ هيكل للزعيم الراحل عبد الناصر حين وجده يصر ان يكون الوصف هزيمة وليس نكسة في خطاب التنحي، وقد قال له هيكل متسائلا (هل كنت في حالة استمرارك في موقع الرئاسة ولاتعلن تنحيك، هل كنت ستقاوم أم ستستسلم ؟ فرد عبدالناصر قائلا بالتأكيد سوف أقاوم ولن استسلم أبدا، فرد هيكل اذن فنحن أمام نكسة، ما دامت المعركة لم تنته فصولها كاملة، وسنواصل القتال. أي اننا لسنا في موقع هزيمة تستوجب الأستسلام لشروط العدو، ونطوي صفحة المعارك، ثم أن هناك شيء آخر جدير بالأعتبار، وهو انك ستتنحى وتمضي، فماذا تريد للرئيس القادم ان يفعل، حين تصك قبل استلامه للسلطة تعبير الهزيمة، هل عليه بناء على ذلك أن يمتثل

جمال عبدالناصر.. القضية ليست سيناء
القضية أخطر من ذلك.. القضية هي أن نكون أو لا نكون

للأمر الواقع، ويقوم بالتوقيع على وثائق الهزيمة وشروط الاستسلام ؟. اقتنع عبدالناصر بعد ذلك الطرح بتعبير (النكسة) عوضا عن صك تعبير(الهزيمة)، وعلى نفس الدرب في التحليل نرى كلمات الجنرال ديجول رئيس الجمهورية الفرنسية في ذلك الوقت والأب الروحي لها، في برقيته للرئيس عبدالناصر بعد اذاعة قراره بالتنحي في مساء 9 يونيو حيث قال (ان النصر والهزيمة في حياة الشعوب عوارض، ثم يذكره أن فرنسا قد تعرضت للغزو من قبل ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، ثم عادت وتحررت، ويضيف الرئيس ديجول أنني أدرك أن تنحيك قوامه الكبرياء، ولكني اقول لك تذكر أن الشجاعة هي في المواجهة).

يذكر الكاتب سمير عطاالله في مقاله تلك السطور من كتاب (أمين معلوف)  » ان 1967 كانت دون شك السبب الذي جعلنا نصل الى ما نحن فيه«، ثم يضيف سمير عطالله رأيه قائلا  »وربما كان ذلك صحيحا الى حد ما« ثم يضيف غير ان السبب الأكبر ليس النكسة نفسها، بل الجدل الجنائزي الذي قام من حولها ولم يتوقف بعد، ويستمر في استطراده حتى يختم بتلك الكلمات  »يحسن بنا جميعا، ونحن نتمتع بالمزيد من الندب«أن نقرأ شيءا من (6 اكتوبر) بدل الأصرار على بكائيات 1967.

لاياسيدي بل يليق بنا ان نتذكر، وأتساءل هل يمكن للضمير العربي أن لا يتذكر، وما فائدة الدراسة للتاريخ، ودروسه وعبره، وكيف نميز بين الحقائق ونزيف الزيف والتضليل الذي يتواصل ، ومافائدة النقد الذاتي الذي يمارسه قادة عظام مثل عبدالناصر ! ارجع الى خطابه في 23 نوفمبرعام 1967 الى أعضاء مجلس الأمة الذي قال في بدايته (جئت اليكم اليوم بدون نص مكتوب لخطاب لكم، ليكون حديث القلب للقلب، ويروي لهم ما جرى وماحدث، بعد ان تأكد من قيام خط الدفاع العسكري الأول، بعد أن انهار الموقف في أيام القتال، وأصبح الطريق مفتوحا في تلك الايام أمام العدو الى القاهرة ذاتها. قدم عرضا امينا وصادقا لقائد يؤمن بقداسة الكلمة ومسؤوليتها، لم يبرر، وانما أوضح مع استعداده لتحمل المسؤولية كلها. ذلك درس التاريخ، وعبرة التجربة، وأمانة القائد. ارجع الى وثائق النقد الذاتي لنظامه في اجتماعات اللجنة التنفيذية العليا للأتحاد الأشتراكي، وفي جلسات مجلس الوزراء. ارجع الى جهوده في اعادة بناء القوات المسلحة، ومتابعاته للتدريب وللتسليح، ثم لحرب الأستنزاف وحتى لتقييم الأعداء لمسارها ولآثارها. ان النقد الذاتي وتقييم التجربة شيء، والبكاء والنحيب، واقامة المنادب شيء آخر. ترى هل غاب عن فكر الكاتب المخضرم أن الأصرار على بكائيات حرب 1967، والندب وملاحم اللطم التي تقام كل عام، محددة الأهداف مقصودة المرامي، والهدف منها واضح أشد الوضوح، وهو الحصول على رأس عبدالناصر، عدم انتهاج سياسات تلك المرحلة، وهي تحرير الأرض من الاجنبي، واستقلال القرار الوطني، والعدل الأجتماعي لأبناء الوطن، بمعنى آخر حرية الوطن وحرية المواطن، وكان الرمز لتلك السياسات هو جمال عبدالناصر، ومادام قد رحل بجسده، فلابد أن يرحل بفكره وسياساته، ومن هنا يتوجب أغتيال ذكراه، حتى لا يعود ولا يتكرر من جديد، وللمفارقة الغريبة كذلك أن عبدالناصر ذاته كان يدرك ذلك، ولهذا قال (أنني أعرف أن أمريكا لن تتركني حيا ولن تتركني أيضا ميتا). تذكر مقولته في خطابه يوم 23 يوليو عام 1970 أي قبل وفاته بشهرين تقريبا (القضية ليست سيناء، وتلك يمكن حلها بكره الصبح.. القضية أخطر من ذلك بكثير.. القضية هي أن نكون أو لا نكون. تلك هي القضية.

بين عامي النكبة والنكسة

لقد رفض العرب قرار الأمم المتحدة رقم 181 في 29 نوفمبر عام 1947 بتقسيم فلسطين، وبناء عليه فقد دخلت الجيوش العربية في 15 مايو عام 1948 الى ارض فلسطين (مصر – الأردن – العراق – سوريا، ولبنان، والمملكة العربية السعودية) الى ارض فلسطين، ودون الدخول في مستوى الآداء، أو في الأجتهادات، والظروف الحاكمة، فان تلك الدول بجيوشها لم تتمكن من تحرير فلسطين، وتوقف القتال مرتين، الى ان صدر البيان الثلاثي (بريطانياوفرنسا وأمريكا عام 1950) بحماية الحدود القائمة بين العرب واسرائيل ، وأطلق على عام 1948 (عام النكبة) والسؤال:هل يقوم الندابون واللاطمون باقامة أي مندبة في تلك الذكرى، بل هل يتذكرونها بدمعة واحدة ؟ بالتأكيد لا. فالندب واللطم فقط لعام 1967، والى حد ان الكثيرين، ومنهم صاحبك (أمين معلوف)الذي ذكرت قوله (ان 1967 كانت  »دون شك« السبب الذي جعلنا

نزار قباني في خطابه لعبدالناصر
ماذا نريد للفكر العربي ان يكون..
بهلوانا يرقص ويغني.. أم نبيا يهدي يرشد ؟

نصل الى ما نحن فيه، ثم تعقيبك، وربما كان ذلك صحيحا الى حد ما). مع ان الحرب العربية الاسرائيلية بدأت في 15 مايو عام 1948، ووقعت الهدنة الثانية والدائمة في 6 يناير عام 1949، بينما في عام 1967 لم تتوقف الحرب، فشهدنا معارك راس العش، وجزيرة شدوان وغرق المدمرة (ايلات) بل واعلان حرب (الأستنزاف) التي توقفت بعد اعلان مبادرة روجرز ورغبة عبدالناصر في بناء حائط الصواريخ على ضفاف القنال، لكي يعزز من خلاله عمليات القتال في المعركة التي يعد لها ، ولذلك قبل مبادرة روجرز أساسا، وقال ان استعدادنا للحرب ليس من أجل عودة سيناء فقط، فالضفة قبل سيناء والجولان قبل سيناء والقدس قبل سيناء. لكن يا سيدي الفاضل يتم التغاضي عن كل ذلك والتركيز فقط على أن سبب ما نعانيه هو (الهزيمة في 67 التي يطلقون عليها النكسة)، وحتى لو سلمنا جدلا بذلك فاننا نرى أنه بخفة اليد كأي مراوغ محترف يتم شطب مسؤولية كل القادة وأهل الفكر والرأي والسياسة من أحزاب ونشطاء منذ عام 1967 حتى عام 2019 في تصحيح ألأوضاع أو علاج القضايا أوالمشاكل، أو حتى تنفيذ سياسات أكثر فاعلية ونفاذا لكي تعدل الموازين، وتحقق ما فشلت فيه حرب حزيران 67. لكن الأدانة فقط تظل بأثر رجعي، أما الأوطان بعد ذلك التاريخ بمسؤوليها فتعيش خارج منظومة التاريخ، ولامسؤولية لأحد على ذلك !

خفة اليد تستوجب اغماض العين عن حرب 48 ونتائجها، والقصور الذي اعتراها، واتفاقيات كامب ديفيد التي مزقت الصف العربي، أو فشل الوحدة العراقية السورية وبناء الجبهة الشرقية أو غزو الكويت الذي مزق وحدة الشعب العربي، أو الهرولة للصلح مع اسرائيل، واطلالات قادة الكيان الصهيوني من على الشاشات العربية التي كانت قناة الجزيرة هي القدوة التي حملت الراية في تحقيق هذا الامر. كل ذلك براء من اي اتهام، ولامندوحة عليه. ، فقط هي حرب 1967 هي بيت القصيد، وموطن الأتهام. انها خفة اليد في التحليل التي تخفي الوقائع، لكي تقفز الى النتائج المرجوة، وهي هدم السياسات التي قام بها الزعيم الراحل، بالهجوم على عبدالناصر نفسه، بالتذكير بالنكسة فهو رمزها وعنوانها الأكيد، والمطلوب هو رأسه حيا أو ميتا، ولكن هيهات فعبدالناصر لا يسكن قبرا، ولكنه يسكن القلوب .

نزار قباني وعبدالناصر

 عرفنا نزار قباني قبل النكسة، شاعرا بنى للحب معبدا، وجعل من أشعاره تراتيلا تقرأ على بابه، فان كانت اشعاره بحورا، فقد زرع الزهورعلى ضفافها التي غمرت انفاسنا عبقا واريجا، وان كانت كلماته نجوما فقد كان الحب هو قمرها الذي يشع نورا وضياءا. لكن النكسة حولت هذا الشاعر الرومانسي من(شاعر يكتب بالحنين.. الى شاعر يكتب بالسكين) لماذا.. ؟ لأن للفكر وظيفة كتب عنها نزار الى عبدالناصر يقول (ماذا نريد للفكر العربي يا سيادة الرئيس أن يكون.. هل نريده بهلوانا يرقص ويغني.. أم نبيا يهدي ويرشد). ذلك أنه بعد أن كتب قصيدة (هوامش على دفتر النكسة)، ينتقد فيها الأوضاع العربية التي قادت الى الهزيمة ، وقامت الأجهزة المصرية بعد حملة شعواء تزعمها شاعر الاغاني (صالح جودت) وسايره فيها بعض الكتاب والفنانين بمنع القصيدة، وكذلك بمنع الشاعر من الدخول الى ارض مصر، بل ومصادرة قصائده الشعرية التي نشرت قبل ذلك. كتب نزار قباني رسالة الى عبدالناصر (كنت أود نشر النص كاملا لكن حجم المساحة لا يسمح) أرسل له معها نسخة من القصيدة وقال له (هذه قصيدتي أقرأها وتمعن فيها وسوف تجد رغم ملوحة الكلمات أنها لم تخرج عما قلته أنت يوم وقفت بعد النكسة لكي تشرح للناس الأحداث التي جرت وتعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر) واستطرد في القول ان ما حدث يستدعي منا ان نسعى الى مواطن الجرح لكي نطهرها حتى بالكي ان لزم الأمر. ان الخامس من يونيو ينبغي أن يكون ميلادا جديدا للأمة تنتصر فيه على علاتها.. الى آخر ما جاء في الرسالة وهي تقطر بالمرارة كاشفة أمراض الأمة وعللها.

 قرأ عبدالناصر الرسالة والقصيدة وكتب الآتي :

لم أقرأ قصيدة نزار قباني الا من خلال النص الذي أرسله لي، ولاأرى فيها ما يمكن أن نؤاخذه عليه، وعلى ذلك تقرر الآتي :

1 – تلغى كل التدابير التي اتخذت بحق القصيدة أو الشاعر

 2 – تطبع القصيدة وتنشر في مصر

3 – يدخل نزار قباني الى أرض الجمهورية العربية المتحدة متى يشاء ويكرم فيها كما كان يكرم في الماضي. توقيع جمال عبدالناصر.

ان نزار قباني يا سيدي ليس ندابا أو نواحا، وليس أيضا مجرد شاعر عظيم القدر والمكانة ولكنه بقصائده الوطنية قبل الرومانسية صفحة شديدة الأشراق والأبداع في تاريخ الأدب العربي، بل وأقول ان كان يمكن مصادرة الشمس أو اغتيال الضياء فعندها فقط يمكن النيل من هذا

الكاتب سمير عطاالله
لا.. علينا أن نتذكر.. لكي
نعي ونفهم، لا لكي نندب وننوح

الفارس النبيل نزار قباني. أما عن زمن قد رحل ومضى، وكان الصوت القومي فيه عالي النبرة، شديد الشموخ، يرتفع فيه علم العروبة الى عنان السماء فتلك فترة من أمجد أيام التاريخ العربي الحديث، ويكفي أن نردد ونقول دائما أن رقعة من الأرض قد تسقط تحت احتلال العدو، لكن في المقابل أن أي رقعة من الأرادة الوطنية ليست قابلة للسقوط تحت اي احتلال، وذلك في النهاية هو القول الفصل في طبيعة الأشياء على مر الزمان.

 

 

العدد 94 – تموز 2019