صفقة القرن.. صاروخ أمريكي فاقد الصلاحيه

فلسطين قضية وطن، وليست أزمة استثمار وتشغيل عمالة

ترامب صفحة في حكم دولة.. وليس قيادة يتوقف عندها التاريخ

أمين الغفاري

لم يكن الصاروخ السياسي الذي أطلقته الولايات المتحدة الأمريكية باسم (صفقة القرن) أو (فرصة القرن) كما يسميها صهر الرئيس ترامب (كوشنير) أول صواريخ الولايات المتحدة (الفشنك) أي فاقدة الصلاحية بشأن القضية الفلسطينية، فالذاكرة العربية، ما زالت تختزن تفاصيل صواريخ الولايات المتحدة المتتالية، وأشهرها وأقربها (مؤتمر مدريد للسلام) الذي عقد عام 1991، في أعقاب حرب الخليج، وسبقه التبشير بنظام عالمي جديد، وتوفير الأموال اللازمة لتنمية الشرق الأوسط، وتصريح جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي وقتئذ (أن على أسرائيل أن تتخلى عن سياستها التوسعية) ثم تعددت اللقاءات، وصدرت التصريحات والبيانات، التي لم تسفر عن اي تقدم، سوى بعض الرنين حتى طواها النسيان. كان الهدف هو تخدير المشاعر العربية بعد الغزو الدامي للعراق، ثم كانت اتفاقية (أوسلو)عام 1993 التي تضمنت اعترافا متبادلا بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل، وان كانت اسرائيل قد حاولت أن تمتص بنودها، وتلتف حولها في التطبيق، مع صمود ابو عمار في المحافظة على الحق الفلسطيني، ثم انتهى الأمر باغتيال اليمين الاسرائيلي المتطرف لرابين في 4 نوفمبر عام 1995. أعقب ذلك صاروخين آخرين من اجل البحث عن عوامل الأتفاق والسلام في (وادي ريفر) الأمريكي عام 1998، وكامب ديفيد الثانية عام 2000، وقد سجلا فشلا ذريعا، لأفتقادهما للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وكانت نهاية المطاف، مع القيادة التاريخية للشعب الفلسطيني (ياسر

كوري كوشنر
خلط التجارة بالسياسة تنتج صاروخ فشنك

عرفات) هو حصاره أولا منذ عام 2002 داخل الضفة الغربية ثم مسكنه، حتى انتهى الأمر بالخلاص منه عن طريق تسميمه، حيث رحل في احد المستشفيات الفرنسية في 11 نوفمبر عام 2004، وقد جرت المباحثات في تلك المفاوضات بحضور الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، ولم تصدر أي ادانة حول حادث هذا التسمم !. ليست الصواريخ السياسية (الفشنك) هي التي تميز السياسة الأمريكية وحدها في علاجها للقضية الفاسطينية، وانما سبقتها صواريخ سياسية بريطانية منذ وعد بلفور عام 1917، وبعد ان وقعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني أثر نهاية الحرب العالمية الاولى. تمثلت تلك الصواريخ في ثلاث كتب بيضاء أصدرتها الحكومة البريطانية كمحاولات لتهدئة الغضب الفلسطيني، بعد ان اشتعلت نيران المقاومة ضد الأستعمار المزدوج البريطاني الصهيوني للأرض الفلسطينية، وهي لم تطبق أيًا مما جاء فيها، بل استخدمت فقط لأمتصاص المشاعر، واطفاء نيران الغضب المشتعلة. صدر ما يعرف باسم الكتاب الأبيض الأول في ألأول من يوليو 1922 وصدر الكتاب الثاني في أكتوبر عام 1930، وصدر الكتاب الثالث في مايو 1939، وانتهى الأمر بانسحاب بريطانيا، بعد أن يسرت حركة التهجير الصهيوني الى أرض فلسطين، واطمأنت على مستويات التدريب والتسليح للعصابات الصهيونية التي تشكلت تحت سمع وبصر الأنتداب البريطاني، في مواجهة الشعب الفلسطيني الأعزل، وتم اعلان دولة اسرائيل في 15 مايو عام 1948، والأدهى والأمر أن يغتال وسيط الأمم المتحدة (الكونت فولك برنادوت) في 17 سيبتمبر 1948 في مدينة القدس بواسطة منظمة (شتيرن) التي أسسها (فلاديمير جابوتنسكي) الذي دخل الى فلسطين بفيلق صهيوني (الألوية اليهودية) تحت قيادة (القائد البريطاني (اللنبي) .

كم اطلقت من الصواريخ السياسية الأستعمارية تلوح بالحلول والمخارج، وكلها لم تكن تستهدف سوى القضم بعمليات جراحية تبتر وتنتزع تحت ألوان متعددة من صواريخ التخدير، ثم تهضم، لتعود فتقضم وتطلق صاروخا سياسا جديدا للتهدئة أيضا أوبمعنى أصح للتخدير تمهيدا لعملية قضم جديدة.

السلام من أجل الأزدهار

هكذا أطل علينا الفارس، جاويد كوشنر بصاروخ جديد، وبكل ما في طبيعة التاجر أن يغلف منتجاته أو مشروعاته التجارية من حيث التوصيف والترغيب والأثارة جرى الأعلان عنها بهالة من التضخيم باعتبارها (صفقة القرن) وان كان جرى تعديلها الى (فرصةالقرن) على لسان كوشنر نفسه. في المنامة عاصمة (البحرين) وجرى الكشف عن ماهية هذه الصفقة، فكان الشعار هو المقدمة (السلام من أجل الأزدهار) والسؤال هل يمكن ان يكون هناك سلام دون عناصر الأمن والأمان، وهل الأزدهار مجرد أمنية مجردة، أم هي أمنية يمكن ان تتحقق في ظل الأطمئنان الى مستقبل واعد وضمانه الرئيسي الأمن والأمان. أسئلة بديهية، ولكن سياسة الصواريخ تتخطى البديهيات، مع المنطق، بل وكأنها تبرهن على أن عمليات التسويق للمنتجات تعتمد المبالغات كمنهج، وليس على الواقع كأساس.

فحوى (صفقة أو فرصة القرن)

هو منهج مبتدع للتسوية ويمكن ان يطلق عليه أيضا (منهج طريف) لحل القضايا المزمنة أو الشائكة، باتباع المنهج الأقتصادي، أو الحل (المالي)، ويقوم على برنامج للتنمية قيمته الكلية (50 ملياردولار) وموزع على عشر سنوات بمتوسط قدره خمسة مليارات في العام، ويجري تقسيمها على أربعة أطراف يكون فيه للفلسطينيين 28 مليار دولار تقريبا، وهي مبالغ لا يمكن أن تحقق من وجوه التنمية الشيء الكثير لشعب تهدم كل ما شيده وبناه، مثل المطار والميناء وغيرها من المشروعات والمؤسسات التي دمرتها اسرائيل ، ولكن الغريب أن السياسة الأمريكية تتحرك في مثل ذلك الأتجاه، تحت تصور أن (المال) يصلح ان يكون علاجا ناجحا لتسويات تتعلق بالأوطان أو حتى للتنازل عن بعض الحقوق التي تمتلكها الأجيال المتعاقبة جيلا بعد جيل. مع كل ما للمال من سطوة أوسحر.

لقد رفض السلطان عبد الحميد العثماني من قبل تاريخيا أن يبيع فلسطين مع كل أزماته المالية، والديون التي كانت تحيط بأمبراطوريته وقال كلاما مأثورأ (أنصحوا الدكتور هرتزل ألا يبذل مساع جديدة في هذا الموضوع فاني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من هذه الأرض، أن فلسطين ليست ملك يميني، ولكنها ملك شعبي، ولقد روى شعبي هذه الأرض بدمائه، فليوفر اليهود أذن ملايينهم، واذا تمزقت أمبراطوريتي، فانهم قد يستطيعون حينها ان يحصلوا على فلسطين بلا ثمن، ولكن على ان تتمزق جثثنا قبل ذلك، وأنا لا أستطيع أن أوافق على تمزيق أجسادنا ونحن ما زلنا على قيد الحياة). لكن السيد ترامب وصهره كوشنيرلأنهم رجال تجارة قبل ان يكونوا أهل سياسة يتصورون أن كل شيء له ثمن، ولأن الوطن (قيمة) وليس مجرد سلعة أو شئ، فقد غاب عنهم أنه ليس بالمال وحده تستقيم الحياة، أو تقدر الأشياء، وأن المال يصغر تماما ويتضاءل أمام قيمة وقامة الوطن.

لقد قاطعت السلطة الفلسطينية هذا المؤتمر، وكذلك كل المنظمات الفلسطينية الأخرى، وأعلنت رفضها له قائلة (لايمكن الحديث عن الجانب الأقتصادي بدون التوصل الى حل سياسي !) وعلى ذلك فلم توجه الدعوة الى اسرائيل. من التعليقات الطريفة التي أطلقت على مؤتمر (المنامة) لقد غاب عن المؤتمر فلسطين واسرائيل وهما المعنيان بالأمر، ولذلك كان منطقيا هذا السؤال (كيف يقام الفرح دون حضور العروسان؟).

الرهان على الولايات المتحدة

كنا في الماضي، وأظننا لازلنا حتى الآن نترقب الأنتخابات الأمريكية، ونراهن على الحاكم الجديد للبيت الأبيض، ونحصي مدى ما كبدتنا فترة حكم الراحل منه من انتكاسات، ومدى ما يمكن للوافد الجديد ان يوفره لنا من مطالب. ، نتساءل في براءة عن ميوله وعن اتجاهاته ومن ثم عن سياساته، وهل هو خاضع للأبتزاز الأسرائيلي، واللوبي الصهيوني، أم أنه سينصاع لشعارات الحرية والأستقلال وحقوق الأنسان !. كأن الرئيس الأمريكي قد انتخب ليرعى مظلومية العرب، ويبحث لنا عن الحقوق المغتصبة بصفته حاكما لأمبراطورية عظمى تنصب(للحرية)من

جورج بوش
كان مؤتمر مدريد صاروخا للتخدير وليس للتحرير

فرط عشقها لمفهوم الحرية تمثالا في اشهر ميادينها. ننسى التاريخ ووقائعه، والحكمة التي ينبغي علينا استخلاصها، والكامنة في مجرى أحداثه. ان الرئيس الأمريكي قد تم انتخابه من الشعب الأمريكي، وعليه أن يرعى المصالح الأمريكية وفق مفهومه ووفق تقدير الحزب الذي رشحه، وثقة الناخب الذي أعطاه صوته، أما الشعارات المرفوعة، فهي ليست سوى أداة لتسويق السياسة وكسب الأنصار، وزيادة عدد الناخبين، ان لم يكن أيضا لتصدير المكانة والتقدير الدولي.

نتذكر في الحرب العالمية الأولى والمبادئ الأربعة عشر التي أعلنها الرئيس الأمريكي في ذلك الحين(ويلسون) عام 1918 وكان ضمنها المبدأ رقم 12 وينادي بحق تقرير المصير للشعوب التي كانت خاضعة للحكم التركي، لكن فور انتهاء الحرب، وبداية توزيع الغنائم، سرعان ما تنكر الرئيس الأمريكي لوعوده وجرى تقسيم المنطقة العربية، ووضعت دولا تحت نظم الحماية والوصاية والانتداب، وفق اتفاقية سايكس بيكو السرية التي وقعت 1916، فالسياسة دائما مصالح يكسوها ويجملها زي المبادئ ببريقه وزهوه، واشعاعاته الأنسانية، التي لا محل لها من الأعراب في ممارسات السياسة .

ترامب تصريحاته ودعاياته الانتخابية

بالتأكيد أطل علينا ترامب بثوب جديد للرئيس الأمريكي، ثوب لا يكذب، لأنه لا يسعى أن يتجمل، وقد كان أسلوبه في دعايته الأنتخابية صريحا ومباشرا وقبل كل ذلك فجا، ولاقى استنكارا من الذين تعودوا أن يتحدث المرشحون بلغة دبلوماسية راقية في اللفظ والمعنى، حتى وان كانت تعكس رؤية لها من ألوان الطلاء والزخرفة ما يغطي عوراتها، لكن ترامب كان نهجا جديدا في مظهره وليس في عمقه. نتذكر في حملته الانتخابية السابقة أقواله عن الرعاية الصحية والغائها، وقضية الجدار مع المكسيك لأنهم تجار مخدرات ومغتصبون، ثم وصفه لدول افريقية بأنها (أوكار قذرة) خلال اجتماع في البيت الأبيض ووفق ما ذكرت (الواشنطن بوست)، أن العضو الديموقراطي في الكونجرس لويس جوتيريز قد رد عليه قائلا أن ترامب رجل عنصري ولايقبل بالقيم المدرجة بالدستور الأمريكي، كما ذكرت أيضا الأمم المتحدة عن طريق مندوبة لها في تصريح قالت فيه (أن تصريحات ترامب صادمة ومعيبة وعنصرية).

وأخيرا يطالعنا السيد ترامب بما كتبه على تويتر أثر تسريب مذكرة سرية للسفير البريطاني في واشنطن وصف فيها ادارة ترامب أنها  »تفتقر للكفاءة« وهو كما نرى توصيف وتعبير سياسي، قال ترامب  »ان السفير البريطاني كيم داروك سفير مخبول وشخص غبي جدا وأحمق متحذلق، وعن رئيسة الوزراء البريطانية المستقيلة تيريزا ماي (ان الأنباء الطيبة للمملكة المتحدة الرائعة هي أنه سيكون لديها رئيس وزراء جديد قريبا)«.

عرفنا في التاريخ القريب قادة للولايات المتحدة، انحازوا بالطبع لمصالح الولايات المتحدة، ولكنهم كانوا سياسيين ينصبون الشباك بمهارة الصياديين المهرة منهم أيزنهاور صاحب نظرية الفراغ أو مشروع ايزنهاور لملء الفراغ في منطقة الشرق الأوسط بعد فشل العدوان الثلاثي، والأنسحاب البريطاني الفرنسي، وفشل المشروع أمام تيار القومية العربية الصاعد، وعرفنا جيمي كارتر مهندس (كامب ديفيد) الذي نجح في تعثر مسار حركة الصراع العربي – الأسرائيلي، وان كان لم يقو على انهائها. وجاء ترامب لكي يقدم طرحا جديدا قوامه تقديم الأقتصاد على السياسة أو وضع العربة قبل الحصان، لكي يعزز من مكانة اسرائيل، ويفرش الطريق أمام توسعاتها في التهام الأرض ومصادرة المستقبل باعلان التنازلات الفلسطينية والعربية. لكنه لن يخرج سوى كونه صاروخا استعماريا آخر، مثل سوابقه من الصواريخ (الفشنك)عبر تاريخ الصراع العربي الأسرائيلي، الذي يمتد عبر قرون.

أن الصراع العربي الاسرائيلي، صراع حقيقي، سياسي اقتصادي استراتيجي عرقي، ولم يكن القادة العظام الذين تولوا مواجهته بنفس عروبي خالص، مجرد مشاغبين برزوا على السطح في غفلة من الزمن، ولكنهم كانوا قادة حقيقيون، كانت شواغلهم التعبير الصادق والأمين عن نبضات شعوبهم، وكان سندهم قبل السلاح هو ارادة شعوبهم، وتطلعاتها لمستقبل تنعم في بالحرية والأستقلال، وبأن تكون ثرواتها لملك لها ولأجيالها القادمة.

ضمانات المستقبل

ليست هناك ضمانة لحرية الشعوب، وحرمة أراضيها، بل ولنهضتها سوى ارادتها الحرة، وقد حاولت اسرائيل ومعها الولايات المتحدة كسرارادتنا في حرب 1967، ولكنها سجلت فشلها، حين هبت الجماهير العربية، ترفض تنحي عبدالناصر، وتهتف (حنحارب.. حنحارب)، وكانت

الشهيد ياسر عرفات
لم يكن مجرد مشاغب.. بل كان بطلا حقيقيا لشعب ثائر

حرب (الأستنزاف) ثم حرب أكتوبر، بل ان نكبة فلسطين عام 1948 واعلان قيام اسرائيل كان يمكن وفق المخطط الأستعماري أن يكون خاتمة وجود فلسطين، ولكن لأن ارادة الشعوب لا تكسر صمد الشعب الفلسطيني (درة الشعوب) في نضاله وصموده البطولي ومن ورائه الشعب العربي وكل الشعوب الحرة، أبقى فلسطين نارا على علم، يشهد العالم كله، بل والتاريخ كذلك عبر السنوات العجاف والقهر والشتات والعدوان الذي لا يتوقف أن فلسطين باقية وعائدة مهما طال الطريق.

العدد 95 – اب 2019