همس عن قنوات خلفية ووساطات سرية تعد لطاولة مفاوضات حتمية

واشنطن-طهران: ضجيج العسكر ومفاوضات الساسة!

محمد قواص (*)

كثير هو الضجيج حول احتمالات الصدام والحرب بين إيران والولايات المتحدة. تحريك سفن وحاملة طائرات وإرسال قاذفات أميركية استراتيجية يوفر أعراض عسكرة محتملة للصراع بين واشنطن وطهران. إدارة الرئيس ألأميركي دونالد ترامب تصعد منذ قراره بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران والموقع في فيينا عام 2015. الأمر تلاه قرارات بفرض عقوبات اقتصادية وصفت بالتاريخية في قسوتها ضد إيران إلى درجة  »تصفير« تصدير النفط من إيران.

ورغم هذا الاستنفار العسكري الأميركي من جهة وتهديد إيران بعواقب خطيرة قد يتعرض لها الانتشار العسكري الأميركي في المنطقة من جعة أخرى، إلا أنه أحد يريد حربا ضد إيران. لا واشنطن ولا عواصم المنطقة ولا عواصم العالم ولا طهران طبعا. وما يصدر رسمياً حتى الآن عن رأس السلطة في الولايات المتحدة لا يشي بأن واشنطن تدفع، خصوصا الرأي العام الداخلي، باتجاه تنظيم حملة عسكرية على شاكلة تلك ضد يوغسلافيا السابقة وضد أفغانستان وضد العراق.

حديث الحرب والسلام

لا أحد في إيران يريد حرباً. بإمكان جنرالات الحرس الثوري أن يهددوا ويتوعدوا ويهوّلوا، بإمكان أحدهم أن يعدنا بهزيمة الولايات المتحدة واندثارها ويبشرنا آخر بزوال دولة إسرائيل، إلا أن تلك الجلبة لا تخفي ارتباكاً داخل منظومة القيادة الإيرانية، بوليها ورئيسها ووزير

هل تعد الولايات المتحدة للحرب ضد إيران؟

خارجيتها، تستبعد الحرب، وتسعى لإقناع الإيرانيين وطمأنتهم أن لا كارثة قادمة على إيران.

 في بيروت أيضاً يعلن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أن لا حرب قادمة وأن العدو يعجز عن شنّ تلك الحرب. غير أنه يستطرد صارخاً فيما بعد، على نحو يتناقض مع نبوءته الأولى، أن أي حرب ضد إيران ستشعل المنطقة برمتها. وأيا كانت وجهة التهديد والوعيد فإننا وحتى انجلاء ضباب هذه المرحلة سنشهد حربا نفسياً وتصريحات نارية تخفف من الضجر المحيط بواقع المراوحة التي قد تتسم بها الأزمة بين واشنطن وطهران.

لا تريد إيران التفاوض مع الولايات المتحدة. بالمقابل يقبل حزب الله، من خلال الدولة اللبنانية، التفاوض مع إسرائيل، وبرعاية الولايات المتحدة نفسها. تكابر طهران في مقاربة أزمتها مع دول العالم الكبرى (بما في ذلك مع روسيا والصين)، غير أن قنوات التواصل، المتعددة النوافذ، تنشط في الإعداد لليوم الذي تنبسط فيه طاولة المفاوضات.

تطور بيروت

من قنوات التواصل الخلفية هي تلك التي تجري في بيروت. شيء ما حصل قبل أنزل  »وحيا« على قصر بعبدا أملى استدعاء السفيرة الأميركية (9 مايو) لإبلاغها قرارا جديدا في شأن النزاع الحدودي بين لبنان وإسرائيل. لم يكن الرئيس ميشال عون ليتحرك ويبادر ويُعد ورقة تحدد خريطة طريق لإنهاء النزاع وإقفال ملف الحدود البرية والبحرية مع إسرائيل دون ضوء أخضر، وربما بطلب، من حزب الله.

اجتمع فجأة قبل ذلك (6 مايو) الرؤساء الثلاثة (عون ونبيه بري وسعد الحريري) تحت سقف قصر بعبدا. توافقوا على استراتيجية واحدة يقارب بها لبنان مسألة الحدود مع إسرائيل. قيل إن قرار الرؤساء الثلاثة اتخذ دون استشارة حزب الله. هذا ما قيل.

غير أن الرصانة واحترام العقل يستدرجان استنتاج أن الحزب بارك قرار بيروت ورعاه. صمتُ الحزب ومنابره ومحلليه يكشفُ عن تغطيته السياسية الكاملة لعملية تفاوض لبنانية إسرائيلية ستجري، مباشرة، بوساطة أميركية، ومشاركة الأمم المتحدة في الناقورة داخل مقرّ قيادة قوات حفظ السلام  »اليونيفيل« في الجنوب.

استدعى عون سفيرة الولايات المتحدة في لبنان اليزابيث ريتشارد. سلمها الورقة-الخريطة التي أعدها. بدا أن سعادة السفيرة فوجئت بهذا التطور غير المتوقع بالنظر إلى مواقف بيروت السابقة. جالت على الرئيسين بري والحريري للتأكد من أن عون لا ينطق عن هوى، و »إن هو إلا وحيّ يوحى«، وبأن النظام السياسي اللبناني الذي يشتغل وفق ما يتّسق ولا يتناقض أبداً مع أجندة حزب الله، مجمعٌ، ودون أن يرمش جفن تيارات الممانعة، على العبور نحو التسوية في ملف ساخن لطالما كان العذر المحوري لديمومة  »سلاح المقاومة«.

قدم نصر الله سلاح حزبه بصفته الضامن لحقوق لبنان من النفط والغاز في منطقته الاقتصادية الخالصة. بدا أن تحوّلا كبيراً طرأ على خلفية التصعيد الذي تمارسه واشنطن ضد طهران. وبدا أن إيران تخاطب الولايات المتحدة من خلال بوابة إسرائيل العزيزة على قلب واشنطن وإدارتها ورئيسها. صدر ما يشبه المعجزة، أن فاوضوا وافتحوا سبل الوصل مع إسرائيل.

الأمر ليس تفصيلاً عرضياً. خرائط كثيرة خرجت من خزائن العواصم الكبرى بالتناغم مع العزف الصاعق الذي خرج من بعبدا.

خرائط تتعلق تارة بصفقة القرن. خرائط تتعلق بسوق الغاز الذي تتقاطع داخله دول المنطقة المعنية (مصر واليونان وقبرص ودول أخرى) كما الدول المعنية بإرسال شركاتها الكبرى في التنقيب عن النفط والغاز (روسيا، فرنسا، إيطاليا، الولايات المتحدة ودول أخرى).

خطاب سلم وازدهار مع إيران

خرائط تتعلق بمستقبل الوضع في سوريا ومسارعة الصين مثلاً لإرسال شركاتها للتمركز في البقاع اللبناني استباقا لاستثمارات هائلة مرتبطة بخطط الإعمار المقبلة في سوريا.

الأمر جدي إلى درجة أن مساعد نائب وزير الخارجية الأميركي ديفيد ساترفيلد الذي يعرفه لبنان واللبنانيون جيداً جاء على عجل من واشنطن إلى بيروت (14 مايو).

فجأة توقفت تل أبيب عن جلد لبنان وحزب الله بالتهديدات. فجأة أفرجت إسرائيل عن مواقف إيجابية بشأن ملف النزاع الحدودي. فجأة يتحدث وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتز عما يحقق  »مصالح البلدين في تطوير احتياطات الغاز الطبيعي والنفط«. فجأة بدا أن لبنان بات جزءا من الحل داخل النزاع الأمريكي الإيراني بعد أن كان جزءا من المشكلة.

يفترض ترسيم الحدود مع إسرائيل عمليا أن ينهي الاشتباك مع إسرائيل. قبول ورعاية حزب الله لمبدأ التفاوض والاتفاق مع إسرائيل لتدبير ملف من شأنه إنهاء النزاع مع إسرائيل، يكشف المدى الذي بدأت إيران تذهب به في مداولاتها الخلفية مع الولايات المتحدة. العبور إلى حل النزاع الحدودي، هو عبور إلى السلم والانتقال إلى مرحلة الاستثمارات النفطية الكبيرة في مياه لبنان ومياه المنطقة، وإلى مرحلة الإعداد للورشة الاعمارية الكبرى في سوريا. مراحل كهذه لا تحتاج إلى سلاح حزب الله، ولا يمكنها التعايش مع هذه الظاهرة النافرة في نظام العلاقات الاقليمية والدولية المرتبطة بملفات الاستثمار الكبرى الملوَّح بها في المنطقة (الغاز، سوريا، صفق القرن).

لبنان نفسه بات داخل تلك الخرائط منذ مؤتمر سيدر الشهير. لم يكن ذلك المؤتمر تقليديا في مضامينه الحسابية. ظهر بعد ذلك أنه مؤتمر سياسي كبير يتجاوز واجهته الاقتصادية المملة. في روحية المؤتمر ما يرتبط بمستقبل لبنان ووظيفته وحدوده (مع سوريا أيضا) ودور جيشه، كما مستقبل سوق الطاقة الواعدة في مياهه، كما تموضعه المقبل داخل منتدى غاز شرق المتوسط (تشكل في القاهرة أوائل هذا العام). كان على لبنان أن يقر موازنة قاسية تضبط العجز في حدود 7.6 بالمئة مع ما يسببه ذلك من غضب شرائح اجتماعية تستغرب تواطؤ كل الطبقة

ما خيارات طهران العسكرية؟

السياسية، بما في ذلك حزب الله، على فرضها.

تحدث ساترفيلد عن ضرورة اعتماد لبنان استراتيجية دفاعية تنهي ظاهرة حزب الله. لا يهم ما صدر وسيصدر عن لبنان وحزب الله من رفص لهذا المطلب أو تحفظ عليه، ذلك أن أمراً جللاً حدث في الأيام الأخيرة دفع وزير الدفاع اللبناني، الياس بوصعب، القريب من الرئيس عون، للانقلاب على مواقفه السابقة كما مواقف عون والتبشير بحوار داخلي للوصول إلى الاستراتيجية الدفاعية المتوخاة لكي يصبح سلاح لبنان بإمرة جيشه.

صفقة في سوريا

لكن مداولات التعامل مع الحال الإيرانية تذهب أبعد من ذلك ويمس ملفا استراتيجيا بالنسبة لإيران يتعلق بالنفوذ الذي تملكه طهران في سوريا.

فجأة يُعلَن عن اجتماع أمني أميركي روسي إسرائيلي رفيع المستوى يبحث في مستقبل الوجود الإيراني في سوريا. فجأة يُكشف عن ورشة كبرى تفتح ملف التسوية السورية من بوابة النفوذ الإيراني في هذا البلد. فجأة بدا أن أحد مفاتيح الحلّ للأزمة الراهنة بين إيران والولايات المتحدة يكمن عملياً في تحقيق تقدم على طريق ضبط وتقليص حضور طهران داخل الساحة السورية.

بدت التسريبات حول مقايضة مقبلة همساً يؤسس لخريطة طريق يخطها أصحاب الشأن من أجل تحقيق مصالح تتقاطع في هذه اللحظة النادرة. ولئن ترسم تلك الخريطة باجتماع يضم روساً وأميركيين في ضيافة إسرائيليين أواخر هذا الشهر، فذلك أن قماشة تلك الورشة تقوم على حرص موسكو وواشنطن على وضع استراتيجية عمادها الأول حماية إسرائيل.

بات الأمر معلناً في واشنطن كما في موسكو. الاجتماع يعقد في القدس الغربية، يضم رؤساء مجلس الأمن القومي الأميركي جون بولتون ونظيريه الروسي نيكولاي باتروشيف والإسرائيلي مئير بن شبات. وأن يحضر بولتون، الذي يقود التيار الصقوري المعادي لإيران داخل الإدارة الأميركية هذا الاجتماع مشاركاً في وضع ما يراد له من ترتيبات في سوريا، فذلك يعني أن شرط تقييد نفوذ إيران في المنطقة، وفي سوريا خصوصا، بات قيد الإعداد والترتيب، بالشراكة الكاملة مع روسيا المفترض أنها حليف استراتيجي لدمشق.

الإعلان عن اجتماع كان بالإمكان، بسبب طابعه الأمني، أن يبقى طي الكتمان، هدفه إبلاغ طهران بشكل مباشر وجلي، أن العالم، بما في ذلك حليفها، ذاهب بجدية للتعامل مع السلوك الشاذ لإيران في العالم. ولئن تحدث وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، صاحب الشروط الـ 12 الشهيرة، قبل أيام، عن استعداد بلاده للتفاوض مع طهران  »دون شروط مسبقة« إذا ما قررت إيران أن تكون  »دولة عادية«، فذلك أن نفوذ إيران خارج حدودها بات متقادماً بعد أربعة عقود من حكم بمنطق الثورة بما يتناقض مع منطق الدولة.

أمر تلك الورشة الثلاثية تقلق إيران. أولا لأن الأمر يأتي تنفيذا لتفاهمات جرت على مستوى الرئيسين، الروسي، فلاديمير بوتين، والأميركي، دونالد ترامب، خلال اجتماعهما الشهير في هلسنكي (يوليو 2018). وثانيا لأن عنوان وقاعدة وأعمدة هذا الاجتماع تتأسس على كيفية العمل على ضمان أمن إسرائيل، بما يخصّب الاجتماع بجدية مستوحاة مما أبداه الروس والأميركيون، على الرغم من خلافاتهما الكبرى في ملفات دولية أخرى، من حرص على عدم التهاون بما من شأنه تهديد إسرائيل وما تراه من ضرورات لحماية أمنها.

ما الذي يعنيه بومبيو بالتفاوض مع إيران دون شروط؟

لا تستجيب موسكو وواشنطن لمزاج عربي لطالما كرر المطالبة بخروج إيران من سوريا بل لمزاج إسرائيل، وهنا قلق طهران.

يتأسس ذلك القلق على حقيقة أن روسيا لم تقارب الوضع السوري بالنسخة التي بدأت عسكريا (سبتمبر 2015) إلا بعد تفاهمات جرت بين بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. صحيح أن الجنرال قاسم سليماني هو من أبلغ موسكو بخطورة ما يتهدد نظام دمشق مناشدا الروس بالتدخل، وفق ما بات معروفاً، إلا أن بوتين الذي التقط تلك اللحظة الدراماتيكية التي يعاني منها تحالف دمشق-طهران، لم يلتق آنذاك بنظيره الأميركي باراك أوباما في نيويورك لأخذ  »بركة« واشنطن لخططه في سوريا، إلا بعدما نال مسعاه  »بركة« إسرائيل قبل ذلك.

تراقب طهران الورشة الأميركية الروسية الاسرائيلية هذه الأيام، وهي التي راقبت بألم ذلك التواطؤ الروسي العلني الذي وفّر بيئة حاضنة للعمليات العسكرية الإسرائيلية، التي لا تنتهي، ضد مواقع إيران وميليشياتها في سوريا، كما ضد مواقع لنظام دمشق، كلما ارتأت تل أبيب أنها تمثل خطراً على أمن إسرائيل. لم توقف موسكو تلك الرعاية على الرغم من الأزمة الخطيرة في أعقاب حادثة إسقاط طائرة عسكرية روسية (سبتمبر 2018) بسبب مناورة خاطئة قامت بها المقاتلات الإسرائيلية في سماء السواحل السورية.

ضبط النفوذ الإيراني في سوريا هو مطلب إسرائيلي بامتياز، لكنه أيضاً مطلب عربي، لطالما عبرت عنه منابر خليجية، سعودية خصوصاً، كشرط من شروط الانخراط في ورشة التسوية السورية. والمطلب أميركي أوروبي أيضاً قبل البدء في تعامل العالم الغربي مع مفردات انتهاء الحرب والشروع بعمليات إعادة الإعمار. لكن الأدهى أن ذلك المطلب هو روسي لم توار موسكو الجهر به كمقدمة لإنجاح المسعى الروسي في رعاية تسوية سياسية تحظى بدعم عربي وإقليمي ودولي.

موقف موسكو

في مايو من العام الماضي وفي أعقاب محادثات أجراها بوتين مع الرئيس السوري بشار الأسد في سوتشي، قال الرئيس الروسي:  »إننا ننطلق من أن الانتصارات الملموسة ونجاح الجيش السوري في محاربة الإرهاب وانطلاق المرحلة النشطة من العملية السياسية سيليها بدء انسحاب القوات المسلحة الأجنبية من الأراضي السورية«.

ولمن لم يفهم هذه الرسالة أوعز بوتين إلى مبعوثه إلى سوريا ألكسندر لافرنتيف أن يعطي تفسيرات لمن لم يستطع أن يقرأها جيداً. قال الأخير إن المقصود هو القوات الإيرانية وميليشيا حزب الله والقوات التركية والأميركية. قرأت إيران ذلك جيداً ولاحظت كيف أن بوتين قد وضع وجودها، المفروض أنه شرعي بموجب اتفاق مع نظام دمشق، في نفس السلة مع وجود قوى أخرى، يفترض أن وجودها غير شرعي ولا يمر عبر البوابات الدمشقية.

ورغم رسائل بوتين الواضحة، إلا أنه لا يريد التفريط بالورقة الإيرانية مجاناً. لوّح بشكل عام بضرورة خروج إيران ونفوذها، لكنه عاد لاحقاً (أكتوبر 2018) ليؤكد أن بلاده  »ليست مسؤولة عن إخراج القوات الإيرانية من سوريا«. فهم أوليّ الأمر أن روسيا لن تنخرط في جهد علني مباشر ضد الحضور الإيراني في سوريا دون أن يحصل بوتين بالمقابل على ما يطالب به في ملفات أخرى.

تسريبات الاجتماع الثلاثي الأميركي الروسي الإسرائيلي تحدثت عن خارطة طريق يتم من خلالها تعامل الغرب مع المقاربة الروسية لمستقبل سوريا، بما ذلك التعامل مع نظام دمشق وفق صيغة للحل تكون المعارضة جزءا منها، والانخراط بالجهد المالي المطلوب لإعادة الإعمار،

هل أفرجت قمم مكة عن وحدة أو انقسام تجاه إيران؟

مقابل أن تقوم روسيا بالإشراف على عملية تؤدي إلى ضبط الوجود الإيراني من سوريا.

وعلى الرغم من أنه لم يتم الإفصاح عن حجم هذا الضبط وما إذا كان يعني خروجاً للنفوذ الإيراني من البلد، إلا أن العرض الذي تقدمه واشنطن يكسر محرماً ويفصح عن استراتيجية أميركية-أوروبية عمادها الاعتراف بالدور الروسي في المستقبل السوري، وهو أمر لا يمكن إلا أن يرسم ابتسامة انتصار على وجه زعيم الكرملين.

ينفي الكرملين ما يشاع عن هذه المقايضة. بالمقابل ينقل عن مسؤول في البيت الأبيض في هذا الصدد أن  »لا مستقبل للأسد في سوريا ولن يكون شريكا لإعادة إعمار يستفيد منها نظامه«. ومن الآن وحتى عقد اجتماع القدس الثلاثي ستكثر المواقف الممهدة للصفقة المتوخاة.

هل تملك موسكو القدرة على ضبط نفوذ إيران في سوريا؟ نعم، وتحركاتها في سوريا ضد تشكيلات العسكر والأمن الموالية لطهران باتت حديثا يوميا هناك. لكن السؤال هل تريد موسكو ذلك؟ الأمر تقرره طبيعة الصفقة المقبلة وما ستناله روسيا بالمقابل. وإذا ما قررت موسكو مباشرة ورشة ضبط إيران في سوريا، فيجب ألا ننسى أن بوتين ليس وحده وهو يستفيد جدا من ضغوط واشنطن -التي يعاندها العالم-ضد إيران، وأنه قد يحصد في الحقل السوري ثمار ما تواطأ العالم على فلاحته.

قمم جدة

على أن حدث انعقاد قمم، خليجية وعربية وإسلامية في جدة أواخر رمضان الماضي بناء على دعوة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز ألقت بظلال لافتة على الأزمة الأميركية الإيرانية. أتى التئام القمم بعد عامين تماما على انعقاد قمم شبيهة بحضور دونالد ترامب في أيار/مايو 2017 في الرياض. القمم الأولى عبّرت عن انفتاح العالم العربي والإسلامي على التعاون مع الولايات المتحدة في مسائل التقدم والتكنولوجيا والسلام ومكافحة الإرهاب. فيما القمم الأخيرة هدفها أن تشارك دول المنطقة في الإدلاء بدلو في شأن ذلك  »العراك« العرضي، حتى لو أخذ أشكالاً عسكرية نارية، بين إيران والولايات المتحدة.

البعض اعتبر أنه من غير المسموح أن تشتعل الحرب في ديارنا دون أن يكون لأهل المنطقة قرارها. والقمم بهذا المعنى ليست موجهة ضد إيران فقط بل ضد الذهاب بأمن المنطقة نحو المجهول مقابل اتفاقات ثنائية تُعَدُّ على نار خافتة داخل ضجيج صاخب تشي بها بدايات وساطة سلطنة عُمان وغيرها بين واشنطن وطهران.

لقرار الحرب الأميركية ضد إيران حسابات أميركية داخلية تُناقش بين الجمهوريين والديمقراطيين ويتم إقرارها وفق لعبة شدّ حبال بين الكونغرس والبيت الأبيض. وعلى هذا لا يجب أن تكون الحرب في منطقتنا وليدة مزاج ونكايات وحسابات بيتية أميركية. لا يجب أن يكون العرب رقماً داخل ملفات الولايات المتحدة على طاولة المفاوضات  »الحتمية« الأميركية الإيرانية. لا يجب أن يكون تطبيع العلاقات الإيرانية العربية بندا من بنود الاتفاق الجديد بين واشنطن وطهران وملحقاً وتحصيل حاصل له. ولا يجب أن يمر أي اتفاق أميركي دولي إيراني -على منوال ذلك النووي قبل 4 أعوام- دون أن تكون إرادة الخليجيين والعرب وازنة مقرِّرة ومعطِّلة لشأن يمسّ وجودهم ومستقبل السلم والاستقرار في بلدانهم.

أظهرت القمم الثلاث إجماعاً داعماً للموقف السعودي وتأييدا للموقف الأميركي حيال إيران. تبدو إيران فاقدة لبيئة دولية وإقليمية حاضنة، وتبدو ممعنة في الغرق في عزلة تسحب أي غطاء يمكن لطهران التعويل عليه في جهودها للخروج من مأزقها الحالي.

جون بولتون: صفقة مع روسيا حول نفوذ إيران في سوريا

بدا واضحاً أن الصين وروسيا لا يمكن أن يتخذا موقفا داعماً لطهران ضد مزاج دولي بات عاجزاً عن التعايش مع الواقع الإيراني وفق النسخة المعمول بها منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979، وبدا أن الاتحاد الأوروبي على شفير التضامن مع الموقف الأميركي إذا ما انسحبت طهران في اتفاق فيينا النووي الموقع عام 2015.

لا شيء يشي بنشوب الحرب. حتى ذلك القصف الصاروخي الذي يطال أهدافاً إسرائيلية والرد من إسرائيل مستهدفا مواقع داخل الأراضي السورية، لا يؤشر إلى فوضى عسكرية، بل تبادل رسائل حذرة شديدة الانضباط تُبقي التوتر في حدوده المنخفضة. حتى أن تأملا حثيثا للصراع في وجهه العسكري يقود إلى استبعاد اندلاع الحرب عن طريق الصدفة أو الخطأ، ذلك أن أطراف الصراع حريصون على عدم التهور، ممسكون تماما بتفاصيل المشهد العسكري في المنطقة على نحو الذي لا يؤدي إلى الصدام الكبير المباشر.

لغة التفاوض

والحال أن اللغة الطاغية هي لغة المفاوضات. بدا أن هذه الكلمة تزدهر هذه الأيام بغض النظر عما إذا كانت مجوفة فارغة من مضمون حقيقي، أو أنها تعبر عن ورشة تحضير خلفية لطاولة مفاوضات قادمة لا محالة.

كان الرئيس دونالد ترامب قد انقلب على صقوريته وراح يمطر إيران برسائل الحنان في الدعوة إلى الحوار والتفاوض وفي استشراف تعاون مع إيران مزدهرة.

راح الصقر الآخر وزير الخارجية مايك بومبيو يتحدث عن استعداد لمفاوضات مع إيران دون شروط مسبقة، ما عُد انقلابا من قبل صاحب الشرو الـ 12 الشهيرة.

تحدث الرئيس الإيراني حسن روحاني أيضا عن الاستعداد للتفاوض على نحو أطاح بكل المواقف السابقة الصادرة عن طهران، والتي أكدت ألا تفاوض على الاتفاق النووي. يبقى أن لا شروط بومبيو تشترط أن تصبح إيران  »دولة عادية«، فيما مفاوضات روحاني مشروطة بأن تتعامل واشنطن مع طهران بـ  »احترام«.

ومع ذلك فإن طريق المفاوضات ما زال عسيراً، وطريق الحرب ما زال وارداً.

لا تملك إيران الرشاقة الكافية للتعامل مع أكبر أزمة تتعرض لها منذ أربعة عقود. تخاطب طهران خصومها بلغة خشبية لا تأخذ بعين الاعتبار أن العالم قد تغيّر وأن إيران التي عُرفت منذ قيام الجمهورية الإسلامية لم تعد داخل خريطة التحولات المقبلة، وأن التغير في السلوك الإيراني بات جزءا من هذه التحولات. وإذا ما كان النصر  »صبر ساعة«، فإن الوقت لا يعمل أبدا هذا المرة لصالح إيران. فالعقوبات القاسية والتاريخية، حسب تعبير ترامب، التي تتعرض لها إيران من قبل الولايات المتحدة تفتك بالنسيج الاقتصادي الإيراني وتهدد بانهياره، فيما تدرك طهران أن التجربة تهدد بقاء النظام الإيراني على الرغم من التطمينات الأميركية المتكررة من أن لا خطط لإسقاط نظام طهران.

وربما من الحكمة عدم الانصات كثيراً للتصريحات الانقلابية التي تصدر من هنا وهناك تتحدث عن الحرب حينا وعن السلم والحوار أحيانا. فحالة اللاحرب واللاسلم تحتاج لمحركات ترفد الأزمة بضجيج، فيما قنوات التواصل الخلفية تحتاج لواجهات تعبر عن مزاج أصحاب الشأن. وتبدو تلك التصريحات عاكسة لهمس خلفي يناقش قواعد التفاوض وشروط نهاياتها، وأن عدّة ذلك تستلزم إظهار القدرة على الوثوب نحو مراحل تقلب الأمور رأسا على عقل. ذلك تماما ما توحي به تصريحات روحاني عن التفاوض باحترام وتصريحات ترامب وبومبيو عن التفاوض مع دولة حين تصبح  »عادية«.

والحال أن وزارة الخارجية الإيرانية أصابت حين رأت في كلام بومبيو عن  »تفاوض دون شروط مسبقة« لعب على الكلام. فالعقوبات الاقتصادية الأميركية وتحريك واشنطن لسفنها البحرية وقاذقاتها الجوية هي استراتيجية تعمل على صيانة شروط وقواعد لجر إيران إلى طاولة ترامب. وما عدّه البعض تراجعا أميركيا وليونة طارئة، لا يعدو كونه واجهة من واجهات عديدة تقارب بها واشنطن الأزمة مع طهران.

وجب عدم إهمال أن الولايات المتحدة تتحدث مع العالم وتقوم بحملة دبلوماسية نشطة لصون موقفها من إيران، وأن أمر ذلك يحتاج إلى أن تُظهر منابرها الكبرى لغة تتسق مع مزاج العواصم المعنية.

(*) صحافي وكاتب سياسي لبناني