قراءة في حبق للشاعر سليم علاء الدين

نسرين الرجب- لبنان

هناك شعر لاتصلُح شاعريَته إذا بقيَ رهين دفَّتيْ كتاب، هناك شعر لا يُقرأ على نفَسٍ واحد، يحتاج أن تجهر به وأن تغذّيه من دفق الصوت كيْ يندى ويبوح برحيقه للسامعين، والشعر باللهجة المحكيّة يُشبه ما قيل، فالشاعر يكتب ما يحسه، ما يتراءى له في مشهد أو موقف أو ذاكرة، لذا فالقصائد باللهجة المحكيّة غالبًا ما تكون قصيرة النفس، وهي أقرب للغنائيّة، ففي محاولة للتغزل بالأشياء لشتمها أو مدحها، لا يدفعها دفعًا، إنّما يعمل على مشابهتها بالواقع، على إحكام إخراج الصورة بأسلوب شيّق، مفاجئ، ومدهش.

الشاعر سليم علاء الدين

 في  »حبق« لسليم علاء الدين تظهر الحاجة للقول الشعريّ كالحاجة الى التبسّم والبكاء، يتألف الكتاب من 196 صفحة من الحجم الوسط، وهو صادر عن دار عالم الفكر 2019، تتنوّع موضوعات النصوص الشعريّة فيه تنوّع مدارك المؤلف، وقد وزّعها على سبع أقسام أو لوحات شعريّة: ( البداية والنهاية، عرس التين- كفرحمام ، أغاني خلة مخايل- كفرحمام، ما بيعرفوا يموتوا، مرا حبقا، مطارحنا، نبيذ الحكي صوتن).

الغلاف على بساطته عميق في تعبيريَته عن العلاقة بالتراب والأرض،  »يا تراب يا بيي/ السما تيابك/ إلبس الريح وطل/ خرطِش قصيدة عز بكتابك/ هو الشِّعر خلقان بعتابك«، هنا يأخذ اللون دلالته ليُفصح عن رؤيا صاحبه، فالعنوان أخذ الأخضر في تشكليته المرتبطة بالواقع الخصب،  »حبق« قد تعود التسميّة إلى كثرة هذا النبات العطريّ في القرى ونفاذ رائحته، على ما تعنيه القريَة لصاحب الديوان وهو ابن كفرحمام الجنوبيّة، وقد تعود إلى ما تولّده المفردة ذاتها من إيقاع، والحبق أنثويّ، فشبّه النساء بـ »طرابين الحبق«:  »النسوان كترانين بالخلّي/ شي حبق شي عطرا، شي ورد بيصلي…«، والحبق مُلهم:  »وعيّ الحبق، يلبس شِعر/ جسم الحبق لبيس/ كل م حدا يكتب قصيدي بيسرقا وبيقيس…«

اتّبع المؤلف في نسج خيوط نصوصه الشعريّة نظام التفعيلة، مع الحفاظ على قافية مشبّعة وروي متجانس قد يتنوع ولا يتنافر نجد مثالا له في نص بعنوان  »غسلة« ( تقيل، لجليل، غسيل، يكيل، مواويل، لوْقا، لفرقا، زرقا)، الصورة الشعريّة لديه أقرب للانطباعيّة فالشاعر يكتب ما يرى وما يُحسه، غير معنيّ بأيّة أفكار قد تُنغّص شعريّته الحالمة، لذا تحضُر الطبيعة بمعجمها -الحبَقي إذا صح التعبير-، لا يُخفي تعلُقه بالقرية وبعناصر الطبيعة فتتكرر لديه مفردات: (تراب، الشمس، ماء (موي) سماء، شجر..) ، وهو إذ استخدم أسماء لشخصيّات أسطوريّة، لا يبتعد في المعنى بل يُجسّده في شجرة، فعشتروت وباخوس تسمية لشجرتيْن زرعهما الشاعر في حديقة داره، يقول في نص بعنوان خيانة:  »مبارح كتبلي باخوس بورقا/ طلطل علينا يا حلو تبقا/ م السندياني قبال عينك رح تموت/ م إنت قلت بتعشقا/ وسميتها بهونيك ليليْ عشتروت…«، فالشعر عنده خالدٌ وفي متناول إلهامه، ما دامت الطبيعة على مرمى نظرٍ من نافذة داره، يقول:  »كيف الشعر بيموت/ وشمس القصيدة كيف بدا تنام/ ما زال قلقانة السما بكفرحمام/ وسكنت ببيتي عشتروت«.

مرا حبقا

الحب في نصوصه التي جاءت في قسم  »مرا حبقا« : يتأرجح بين الإلفة والتعب، فمرة قلب الحبيبة  »قصيدة ضوْ« ومرةً  »معصرا«:  »شو نفع قلبك معصرا/ ومش حامل الزيتون«، وهو عُذريْ في لهفته الأولى:  »فايق/ تجي من حد بيت بيوت/ وتقلي بحبّك/ وإتلبّك..«، والعاشق يكره النوم لأنّه يحول بينه ومن يُحب:  »شو بكرهك يا نوم/ يا سارقا منّي…« ، وهو (رح انطرك) حيث الحبيب ليس متاحًا، وحضوره خفِيْ كخيال في ليل حالك:  »جاييي حبيبي تزورني/ رح أنطرك/ شقّيت برداية حنيني شويْ/ نوسي/ ت تقشع غرفتي وتفوت/ لما تصل ع الحي/ وما تخاف/ ما بيقدر خيالك يفضحك/ ما الليل كلو فيْ…«، الصوَر أو المشهد مألوف ولكن بصياغة جديدة ونفس شعريّ خاص حيث يتمثّل الحب كالولادة وما قبله سنين عمرٍ هاربة خاليَة من المعنى:  »قولك إذا بكرا التقينا/ بينحسب/ عمر ل قبل منا هرب..«، والمرأة هنا حبقة  »بحبك مرا حبقا/ بتغيب وبتدبل متل أول هوى/ ومثل الهوى الأوّل/ ريحة هوى بتبقا..«، والحبيب حالُ حبيبه، يقول:  » كل الجمال ل لابسك/ برات حالك حابسك/ فوتي على بالك/ تا تعرفي إنو أنا / وحدي حالك«، وفي مكان حيث دوام الحال من المُحال تصبح الدقّات فيه رماد،  »الدقات صاروا رماد يا نيرون«، واللامبالاة تنحصر في كلمة  »عاديْ« . الحب هنا واقعي مُعاش وملموس، الصورة قريبة غير مُعقّدة، يغلب عليها المجاز وتشابيه مكنيّة واستعارات نستخدمها في يومياتنا ولا نُتقن جعلها شعرًا كما يفعل سليم علاء الدين هنا.

أنا هُنا

 كفرحمام هي بلدة الشاعر الحدوديّة جسّدها في نصوصه بكل رؤاها وذكرياتها وشخصنها في صبحها وليلها وشتائها، كما عاشها في الزهق، والمزحة، والحبق، وريحة الأرض، والوفا وغيرها من العناوين التي جسّدت علاقة انتماء، وفي قسم بعنوان  »مطارحنا« نصوص لمدن وبلدات كثيرة منها: بيروت، ضهور الشوير، قانا الجليل، بغداد، القدس وغيرها كثير، فطبيعة عمله كمقدّم وشاعر، ووجوده في مناسبات أدبيّة وفنيّة تدفعه لإقامة علاقة خاصة بالمكان الذي يعرفه أو يزوره، تُظهر ارتباطه ورؤيته للمكان، علاقته به كوجود هي علاقة انسانيّة، فعلاقة النص بالمدينة مثل العلاقة بالشخصيّات تنطلق من أنا هنا.

وهو المؤمن بعروبته وانتمائه الإنسانيّ إلى التراب والأرض، الارتباط بالقضيّة لديه هو عميق عمق التراب وأبعد من أيّ التزام سياسيّ:  » شقوا الشمس/ في شمس أكبر ناطرا تضوي/ ع باب القدس« .

تنفلت القصيدة من مناسبيتها عندما تتخلص من مدحيّتها، وتصبح تجسيدًا لفكرة أو رؤيا، بعيدًا عن الاصطناع اللفظيّ، فهو قد خصص قسميْن، الأوّل:  »ما بيعرفوا يموتوا« كتب فيه عن شخصيات فنيّة وأدبيّة راحلة:  »هني اللي راحوا بيعرفوا/ بغيابعن/ شو ملبكي الإيّام«، والثاني:  » نبيذ الحكي صوتن« كتب عن شعراء أحياء عايشهم الشاعر ويعيش بينهم، يراهم بطريقة تخصّه، أغلب هذه المقاطع جاءت في مناسبات شعريّة كان الشاعر يقدّم فيها المذكورين، وبعيدًا عن المدح يُفصح عن علاقة محبة وودّ يحرص على تدوينها وتخليدها في صفحات كتابه، لذلك تخرج عن مدحيّتها لأنها ليست نفعيّة، فهو يكتب عمّا يعرفه فيهم.

الشعر هو ما يجعلك تقول هذا أنا، يُحاكي الشاعر خياله فالخيال عنده هو ابن الحقيقة، هو ما يراه ويسمعه ويحسه، هو التآلف مع مظاهر الطبيعة وأصواتها وموجوداتها، والشاعر يعيد تركيب هذه الموجودات إضافة الى الثقافة التي تزيد على معارفه فتُغني صورته الشعريّة، وتشكّل رؤيته للعالم، فسليم علاء الدين البارع في إظهار مواهبه الفنيّة من تمثيل وإلقاء وتقديم إعلامي، وشعر، وموسيقى وغناء –حديثًا-، يرى أن الفنان بالأخص هو القادر على معرفة ما يحيطه والتعبير عنه، فهل استطاع أن يُعطي كل فنّ منها حقّه؟

 

 

 

العدد 94 – تموز 2019