لبنان أمام خيار تحصين جبهته الداخلية

مواجهة الإرهاب بالتنسيق السياسي والأمني والقضائي

بيروت – غسان الحبال

أعادت الجريمة الارهابية التي شهدتها مدينة طرابلس عشية عيد الفطر الماضي، وسقط جراءها شهداء وجرحى للجيش الليناني وقوى الأمن، طرح مسألة الأمن بالتراضي على بساط البحث، كما أعادت للأذهان التسوية التي أدت إلى خروج مسلحي داعش من جرود عرسال، بواسطة حافلات مكيفة كما تم التداول وقتها في خضم الصراع والتراشق السياسي-الطائفي-المذهبي.

ويبدو أن اللبنانيين الذين دفعوا ثمنا فادحا لتسوية الأمن بالتراضي، مرشحون اليوم لدفع المزيد من الأثمان نتيجة هذه التسوية التي أصبحت مكشوفة كمصدر خطير للفوضى وانعدام الأمن بعد أن تبين أنها وضعت لبنان والأمن فيه في مواجهة المصير المجهول نتيجة تحييد السلطات القضائية والأمنية المعنية، وأبعادها عن دور السلطات السياسية التي تعمل وفق المصالح والأراضي وتوزيع المغانم.

والسؤال الاكثر خطورة المطروح اليوم، والمفتوح على احتمالات أمنية تهدد استقرار لبنان مجددا، هو: إذا كان الارهابي الداعشي الذي ارتكب جريمته بدم بارد قد خرج من السجن بتدخلات سياسية، فأين اعين الأمن التي تراقب كل حركة لمنتقدي فساد ارباب السلطة الذين يتم

العناصر الأمنية تدفع دائما ثمن تراخي الجبهة الداخلية

استدعاؤهم الى التحقيق، والذين لا يمتلكون مخططات تخريبية وليس لديهم نزعات انتحارية مرضية كما هي الحال مع الارهابي الذي ارتكب جريمة طرابلس؟

ماذا ينتظر اللبنانيين؟

يحذر الباحث في العنف الديني والحركات الاسلامية الزميل قاسم قصير، في دراسة تحليلية نشرها موقع  »الحوار نيوز«، من أننا اليوم  »أمام مرحلة جديدة من العمليات الارهابية التي قد تطال لبنان في المرحلة المقبلة، وهذا يتطلب اعادة البحث بالخطط الامنية واتخاذ الاجراءات المناسبة واعادة التنسيق والتعاون بين كل الاجهزة الامنية، ووقف الصراعات والسجالات السياسية، لان المجموعات الارهابية تستفيد من نقاط الفراغ واجواء الصراعات والتشنج من اجل اعادة تفعيل دورها«.

كما يرى انه بموازاة الدور المطلوب من السلطات السياسية والأمنية والقضائية،  »مسؤولية كبيرة تقع على المؤسسات الدينية ومؤسسات المجتمع المدني والقيادات السياسية والدينية ووسائل الاعلام، لاعادة لعب دور فاعل في مواجهة الارهاب ونشر التوعية«، مشيرا إلى أهمية  »العودة للدراسة التي اعدتها مؤسسة  »كارنيغي« قبل اكثر من أربعة اشهر حول اوضاع المجموعات المتشددة في لبنان وكيفية صناعة الارهابيين في لبنان، كما انه ينبغي اعادة دراسة اوضاع السجون وخصوصا سجن رومية، لأنه تحول الى مركز لاعداد الارهابيين ومقر من اجل التواصل وتلقي الأوامر لتنفيذ بعض العمليات«.

ويؤكد الزميل قصير في دراسته أيضا، على أهمية معالجة ملف الموقوفين الاسلاميين  »من خلال تطبيق القوانين والاسراع بالمحاكمات والافراج عن كل بريء وادانة كل مجرم، واما قانون العفو فهو يحتاج لمقاربة جديدة تراعي المتغيرات والتطورات في لبنان والمنطقة«.

ضرورة الاجابة عن التساؤلات

في الواقع، يشكل مجموع الإقتراحات التي وردت في دراسة مؤسسة  »كارينغي«، والتي استند إليها الزميل قصير، في دراسته وتحليله حول جريمة طرابلس الإرهابية، عناوين رئيسية يفترض أن تكون بدورها موضع دراسة لمعالجة الوضعين السياسي والأمني في لبنان، ولاسيما بالنسبة لفصل السلطات والتداخل في ما بينها، والذي ما زال يشكل عنصرا من أبرز العناصر المسببة للفوضى، التي تهدد مصير لبنان ومستقبله عموما.

ورغم الاستهلاك الإعلامي للحدث ـ الجريمة، يبدو من المفيد اعادة طرح بعض الأسئلة والتساؤلات حول العملية الإرهابية، لأن البحث عن الإجابات يشكل بحد ذاته وضع الإصبع على الجرح السياسي الذي يهدد مع كل حادثة بإعادة البحث إلى المربع الأول، اي اعادة البحث عن الحلول للصراع السياسي-الطائفي-المذهبي في البلاد والتي يمكن فتح عشرات الثغرات والاختراقات من خلاله، وتأتي في مقدمة الاسئلة-التساؤلات:

1- لقد ثبت أن توصيف تصرّف الإرهابي على أنّه يعمل منفرداً هو أمر غير صحيح، بدليل الوقائع الدامغة الناتجة عن الإعتداء إذ أنّ طريقة عمله، أظهرت وجود أمورٍ خطيرةٍ يجب التوقّف عندها:

ـ في حال كان الإرهابي غير متّزن عقليّاً ونفسيّاً، من خطّط إذاً لتنفيذ العمليّة، ومن الشخص الذي حدّد لـ »المبسوط« الأهداف البشريّة؟ بمعنى إطلاق النار على حرّاس مصرف لبنان والسرايا المجاور له وقتله لرجلَي أمن أثناء قيامهما بدوريّة أمام سنترال الميناء، وإطلاقه النار بعدها على دورية أخرى للجيش اللبناني بالقرب من المرفأ قبل أن يستقرّ في شقّة سكنيّة في إحدى الشوارع  »الهادئة«.

ـ من أين إستحصل الإرهابي على الأسلحة والذخائر، ولا سيّما أنّ الرصاص المستعمل في العمليّة كان من نوع المتفجّر والخطّاط؟ ومن ساعده على نقل عتاده الأمنيّ خلال تنفيذه جريمته؟ ومن ساعده ليتنقّل بهذه السّرعة بين شارع الميناء والمرفأ، خصوصاً أنّه ترك دراجته الناريّة أرضاً بعد إطلاقه النار على العسكريّين؟

ـ من مدّ المبسوط بالمال لدفع نفقات لوجيستيّة فيما هو عاطل عن العمل؟ وهل صحيح أنّ إطلاق النار أتى من مصدرين آخرين بالتزامن مع عمليّة الإرهابي عندما كان في  »الشقّة المتراس«؟

مجلس الأمن المركزي: المواجهة بالتماسك والتنسيق السياسي/الامني/القضائي

عندها تكون نظرية  »الذئب المنفرد« أقلّ ما يمكن وصفها بأنها نظرية الفشل الذريع للفروع الأمنيّة كافة.

2- تبقى علامات الإستفهام كثيرة، فهل يعقل بعدما تمّ توقيف المبسوط بتهم ارهابيّة، وتعبيره عن حقده للأجهزة الأمنية، أن لا يكون قد وضع قيد المراقبة؟

3- من يسهر على أمن طرابلس ولبنان؟ ولو كان المبسوط سمساراً قضائيًّا هل كان ليُخلى سبيله بهذه السرعة؟ حتّى أنّ فترة توقيفه لم تتعدَّ فترة توقيف المُقرصن ايلي غبش؟

4- من هو القاضي الذي إدعى في النيابة العامة العسكرية على هذا الإرهابي؟ وهل كانت المواد مخفّفة؟ ومن نظّم له قراراً ظنيّاً سمح للمحكمة العسكريّة بتخفيض عقوبته الى ما يزيد عن السنة بشيء بسيط؟ ومن أخلى سبيله بعدما أوقف مرّة ثانية في المرفأ؟ ومن حضنه من سياسيّي طرابلس وسعى الى إخلاء سبيله أصلاً؟

5- من إستغلّ في السّابق موقع وزارة العدل لإخلاء عدد كبير من الإرهابيّين؟ وهل تمّت مكافأة القضاة الذين كانوا في السّابق يمنعون المحاكمة عن أمثال مسبوط بحجة الإنفتاح وإعطاء فرص لهؤلاء الإرهابيّين؟

6- أيّ عضو من لجنة الإدارة والعدل سيفتح تحقيقاً مع القضاة الذين توالوا على ملفّ الإرهابي و »زملائه الإرهابيّين« بين عامي 2014 و2016؟

7- ويبقى السّؤال: هل هناك من ارتباط مصالح بين بعض السياسيّين والقضاة الضالعين بملفّ هؤلاء الإرهابيّين؟ ومن سيحاسَب؟

وهنا تكمن الخطورة في الاجابة على السّؤال الأخير في ما لو تم اختيارها بـ »طبعاً لا أحد«، لأنّ هناك من اجتهد واختصر التحقيق، وجزمَ بأنّ عبد الرحمن المبسوط، غير مستقرّ نفسيّاً وكان يعمل منفرداً.

تصويب مسار التساؤل.. والتحقيق

في الواقع ان الجدل الذي دار بين بعض القيادات السياسية والأمنية اللبنانية حول عما اذا كان الإرهابي عبد الرحمن مبسوط قد بادر إلى تنفيذ جريمته بشكل فردي، او أن الجريمة كان مخطط لها من قبل مجموعة او أكثر، يعتبر جدلا في غير مكانه يستند إلى هدف قد يأخذ التحقيق إلى مكان يفتقد إلى الدقة لان خلفيته هي تبادل الاتهام بالمسؤولية عن إطلاق سراح مبسوط.

وهنا تصبح العودة إلى الدراسات الامنيّة أمرا ضروريا لتصويب مسار البحث عن الحقائق، إذ تشير الدراسات الأمنية إلى أنّ تنظيم داعش دأب منذ وقتٍ طويلٍ، على استخدام مواقع التواصل الإجتماعي، والإنتشار عالميّاً من خلالها عبر ما يزيد عن 90 ألف صفحة موزّعة بين  »فايسبوك« و »تويتر«، وغيرها من التطبيقات باللغة العربية، بالإضافة الى حوالي 40 ألف صفحة تُنشر بلغات أخرى، ممّا يُسهّل قدرات التنظيم على تجنيد عناصرٍ جددٍ له بشكلٍ مستمرّ.

ويَظنّ البعض، أنّ إستراتيجيّة  »الذئب المنفرد« وُلدت مع  »داعش«، الا أنّ العمل الفكري هذا بدأ مع تنظيم  »القاعدة« أولاً، ثم تبناه  »داعش«، إذ إقتبس أسامة بن لادن قواعد الإشتباك الفرديّة تلك، ابتدأً من العام 1990 من طريقة عمل العنصريين الأميركيين  »ألكس كيرتس« و »توم متذغر«، حين شكّلا في حينه ما يُعرف اليوم بالخلايا الفردية والصغيرة، بغية العمل بسريّة تامّة، بدلاً من العمل كمنظمات كبيرة.

ومنذ ذلك العام، ظهرت في الولايات المتحدة مجموعات لتنفيذ هجمات عنصرية للقبض على غير البيض بكلّ الوسائل المتاحة، والترويج للاغتيالات.

إلا أنّ إستراتيجيّة الخلايا الصغيرة تطوّر عملها مع تنظيم القاعدة في العراق، حيث دمج بن لادن بين عمل الخلية الصغيرة وطريقة عمل الجواسيس المنفردة، فنتج عن ذلك كتيّب مؤلف من 62 صفحة، ضمّ  »وصاياً« عشر تشكّل القاعدة الأساس لأي مجموعة إرهابية تعمل بشكل سريّ ومنفرد كقطعان الذئاب، والتي يَنفصل اعضاؤها للعمل بعد ذلك كذئابٍ منفردة، عند بدء المهمة مهما طالت مدتها.

ومن أهمّ  »الوصايا« الواردة في الكتيّب المذكور والمتفقة بالشكل مع  »منشورات الخلافة الإعلامية« توجيهات تتعلق بالآتي:

1- الابتعاد قدر الإمكان عن محل إلاقامة الأساسي والتنقل كلّ فترة من منطقة الى أخرى.

2- تجنّب إستعمال الهواتف الخلوية وتشفيرها.

3- حلق اللُحى.

4- إرتياد الخمّارات من دون المغالاة في معاقرة الخمر.

5- إرتداء الملابس الغربية ولكن على الثياب ان لا تكون جديدة، لبيان ان مرتديها مندمج مع محيطه حتى لا يثير الشبهات.

6- عدم الصلاة في المساجد بشكلٍ منتظم.

7- التواصل بين العناصر في أماكن عامة مكتظة بشكلٍ ممّوه.

8- تزويد العناصر بالاعتدة العسكرية واللوجستية، عبر تركها في أماكن متعارف عليها بين فريق الخلية الواحدة.

9- الاجتماع مرّة واحدة قبل العملية مباشرة، لتحديد الأهداف ودقة تنفيذها وكيفية الانسحاب.

10- التسلح بالأحزمة الناسفة وقتل اكبر عدد من  »الكفّار« عند التفجير. الى جانب توجيهاتٍ عامةٍ أخرى.

وقد إتّبع ‎الداعشي محمد مراح توجيهات الوصايا المذكورة، وهو يعتبر رائد عمليات  »الذئب المنفرد« ومنفذ ما عُرف لدى داعش بـ »غزوة تولوز المجيدة« في 11 آذار 2012.

وبحسب ما كشفت التحقيقات انذاك، فإنّ مراح لم يكن ذئباً منفرداً في الحقيقة، إنما إنضمّ إلى إحدى الجماعات الأصولية المتطرفة التي أطلقت على نفسها اسم  »جند الخليفة«.

ومن هنا يمكن وضع مفهوم  »خلية ذئاب منفردة إرهابيّة« في مكانه الصحيح بمعنى أنها خلية تتبنّى المعتقدات المتطرّفة، ما يطرح علامة استفهام تستدعي التوقف عندها، حولَ ما اذا كان واضعو مثل هذا الكتيّب عناصر جهاديّة مبتدئة؟ أم أنّ وراءه عقولاً لها خبراتها الطويلة في عالم الاستخبارات الدولية، والعمليّات السريّة في عمقِ دولٍ أجنبية، وإحتراف فنون التنكّر والقتال، لا العمل العشوائي المبتدئ لشخصٍ غير متزنٍ عقلياً؟

الإرهاب ليس عملا فرديا

وهذا ما حاول الزميل قاسم الإشارة إليه في عدد من الملاحظات التي سجلها في دراسته الأخيرة، والتي يمكن ان تساعد في تشكيل صورة كاملة عن جريمة طرابلس الارهابية. والتي خلص بنتيجتها إلى أن عملية طرابلس الإرهابية جاءت بعد ثلاث سنوات من اخر عملية ارهابية حصلت عبر الهجمات الارهابية في بلدة القاع البقاعية في حزيران 2017، وبعد ان نجح لبنان في القضاء على المجموعات الارهابية في جرود عرسال والقاع، واكتشاف العديد من الشبكات الارهابية التي كانت تخطط لعمليات ارهابية، وقد حقق لبنان نسبة عالية من الامن الوقائي عبر اكتشاف العمليات قبل حصولها واعتقال عشرات الارهابيين قبل تنفيذهم للعمليات.

كما ترافقت هذه العملية مع عودة اجواء التصعيد في المنطقة، واجواء التصعيد السياسي والمذهبي في لبنان والصراعات بين الاجهزة الامنية فيه، ما يشير الى وجود زعزعة في الاجواء السياسية والامنية عشية التحضيرات لعيد الفطر وموسم الاصطياف المقبل.

ويخلص الزميل قصير في دراسته إلى استنتاجات واقعية أخرى من خلال معطيات التحقيق مفادها أن تنقل الارهابي مبسوط وعلاقاته في سوريا وتركيا تؤكد انه ينفذ خطة مسبقة وان ما يقوم به جزء من امر عمليات ارهابي، وأن من يعرف طريقة تفكير المنتمين للتنظيمات الارهابية المتشددة، يدرك ان اي ارهابي لا يقوم بأي عملية من دون خلفية فكرية او دينية او شرعية وانه يأخذ الموافقة على ذلك، ويستند إلى وصية الارهابي ورسالته لزوجته ليؤكد انه يقوم بعمل مخطط له وليس مجرد رد فعل، وان هكذا عمليات ارهابية لا يمكن ان ينفذها شخص بمفرده وانه يحتاج لدعم لوجيستي وعملاني ومالي، الامر الذي يفترض ان يؤدي للبحث عن الشركاء والممولين ومن اعطى الاوامر.