ليبيا.. الثورة والثروة وحركة الصراع

الجيوش الوطنية هي الحارس والضامن للدولة وللمجتمع

 أمين الغفاري

تواجه ليبيا حركة صراع وتنافس متعددة الأوجه والأهداف. فليست الجماعات المتطرفة فقط، من تخطط لأتساع سيطرتها ونفوذها، ولكن هناك أيضا من له أطماعه ومساهماته في التخطيط لكي يتناول نصيبه من الكعكة الليبية. اللحظة الحاسمة حين تتحدد الأدوار وتقسم الحصص والمغانم، بين كل من له اسهام، ومن أصبح له موضع قدم. عموما العراك حول ليبيا ليس وليد اليوم. لعلنا ما زلنا نذكر حين أقلعت الطائرات الأمريكية في عهد الرئيس ألأمريكي (رونالد ريجان) من قواعدها في بريطانيا، وعبرت الأجواء لكي تقصف ليبيا مع ما خلفته عمليات القصف من آثار وتدمير بل وقتل وراحت ضمن الضحايا ابنة القذافي بالتبني. كان التبرير المعلن هو الزعم بمسؤولية القذافي على حادث تم في ألمانيا وراح ضحيته بعض الجنود الأمريكيين، بينما كان التحرش الحقيقي يكمن، وراء تدخل القذافي في حلبة الصراع في تشاد، بالأضافة الى احداث (سرت) واعتراض امريكا على اعلان القذافي أن خليج سرت مياه ليبية خالصة. لعلنا أيضا لم ننس التدخل العسكري الغربي في احداث (الثورة الليبية)والذي بدأ في مارس 2011 بتحالف يجمع الولايات المتحدة أيضا مع بقية أعضاء (الناتو) وعلى ألأخص فرنسا وايطاليا وبريطانيا للقيام بعمليات عسكرية في ليبيا، باعتبار أن(مجلس الأمن) أصدر قرارا في 17 مارس بفرض حظر طيران على القوات الجوية هناك، وهم سيقومون بتنفيذه، وللأسف فان جامعة الدول العربية تحت قيادة عمرو موسى قد وافقت على قيامهم بهذا الدور، وقد تطور الأمر من حظر للطيران الليبي الى القيام بالعمليات العسكرية باطلاق الصواريخ على كل القواعد العسكرية، وتدمير الدبابات الليبية، كما تم أيضا تنفيذ الحظر البحري عن طريق البحرية الملكية البريطانية، ولقد كان قرار مجلس الأمن بهذا العدوان تحت شعار حماية المتظاهرين، أي حماية

الجنرال خليفة حفتر قائد الجيش الليبي
الجيوش الوطنية قلاع للذود عن الأرض والدفاع عن الشعب

المدنيين، وحقوق الانسان من عنف القوات الموالية للقذافي !وان كانت كل المؤشرات تجمع على ان هذا التدخل العسكري في الشأن الليبي هو جزء من أجندة عسكرية أوسع في منطقة الشرق الاوسط من أجل السيطرة على أكثر من 60 من احتياطيات العالم من النفط والغاز الطبيعي، وتشمل كذلك طرق خطوط الانابيب سواء للنفط أو الغاز، بمعنى آخر ان التدخل الغربي في ليبيا، يتعادل مع التدخل الذي شاهدناه في العراق، وكان الهدف في الحالتين أبعد بكثير من مجرد الخلاص من رأس النظام.

ليبيا.. بين فكي الكسارة

ليبيا الآن تحت حصار غير منظور، وهي تمثل ثمرة حتى ان كانت محصنة من شعبها، الا انها بين فكي الكسارة :الفك الأول :طموحات الدول الكبرى في ليبيا وهي واضحة، وسعيها الى نصيب من النفوذ والسيطرة، يتواصل لكي تحكم من خلاله قبضتها على ليبيا فالثروات هناك متعددة فهي تمتلك أكبر احتياطي للنفط في قارة أفريقيا، كما أن الشركات الأوروبية تعطي اهتماما متزايدا للصناعات البتروكيمياوية والحديد والفولاذ. وهي الآن بلد تضرب الفوضى أطنابها في أرجائه، والأبواب المفتوحة لا تستدعي المتطفلين الى الأستئذان في الدخول. السياسة لا تعرف العواطف، ولاتتوقف عند شعارات حقوق الأنسان، ولعلنا في شرقنا السعيد لم ننس بعد قرون من الأستعمار الغربي على تعدد اشكاله وألوانه، وعل الأخص بريطانيا وفرنسا وايطاليا، التي عانينا من ويلاتهم الكثير. لعلنا كذلك في ألفيتنا الثانية، ما زالت ذاكرتنا تعي أغتصاب فلسطين وطرد الشعب وتشريده بين المخيمات، ثم دمار العراق الحجر والبشر، الأرض والتراث، ومازالت نفس القوى الأستعمارية ترفع شعار (حقوق الأنسان) ذلك حين يتناسب رفع الشعار مع تطلعات المصالح، وليس الأمر مجرد الوقوع في هوى الأنسان وبحقوقه وسلامته، وانما المصالح وحدها هي الحاكمة، والشعارات جاهزة. ذلك جانب من الأزمة الليبية، أما الجانب الآخر من المشكلة، فهويتمثل في الواقع الليبي ذاته، حيث ان ليبيا تعاني من عدة فراغات. فراغ ديموجرافي حيث المساحات الشاسعة وقلة الكثافة السكانية، وفراغ سياسي حيث تفتقر الى حيوية المنظمات السياسية والاجتماعية الفاعلة، بحكم عملية الهيمنة التي خلفها حكم استمر أكثر من أربعين عاما، استحوذ فيها على كل السلطة من خلال تنظيمات وهمية (اللجان الشعبية)و(النظرية الثالثة) و(الكتاب الأخضر)، و(الجماهيرية العظمى) وكانت النتيجة أنه أفرغ طاقاتها من الكوادر المتمرسة بالعمل السياسي الجاد، الذي يكفل معه بناء الدولة. ثالثا الفراغ الثقافي، فبرغم ان مستوى التعليم قد ارتفعت معدلاته أبان حكم القذافي، الا ان طبيعة النظام وانغلاقه في اطار ثقافة النظرية الثالثة ومسابقاتها، قد أوصد الباب تماما أمام قيام مؤسسات ثقافية ترسخ معاني المعرفة. لذلك أصبحت ليبيا أثر قيام ثورة (حقيقية) على حكم احتكر السلطة وفرض فلسفته على المناخ السياسي بأكمله زهاء أربعة عقود من الزمن، اصبحت ليبيا بفضله ملاذا ومنطقة جذب لتيارات وتنظيمات قامت لتعاكس حركة التطور والتاريخ، والكثير منها يخضع لتأثير طموحات أنظمة وأجهزة، وليس الأمر فقط أنها تنظيمات مغلقة الفكر، عقيمة الأجتهاد، تعيش في اطار غيبوبة كاملة عن صحيح الدين وأهدافه ومراميه، في صلاح الفرد والأمة، وصناعة حضارة تليق بالمكانة الرفيعة لدين الرحمة والعزة وكرامة الانسان، ولكن الأدهى والأمر انها تحتكم للسلاح، ولاتقيم وزنا لفكرة الدولة والوطن، وتخضع لمعايير السمع والطاعة، وتسلم أمرها لمن لا تعرف مستوياته التنظيمية ولا لمن يدين بالولاء، فضلا حتى عن نواياه. على ذلك أصبحت ليبيا بين فكي الكسارة تترصد واقعها وبالتالي يحمل التأثير على مستقبلها.

اتفاق الصخيرات

اندلع الصراع بين التظيمات المتطرفة على الأرض الليبية، وهو احتمال له ما يبرره، من طموح كل منها في الأنتشار وبسط السيطرة، وعلى جانب آخر قامت بعض القوى المدنية في محاولة لتشكيل مؤسسات مدنية، وهياكل لأعادة بناء الدولة من برلمان منتخب وحكومة مسؤولة تعمل على استتباب الأمن، والمضي قدما في رعاية المجتمع وتحقيق تطلعاته، ولكنها لم تكن تملك القوة التي تجعلها تهيمن على قرارها السياسي على اي شكل أو مستوى. أصاب القلق كل أصحاب المصالح من القوى الكبرى النافذة في المنظمات الدولية، فسارعت الى عقد اتفاق في

السفير بول بريمر
الحاكم المدني للعراق بعد احتلاله
قام بحل الجيش العراقي فور احتلال العراق

مدينة (الصخيرات) المغربية بتاريخ 17 ديسمبر عام 2015 تحت رعاية الأمم المتحدة وباشراف المبعوث الأممي مارتن كوبلر، لأنهاء الحرب الأهلية الليبية التي اندلعت في عام 2014، نتيجة لتقاطر تلك المنظمات، واستفحال خطرها. توافقت بعض القوى على بنود الأتفاق وبدأ العمل بنصوصه في ابريل عام 2016، واختير المبعوث الأممي الوزير اللبناني الأسبق (الدكتورغسان سلامه) وهو أستاذ أكاديمي يستند الى تاريخ سياسي وثقافي جيد لكي يباشر عملية المتابعة، والتحضير الى عقد مؤتمر موسع لكل القوى السياسية والمنظمات صاحبة التأثيرفي القرار السياسي للأتفاق على وضع برنامج محدد الملامح لنظام الحكم الذي تسير عليه البلاد، واعتبر ذلك محاولة للوصول الى حل سياسي، يجنب البلاد احتدام حركة الصراع، وتفاعلها.

ماذا يقول المبعوث الأممي الدكتور غسان سلامه؟

يقول الدكتور غسان سلامه في تقريره لمجلس الأمن بتاريخ 18 يناير 2019 في عرضه للأوضاع القائمة في بعض المدن الليبية. قال عن المنطقة الجنوبية :ان الظروف آخذة في التدهورعلى نحو مفزع، فقبل بضعة ايام اتيحت لي الفرصة لزيارة عاصمة المنطقة الجنوبية  »سبها« والتي كانت الزيارة الاولى من نوعها لممثل خاص للأمين العام منذ 2012، واستمعت مباشرة هناك للمواطنين الذين أخبروني بشكل مؤثرعن المصاعب المؤلمة التي يقاسونها من وحشية  »تنظيم داعش« الى وضعهم المعيشي في برك من المياة الآسنة التي تجمعت نتيجة لغياب الأستثمار في البنية التحتية العامة والأساسية، فضلا عن غياب الأمن بسبب الحدود السهلة الأختراق ووجود المرتزقة الأجانب والمجرمين الذين يهاجمون المواطنين والمهاجرين، بينما أعرب العديد منهم عن تخوفهم من مغبة مغادرة أي فرد من افراد أسرهم لمنازلهم بعد غياب الشمس، ويشير الى المحتجزين في السجون والمهاجرون وأعضاء هيئة القضاء وغيرهم الذين يتعرضون للأساءة وأعمال العنف على ايدي المجموعات المسلحة. قال بالنسبة الى مدينة  »درنه« أنه بسبب استمرار القتال بين الميليشيات أضطرت أسر يكاملها للتهجير، وتم منع وصول المساعدات الأنسانية عن أهالي المدينة القديمة، وتم اعتقال المدنيين بمن فيهم من نساء وأطفال في مراكز الاحتجاز دون توجيه تهم اليهم، ثم قال عن العاصمة  »طرابلس« التي تديرها حكومة (فايز السراج) وهي الحكومة المعترف بها دوليا، فتحدث عن الأنتهاكات التي تقوم بها الفصائل المسلحة، وكان آخرها الهجوم التي قامت به  »داعش« في 25 ديسمبر 2018 على وزارة الشؤون الخارجية في طرابلس، وذكر الدكتور غسان الى أنه يعمل على احالة السجون الواقعة تحت قيضة المجموعات المسلحة الى وزارة  »العدل«. انتهى الدكتور سلامه الى أن الأزمة السياسية في ليبيا تعززها شبكة معقدة من المصالح الضيقة، في ظل اطار قانوني مختل ونهب لثروات البلاد الكبيرة. انتهت المقتطفات من تقارير الدكتور سلامه، ولكن لابد أن نضيف في نهاية هذا العرض لتقاريره تصريحه في 27 مارس الماضي الذي ذكر فيه (ان هناك مليونيرا جديدا يظهر كل يوم في ليبيا) اشارة الى كم الفساد الذي يمرح في ارجاء البلاد.

حفتر.. الأزمة والدور

حين تعلن حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج أن تحرك اللواء خليفة حفتر بقواته، قد ساهم في تصعيد الأزمة الليبية بعد أن تمت التحضيرات للبعثة الأممية في ليبيا لعقد الملتقى الوطني الجامع في مدينة (غدامس) للخروج، بمقترحات محددة لحل الأزمة السياسية والأمنية والأقتصادية، والتمهيد بذلك لأجراء انتخابات ترسي قواعد الدولة، وان هذا التحرك من شأنه هدم كل ما انتهينا من بنائه ، يتبادر الى الذهن سؤال محدد، أذا كانت البلاد محكومة بالمليشيات العسكرية المسلحة، بما فيها الميليشيات التابعة أو القريبة من الحكومة، فأي قرارات يمكن أن تتخذ من ذلك المؤتمر الجامع، وبعض عناصره على الأقل ليست فوق مستوى الشبهات. ؟ أي قرارات تلك ولمصلحة من سوف ترسو أو تصب ؟، ان وجود السلاح في ايدي تلك الجيوش المتناحرة، ان لم يكن يهدد انعقاد المؤتمر أساسا، فهو يتحدى اماكنية نجاحه، وحتى ان نجح، فهو يهدد استمرار ذلك النجاح. انها منظمات وظيفتها الأقتحام، ونهجها هو تحدى كل من يخالفها، أو يعترض طريقها، لا سيما، وأن كل منها له رؤاه الخاصة وكذلك تنظيمه الخاص الذي يدين له بالولاء، فضلا عن أن تلك التنظيمات تضم في عضويتها عناصر غير ليبية او حتى عربية، تحمل نفس السلاح ولاتنتظر سوى اصدار الأمر لكي تتحرك وتنجز، ولقد رأينا في تقارير الدكتور غسان طبائع الأمور وغرائبها. في النهاية قد تتعدد الرؤى بشأن الأزمة الليبية، وطرق حلها، ولكن الخطوة الأولى وقبل عقد المؤتمرات والبحث عن حلول توافقية، ومن خلال عمل سياسي ناجح ورصين يحفظ للحوار موضوعيته ويضمن للأتفاقات تنفيذها، وجود قوة أساسية حاكمة ونافذة تمتثل للأرادة الشعبية، وتلتزم بقرارات الحوار ونتائجه، وقبل أن يعول عليها سياسيا، يعول عليها عسكريا.

لابد للأرادة الوطنية أن تتحصن بقوى وطنية فاعلة وقادره، وليست هناك قوة أكثر صلابة وقدرة سوى الجيش. درع الوطن وقلعته الشامخة. لعلنا نذكر- والتاريخ خير معلم – ان القرار الأول للأدارة الأمريكية بعد غزو العراق كان (حل الجيش العراقي). كان حل الجيش، وهو الدرع

اللواء أحمد المسماري المتحدث الرسمي للجيش الليبي
نريد طرابلس من أجل هيبة هذه الدولة

الحقيقي الذي يحمي الأوطان، ويزود عن الشعب. كان حل الجيش البداية الحقيقية لكل الكوارث التي ألمت بالعراق بعد أن تم غزوة. ان كان قد قدر لليبيا – في أتون معاركها – ضد الفساد الذي يرتع على أرضها، وضد التنظيمات التي تريد ان تفرض رؤاها وعقائدها، وضد القوى الخارجية التي تريد أن تنهب قدراتها وثرواتها، أن يكون لها قواها التي تخلص لها، فلن تكون سوى ذلك النفر من ابنائها، ومن قواها المسلحة لكي تحفظ لها مع الأمن، والثروة والأرادة كل وجودها، ومن ثم مستقبلها، وكما قال المتحدث باسم الجيش الليبي اللواء أحمد المسماري  »لا نريد طرابلس من أجل كرسي أو من أجل سلطة أو من أجل مال، نريد طرابلس من أجل الكرامة، نريد طرابلس من أجل هيبة هذه الدولة«. وان كانت هناك اضافة، فهي كل التمني لرجل الأقدار(خليفة حفتر)ورجاله الميامين أن ينجحوا في دحر الأرهاب، ثم يتبنى مشروعا سياسيا يفتح الباب لمستقبل عماده الديموقراطية، واعلاء كلمة الشعب.

 

 

 

العدد 94 – تموز 2019