الفنان مارسيل خليفة يفتتح مهرجانات بعلبك الدولية لعام 2019

بعلبك جاد الحاج

عودة مارسيل خليفة الى بعلبك تشبه حفلاته الاخيرة بعد مغامرة  »جدل« التي قدمها في لندن ومسرح بيروت ونيويورك، بوسطن، سان فرنسيسكو، لوس انجليس، شيكاغو، وباريس سنة 1995 بمشاركة شربل روحانا وعبود السعدي وعلي الخطيب، بمناسبة الذكرى المئوية لهجرة جبران خليل جبران الى الولايات المتحدة الأميركية. كانت مدة  »جدل« ساعة و25 دقيقة وفاجأت جمهور لندن الذي كان متشوقاً لسماع الأغاني الشهيرة التي رفعت صوت مارسيل خليفة الى أعلى مستوياته مثل:  »قهوة أمي«،  »أناديكم«،  »منتصب القامة أمشي« ونشيد الجسر للشاعر الكبير خليل حاوي، ناهيك عن  »ريتا«… وأذكر يومها خروج بعض الشبان من القاعة بعد حوالي ربع ساعة لم يشعروا بتواصل وانسجام مع العزف  »الحاف« معتبرين ذلك منافياً لما توقعوه مما اغضبهم وكدنا نستدعي الشرطة لردعهم عن التدخل في مسار العزف الذي لم تتخلله تلك الاغاني اللصيقة بذاكرة الجمهور. إلا أن مارسيل توصل الى قرار وسطي من شأنه عدم الاستخفاف بتوقعات الجمهور من جهة والانصراف الى استكمال مسيرته الموسيقية وتطويرها من جهة أخرى. وذلك بالضبط ما حصل لدى زياراته اللاحقة خصوصاً الى استراليا.

إلا أن مقطوعة  »بعلبك« التي افتتح بها مارسيل مهرجانات بعلبك هذه السنة مع الفرقة الفيلهارمونية اللبنانية بقيادة لبنان بعلبكي، لم تحدث خرقاً حقيقياً في تجاوب الجمهور كما كنا نتوقع. فالحقيقة، حلوة أم مرة، أن شخصية مارسيل خليفة تماهت مع مؤلفاته الغنائية الأولى التي رافقت زمن النضال الفلسطيني في قمة نشاطه وباتت جزءاً لا يمكن فصله عن ذاكرة الجمهور، قديمه وجديده معاً. قصائد محمود درويش رصّعت الأمسية بألق لا يخبو وقد منحت أغنية  »تصبحون على وطن« عنوانها لحفل الافتتاح في بعلبك. أهدى مارسيل خليفة  »رقصة العروس« الى ذكرى الراقصة أميرة ماجد التي أصيبت في عامودها الفقري برصاصة خلال أمسية لكركلا على مسرح الأونيسكو في 13 نيسان (ابريل) سنة 1975، تلتها معزوفة بعنوان  »صلاة موسيقى الليل« المهداة الى كل الفنانين الذين مرّوا على قلعة بعلبك، ثم أنشدت الجوقة مقطوعة  »الحنّة« في صياغة جديدة لمارسيل. بعد ذلك حيّا مارسيل الشاعر المصري صلاح جاهين بقصيدتين  »اكتبني قصيدة« و »عصفورة«.

قال مارسيل:  »سألوني من كنت تحب ان يكون موجوداً في المهرجان هذه الليلة؟ فقلت أمي، لكنها رحلت قبل القصيدة وقبل الأغنية«. وعقّب على ذلك بقصيدة  »أحن الى خبز أمي« وقصيدتي  »أذهب عميقاً في دمي« و »منتصب القامة أمشي«. ولم يعتبر مارسيل ان مقطوعته الافتتاحية تكريماً كافياً لجميع الذين عبروا مهرجانات بعلبك وماتوا إن في الحروب أو في ظروف أخرى. وقال:  »مات كثيرون في حروب عبثية وسخيفة حيث يخسر الجميع بمن فيهم المنتصر. وأنا اليوم متصالح مع نفسي ومع الآخر فكلانا ضحايا، أعيش في مكان أبنيه على الشك فالشك أفضل من اليقين«. والواقع أن هذا التحول التأملي في مزاج مارسيل خليفة بدأ يطرح أسئلة صعبة في الآونة الأخيرة عن مسألة الالتزام السياسي الذي واكب خطواته من عمشيت الى أقاصي الأرض. وقد فوجئ الجمهور في بداية الأمسية بغياب، أو تغييب، النشيد الوطني التقليدي عن لحظة الافتتاح. تعليقاً على ذلك قال مارسيل لاحقاً:  »أنا موجود في عمشيت وجاهز للاستدعاء ان شاؤوا. نعم، كلنا للوطن ولكن فيلعيدوا لنا الوطن… بيئتنا دمّرت وأولادنا هاجروا، حين يعودون سيكون لنا وطن وسنكون كلنا للوطن«. وأضاف:  »حين بدأ الرصاص، اقتلعنا من قرانا وقبعنا في المجهول، فكتبنا موسيقى وغنينا، أريد أن أقنع نفسي بوجود ذرّة أمل«. منطقياً لم يُقنع هذا القول معظمنا لاسباب عديدة أهمها ان الحفلات السابقة التي أحياها مارسيل خليفة بوشرت بالنشيد الوطني من دون مشكلة. من جهة أخرى تبدو الاسباب التي أوردها خليفة على قدر مقلق من البساطة والارتجالية مما يمكن ان يقال جزافاً في سيارة سرفيس او على مائدة أركيلة. وليس سراً ان مارسيل لم يقاسي مرارات الاغتراب والهجرة والاقامة في بلاد الله الواسعة كما حصل لملايين اللبنانيين. أبناه درسا وتخصصا في أفضل المدارس والمعاهد الغربية وعلى رأسها جوليارد وهو يملك بيتاً في باريس وبيتين في الساحل وآخر في الجبل. أما أن ينتظر  »عودة الوطن« كي يسمح بعزف نشيده فمسألة فيها نظر، علماً أنه وصف عنوان أمسيته بوجهين: التفاؤل والتشاؤم معاً أو بحسب قوله النهاية والقيامة، وأضاف انه يؤمن بالمستحيل ولم يبق لنا سوى المستحيل لنؤمن به… فأين التعبير عن التفاؤل في رفضنا تقليداً لا علاقة له بالراهن السياسي ولا بالاشمئزاز العام الذي يسري فينا كالسم إنما هو اقرب الى أعلامنا المرفرفة في كل أنحاء الوطن ولا أحد يُنزلها  »ريثما يعود الوطن«.

العدد 95 – اب 2019