منير الشعراني والتعبير الدنيوي للخط السماوي

رؤوف قبيسي:

من السهل إدراك السمات الفنية في أعمال الخطاط السوري منير الشعراني، بالرغم من أن بعضها عصي على القراء. الشعراني هو أحد الخطاطين العرب العاصرين، الذين حازوا شهرة تخطت حدود بلادهم، وصار الخط العربي على يدهم فناً مستقلا بذاته، بعدما كان ينظر إليه على أنه كتابة عادية وجدت لتجميل  »الكتب المقدسة«. مهما يكن، فإن الخط العربي لم يتطورعملياً، ولم يصل إلى ما وصل إليه من الإتقان، إلا بعدما خرج من المأثور الديني، واستخدم على الفخار والآنيات والأبواب والدواوين وألواح الطين والخشب، والنسيج والخزف والمنمنمات، والملابس والحلى والمجوهرات، حصل ذلك في أزمنة متفرقة، كانت معرفة القراءة فيها مقتصرة على فئات محدودة من الناس.

كانت الخطوط العربية قبل الإسلام بدائية، وبقيت كذلك لزمن طويل، ونماذجها اليوم موجودة في كثير من المتاحف حول العالم. هناك أنواع كثيرة من الخطوط، أهمها  »الكوفي« الذي يتميز بسلاسة ادخاله على الهندسات والزخارف، مع بقاء الحروف على قواعدها، ثم  »النسخي« الذي استخدم في نسخ الكتب والمراسلات، و »الديواني« الذي يتميز بالتواء حروفه، وهناك  »الرقعي« أوخط الرقعة، ويتميز بسهولة قراءته، وهو لا يحتمل التشكيل ولا التركيب، و »الثلث، وهو من الخطوط الصعبة، وقد سمي بذلك لأنه يكتب بثلث سمك القلم، ثم  »الأندلسي« ويتميز باستدارة حروفه، وميله للتقوس أكثر من الاستقامة.

في البدء لم تكن الحروف منقًطة، وكانت سريانية في رأي بعض المؤرخين، ولم تصبح عربية خالصة إلا في الحقبة النبطية. أما الخط العربي فلم يشهد تطوراً ملحوظاً إلا في العصر الأموي، وفي الأندلس، وترافق مع تطورحركة الهندسة والعمران، لذلك نجد نماذجه على الملابس والنوافذ والأبواب، وفي الدواويين. يرى مؤرخون أن العرب تلقوا الكتابة وهم في حالة من البداوة، ولم يكن لديهم من أسباب الاستقرار ما يدعو إلى الابتكار في الخط الذي وصل إليهم، ولم يبلغ الخط عندهم مبلغ الفن إلا مع حركة التطور الثقافي والاجتماعي والعمراني، وظهور خطاطين كبار مثل ابن مقلة، وابن البواب، والبويصري، وياقوت الرومي، وغيرهم. كان العرب يميلون إلى تسمية الخطوط بأسماء جغرافية، لأنها صلت إليهم من أقاليم مختلفة، لذلك عرف الخط العربي قبل الإسلام بالخط بالنبطي والحيري والأنباري، نتيجة تجارة العرب مع هذه الأقاليم، وعندما استقر في مكة والمدينة وبدأ ينتشر منها إلى جهات أخرى، صار يعرف بالخط الكوفي، والخط المدني.

 أي دراسة للخط العربي، لا بد أن تأخذ في الحسبان الضرر الذي تعرضت له مسيرة هذا الفن، بسبب النزاعات التي أدت إلى حرق المكتبات، وتدمير الآثار والعمران والصحائف والكتب، خصوصاً التي كان الأصوليون يعتبرون مضمونها هرطقة وزندقة، لذلك بقيت الخطوط وقفاً على القرآن وحده، أو ما له علاقة بالثقافة الدينية، إلى أن جاء العصر العباسي الذي يعتبره المؤرخون، العصر الذهبي للخط العربي، وفيه تطورت أشكال وأساليب لم تكن معهودة من قبل. أما الفترة العثمانية فقد جمًدت هذا التطور في رأي بعض الدارسين ومنهم الشعراني، وأوقفت، لأسباب دينية، العمل بكثير من الخطوط وحصرتها بعدد محدود. مع الزمن تطورت أساليب الخط العربي مع تطور صناعة الطباعة، التي كانت تقوم على صب الحروف بالمعدن الساخن، حتى جاء عصر  »الكومبيوتر«، الذي أدى إلى ولادة أساليب جديدة مختلفة من الخطوط، بعضها جيد، وبعضها رديء.

تحت عنوان  »إيقاعات خطية« أقام منير الشعراني الشهر الماضي معرضه الخاص في غاليري  »ستوريزآرت« في حي  »ماي فير« الأنيق في لندن، عارضاً آخر خطوطه العربية الغنية، وكان الثالث من نوعه لهذا الفنان في اوروبا بعد معرضين ناجحين في برلين وباريس. ولد

 الشعراني في دمشق في العام 1952، وفيها درس الخط على يد المعلم بدوي الديراني وكان يومها في العاشرة، ثم أصبح خطاطاَ محترفاً وهو في الخامسة عشرة. كانت بداياته تقليدية، ثم ما لبث ان اكتشف ان الخط يحتاج إلى جمالية مخلتفة ما مكنه في ما بعد، من أن يؤلف أنواعاً مختلفة الخطوط مركبة كعناصر في لوحة فنية معاصرة، ساعده في ذلك، دراسته الرسم والفنون الجميلة في سوريا، وكان أول معارضه في القاهرة، عام 1987. يكمن إرث الشعراني في أنه أغنى التجربة الفنية التي أعطت الخط العربي بعده الدنيوي المعاصر، في وقت بقي هذ الخط، أسيرقيود ثقافة تقليدية لعقود طويلة.

نترك لهذا الفنان أن يوجز تجربته الفنية بكلمات من عنده:  »تأملت تراثنا الخطّي بعين فاحصة ناقدة مسلّحة بإتقانٍ للخط ودراسةٍ تشكيليةٍ وتخصصٍ في التصميم الغرافيكي المعاصر، للوصول إلى لوحة خطيّة معاصرة تستمد نسغها من الجذر العميق لشجرة الخطّ العربي تُخرجه من قفص القدسيّة الذهبي ومن محبس الجمود والتقليدية إلى آفاق الفن الرحبة وتعيد إليه مكانته بين الفنون الجميلة. اعتمدتُ في بناء هذه اللوحة تشكيلياً وجماليّاً على القيم التشكيلية والبصرية المتطوّرة والحديثة، بما في ذلك العلاقة بين الكتلة والفراغ، والعلاقات اللونية، والخامات وغير ذلك من التفاصيل الضرورية لأي عمل تشكيلي ناجح، بالإضافة إلى إمكانية رؤيتها كعمل تجريدي من نوع خاص، لكنّه يحمل قيمة إضافيّة من خلال العبارة التي يقوم التشكيل عليها«.

 

 

 

العدد 94 – تموز 2019