جبران باسيل: دينامية الزحف نحو بعبدا – يناكف أمراء الحرب وقادة الطوائف ويعد نفسه للرئاسة المقبلة

محمد قواص (*)

يتفق مناصروه كما خصومه على أنه يتمتع بحيوية مفرطة لا تستطيع الطبقة السياسية اللبنانية اللحاق بها. يُعترف له في لبنان بنشاطه داخل الوزارات التي تولى قيادتها، كما امتلاكه لقدرات عالية مكّنته من وراثة عمّه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على رأس  »التيار الوطني الحر«. أزاح منافسيه داخل البيت العوني متسلحا برعاية خاصة من قبل عمّه الرئيس الذي يقال إنه لا يرفض له طلبا ويستمع إلى مشورته حتى لو أدى أمر هذه الرعاية إلى إثارة حنق بقية أفراد العائلة.

مناورات الخصومة مع الخصوم

ناكف جبران باسيل قائد حزب القوات اللبنانية سمير جعجع وهو واحد من كبار أمراء الحرب الأهلية في لبنان. ورث هذه المناكفة عن عداء كبير اندلع بين عون، حين كان في قصر بعبدا بصفته رئيسا للحكومة عشية ابرام اتفاق الطائف أواخر الثمانينيات، وميليشيا القوات اللبنانية بقيادة جعجع التي كانت تسيطر على المناطق المسيحية داخل ما كان يسمى  »المنطقة الشرقية« وامتداداتها. اندلعت حينها بين الفريقين ما أطلق عليه  »حرب الإلغاء« التي ما زالت ترفع سدودا نفسية بين أنصار عون وأنصار جعجع.

ناكف باسيل زعيم حركة أمل نبيه بري ووصفه بالبلطجي. وبري أمير كبير آخر من أمراء الحرب الأهلية الذي لم يستسغ الصفقة التي أشرف عليها باسيل مع زعيم تيار المستقبل سعد الحريري والتي أفضت إلى انتخاب عون رئيسا للجمهورية.

وناكف باسيل الزعيم الدرزي وليد جنبلاط وهو من أقدم أمراء الحرب الأهلية والذي قاد المواجهة ضد الجيش اللبناني بقيادة عون في الشحار في منطقة الجبل في ثمانينيات القرن الماضي. ولطالما اعتبر جنبلاط أن احتمال وصول عون إلى بعبدا هو كابوس.

جبران باسيل: دهاء أن مهور؟

باسيل يناكف الطبقة السياسية التقليدية ليس من باب تقديم وجبات حديثة للعمل السياسي في البلاد، بل من باب التحضير للانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2022. عون نفسه أعلن أن باسيل يتقدم المنافسين، وبناء على هذا التبني الرئاسي ينطلق الوزير المرشح لفتح الطريق نحو رأس الدولة مزيلا من أمامه كافة العقبات الراهنة والمحتملة في المستقبلة. وفي ذلك يتكل باسيل على تحالف مع حزب الله بدأ منذ اتفاق مار مخايل عام 2006 أو ما يعرف بـ  »ورقة التفاهم« التي وقعت بين عون وزعيم حزب الله السيد حسن نصر الله. وعلى هذا فإن الكثير يجمع على أن قوة  »الصهر« متناسلة من قوة  »العمّ« لكنها مستوحاة من الحلف العتيق مع حزب الله.

الآلية المعقدة

لا يمكن للعقل القبول أن حراك جبران باسيل الحيوي هدفه فقط الزحف الحثيث نحو قصر بعبدا. بل إن أي تأمل حقيقي لدينامية هذا الرجل تقودنا منطقيا إلى استنتاج استحالة أن يصبح صهر الرئيس ميشال عون خليفة له في رئاسة الجمهورية. تطالب أبجديات العمل السياسي المرشح لمنصب حساس بهذا المستوى باعتماد سلسلة من المواقف  »الرئاسية«، وتفرض عليه تموضعاً جديداً يليق بالمنصب المتوخى، ناهيك عن أن لأمر الرئاسة في لبنان قواعد ومعايير أخرى تستلزم فائض حنكة وحصافة ودهاء. لم يحتج ميشال عون العمّ لكل ذلك لكي يصبح رئيساً فلماذا يحتاج باسيل الصهر لذلك.

فرضت التوازنات، الداخلية والخارجية، رؤساء الجمهورية في لبنان. تلاقت إرادات الخارج البعيد والخارج القريب دوما لإنتاج شخصية أمكن لها تسويق نفسها خياراً  »مقبولاً« لدى التيارات السياسية في البلد. والتيارات في لبنان، ليست يسارا ويمينا ولا وسطا وراديكالية كما هي التصنيفات التقليدية في دول العالم، بل هي خليط من طوائف ومذاهب وعشائر وبيوتات سياسية عتيقة.

لم يغب عن بال المسترئسين يوماً حكاية تشكّل لبنان من جبلة وولاية بيروت والأقضية التابعة، ولا واقعة ولادة لبنان من مسار تاريخي راجت فيه الإمارات المتتالية وعهود المتصرفية وما بعدها، ولا الكوابيس المأساوية للاقتتال الفتنوي الداخلي سواء ذلك القديم الشهير عام 1860، وصولاً إلى ذلك الحديث الذي تفجر في ما عرف بالحرب الأهلية (1975-1990)، انتهاء بمواجهات أهلية لم تنته مذاك.

من أراد أن يكون رئيسا للجمهورية في لبنان عليه أن يكون مارونيا. هذا هو العرف الذي انتهجه اللبنانيون منذ الاستقلال. لكن مارونية المرشح ليست كافية لإقناع المسيحيين أنفسهم قبل إقناع بقية الطوائف في البلد بجدارته رئيسا للبلاد. ولطالما كان على هذا الماروني أن يمسك بنقطة التقاطع العبقرية التي يلتقي عندها اللبنانيون بكافة تياراتهم وطوائفهم، وتلتقي داخلها اللحظة الدولية التي لا يملك لبنان إلا أن يكون مطيعاً لقوانينها. فما الذي يُعدِّه جبران باسيل لكي يكون الرجل المناسب لتيك النقطة وتلك اللحظة.

لا يمكن لعاقل أن يصدق أن باسيل الذي يشنّ حملة ضد السنّية السياسية يوماً، وضد الشيعية السياسية و »بلطجة« نبيه بري يوماً ثانياً، وضد الدرزية السياسية وزعامة وليد جنبلاط يوماً ثالثاً، هو بصدد إعداد الرئاسة المقبلة لنفسه. ما المصلحة في البكاء على مُلك مزعوم سلبه السنّة من المسيحيين. وما المصلحة في معاداة شيعة حركة أمل وزعيمها. وما الحكمة من العبث بالتوازنات الدرزية كرافعة من رافعات فتح أبواب بعبدا أمامه. وما غنائم كل ذلك في حسابات المرشح المُسترئس.

صورة بشير

استقوى ميشال عون طويلاً بتحالفه مع حزب الله. دافع عن  »فائض القوة« وعن  »المقاومة« كاستراتيجية يحتاجها لبنان ضد إسرائيل. رسم الرجل خرائطه وفق الوجهة التي تصله ببعبدا. ورغم تلك القوة غير المسبوقة التي يملكها للهيمنة على قرار الحكم والحرب والسلم، لم يستطع حزب الله أن يفرض عون رئيساً للجمهورية. استطاع الحزب بنجاح أن يمارس ما يجيده. عطّل الحياة السياسية وقطع طريق بعبدا على المنافسين حتى الحلفاء منهم للحزب، لكنه لم يستطع أن يفرضه على لبنان رئيسا. عرف عون ذلك.

كان على الرجل أن يمر من خلال مصالحة مسيحية جرى ترتيبها بصبر وأناة ومثابرة جمعته بخصمه اللدود زعيم حزب القوات اللبنانية سمير جعجع. كانت تلك المصالحة مع المسيحيين ضرورة لمنح عون شرعية العبور نحو تمثيل الموارنة في رأس السلطة في البلاد. وكان عليه أن يمر من خلال صفقة موجعة مع سعد الحريري بصفته الزعيم الأول للسنّة في لبنان. كانت تلك الصفقة تاريخية في ظروف تشكّلها وتعقّد تسويقها لتخصيب عون بشرعية العبور الوطني ما فوق الماروني إلى بعبدا. فعلى ماذا يعوّل باسيل الذي واكب تلك الصفقات وخبر عِقَدِها لتحقيق طموحه الفجّ في وراثة عمه واستباق احتمال غيابه.

وإذا كان علم المنطق يجد تناقضا بنيوياً ما بين طموحات باسيل ووِرَشِهِ لتحقيق ذلك، فلحساب من يجتهد باسيل لتفجير الفتنة هنا وهناك والسعي لتفخيخ التمثيل السياسي للطوائف وفي عقر دارها؟

قد يستنتج البعض أن في خطاب باسيل روحية بشير الجميل العزيز على قلب الذاكرة الجمعية لكثير من المسيحيين، وأن خطاب استعادة حقوق المسيحيين يدغدغ مشاعر الجمهور المسيحي منذ إبرام اتفاق الطائف. غير أن استخدام لغة شعبوية تمسّ بعنصرية وطائفية أهل البلد

الرئيس ميشال عون: دعم  »الصهر« ورعاية طموحاته

والمقيمين فيه والتي قد تلقى آذانا صاغية لدى الجمهور المسيحي قد تشدُّ حول باسيل عصبا مسيحيا لن يكون ولم يكن يوما شرطا من شروط الوصول إلى بعبدا، لا بل كان اشتداد العصب حول أي مرشح السبب الأول لحرمانه من منصب الرئاسة الأولى.

يستفيد باسيل من دعم حزب الله كما استفاد عون من دعم حزب الله. يتأمل الحزب حراك باسيل بصمت. لا يلعب باسيل أبدا خارج ملاعب الحزب. يضرب باسيل في الميادين التي يريد الحزب ضربها.

الحلف مع حزب الله

غمز باسيل بعنف من قناة السنية السياسية مستهدفا الحريرية السياسية وزعيمها سعد الحريري. خرجت مصادر الحزب ترفض أن يكون الحريري مكسر عصا. هكذا يتدخل الحزب مدافعا عن الخصم من ترهات حليفه.

لم يغضب حزب الله كثيرا ولم يضرب يدا على طاولة حين وصف باسيل حليف الحزب نبيه بري بأنه  »بلطجي«، بل أخرج بيانا يكاد يكون خجولا رافضا تلك  »الإساءة«.

وفيما بشوب علاقة جنبلاط بحزب الله توتر، ينشط باسيل، على نحو مستفز وغير مبرر وغير منطقي في سياق حملة رئاسية، داخل جغرافيا الدروز وفضاء جنبلاط السياسي التاريخي. فهل يتحرك الحزب لقطف الثمار وتوفير حاضنة حنونة لبيك المختارة؟

والظاهر أن ما جرى من مواجهات دموية في منطقة الجبل الدرزي يأتي مكملا لمسار رسمه باسيل ضد الشيعية السياسية المتمثلة برئيس مجلس النواب نبيه بري وبالسنية السياسية المتمثلة برئيس الوزراء سعد الحريري. والظاهر أن للسجال مع السنّية السياسية كمقدمة للسجال مع الطوائف الأخرى صدى لدى المسيحيين.

ليس في لبنان اليوم سنّية سياسية. السنّية السياسية تعني الحريرية السياسية. قبل رفيق الحريري كان هناك قيادات سياسية سنّية موزعة مناطقيا وتعمل متعايشة مع قواعد المارونية السياسية التي حكمت البلد منذ الاستقلال. لم تكن هذه القيادات مجتمعة تعبّر عن رؤية يمكن نعتها بالسنيّة السياسية. فالسنة في لبنان لم يكونوا يشكلون حالة محلية مستقلة عن الرياح الإقليمية التي كانت تعصف بكل المنطقة بنسخ ناصرية أو بعثية أو عرفاتية أو يسارية. وبالتالي فإن المارونية السياسية لم تكن متوجسة إلا من رياح الخارج وما يمكن أن تفتك به داخل بلد تحكمه منذ الاستقلال.

السنية السياسية

والحال أنه قبل اندلاع الحرب الأهلية لم تكن المارونية السياسية تفرّق كثيرا بين سنيّة سياسية وشيعية سياسية. كانت المارونية تعتبر أنهم الـ  »آخر« الذي من خلاله تتسرب أفكار من الخارج تهدد  »حكم الموارنة«. كان اعتراض هذا الـ  »آخر« يأخذ صفة  »تقدمية« يندرج في صفوفها سنّة وشيعة ودروزا وطوائف أخرى، إضافة إلى مسيحيين تمردوا على المارونية السياسية وانحازوا إلى قيّم أخرى تختلف عما كانت تنتجه النخبة الحاكمة من قيم حكم.

اختلفت تلك التصنيفات هذه الأيام. سقطت الناصرية وسقطت البعثية وسقطت الشيوعية. باتت الشيعية السياسية وازنة بزعامة حزب الله متناسلة من وصاية دمشق على البلد سابقا ومن وصاية إيران عليه هذه الأيام. وبات ما يحكى عن سنيّة سياسية مستوحى من مشروع رفيق

حرب باسيل ضد السنية السياسية: خطاب المظلومية من  »الطائف«

الحريري الذي وحّد سنة لبنان لأول مرة تحت راية زعيم وحيد أوحد. وحين يتم الحديث عن السنيّة السياسية فذلك لا يعني في عرف جبران باسيل الذي يشن حملة ضدها، قيادات وشخصيات سنيّة محايدة عن الحريرية أو ناصبتها الخصومة والعداء منذ ولادتها.

ينهل باسيل في هجومه على السنيّة السياسية من مخزون حقيقي داخل الوعي الجمعي للمسيحيين عامة والموارنة خاصة. يستدرج الرجل عقائد سابقة لطالما كتب عنها مثقفو المارونية السياسية ونُفخ بها لبناء خطاب تعبوي عسكري لاحقا لرد المدّ العربي (المتخلف وفق بعض الأدبيات) عن لبنان. رفض العماد ميشال عون اتفاق الطائف عام 1989 (حين كان قائدا للجيش رئيسا للوزراء آنذاك)، لأن في مضمون الاتفاق ما يقلّص صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني. الاتفاق ينص على أن كثيراً من تلك الصلاحيات باتت من اختصاص مجلس الوزراء مجتمعا. غير أن سنيّة رئيس مجلس الوزراء سهّلت على العونية تسويق ادعاء انتزاع السنّة للسلطة من الموارنة.

والحال أن معاناة الراحل رفيق الحريري كما سعد الحريري كما أي رئيس حكومة آخر في الحكم وفق هذا  »الطائف«، تفصح عن كمّ القيود الدستورية التي تحاصر الموقع السياسي السنّي الأول، ليس فقط من قبل أي رئيس ماروني للجمهورية، بل من قبل أي وزير داخل حكومته.

على أن المارونية السياسية هذه الأيام، ووفق المفهوم الذي يريد جبران باسيل إعادة إحيائه، تعاني من سطوة الشيعية السياسية وليس السنيّة السياسية، ولا حتى الحريرية السياسية مباشرة. يسيطر حزب الله على البلد. يقرر متى تفتح أبواب مجلس النواب ومتى يتم الانقلاب على سعد الحريري ومتى يقبل عودته للبلد وللمنصب. يقرر الحزب، وفق أجندته توقيت الانتخابات الرئاسية وهوية الرئيس المنتخب وطبيعة قانون الانتخابات وشكل الحكومة النهائي. بالنهاية فإن كل الطبقة السياسية اللبنانية داخل الحكم تعمل وفق أجندة حزب الله، ومن يتمرد على هذه الحقيقة يبقى خارج هذا الحكم وخارج هذه الدولة.

يبدو الجدل الذي أثاره جبران باسيل في الوعد بانتزاع حقوق المسيحيين من السنيّة السياسية مباراة تمرينية على رقعة لعب يتحكم حزب الله بقواعدها. يدور السجال في مساحة بعيدة جداً عن الجدل الذي دار منذ عام 2000 والذي دفع إلى تفعيل موجة اغتيالات منذ ما قبل اغتيال رفيق الحريري عام 2005. ينقل الضجيج الحالي أزمة لبنان إلى مفردات خارجة عن سياق الصراع الحالي المرتبط بموقع إيران في المنطقة ومستقبل نفوذها في بلدانها. يعيد باسيل لبنان إلى ما قبل الطائف وإلى ما قبل الحرب الأهلية، وينجح باستدراج السنّة أنفسهم إلى جدل سنّي-ماروني يبدو صبيانيا سطحيا مقارنة بالجدل الحقيقي حول ما تريد إيران من خلال حزب الله وشيعيته السياسية أن تجر البلد إليه.

الشعبوية.. موضة العصر

يتقصد باسيل بدهاء كامل استفزاز السنّة يساعده في ذلك مواقف بعض المنابر السنّية في الردّ عليه. يتصرف باسيل بشعبوية تشبه تلك الرائجة هذه الأيام في العالم ويرعى تعبيراتها دونالد ترامب في واشنطن. يزرع الأخير كمية من بذور الكراهية التي تجد شعبية لها لدى الجمهور

باسيل هاجم بري وحزب الله دان هذه  »الإساءة«

الانتخابي المقصود بغض النظر عن أخلاقية القيم التي ينفخ بها. يمسّ باسيل قاع العنصرية المتقادم منذ اندثار النازية الهتلرية. يتحدث الرجل عن  »جينات« لبنانية ثبت علميا أنها غير موجودة، وإن وجدت فهي خليط من جينات أفريقية وآسيوية وأجناس أخرى يرتعب باسيل من أن يكون متحدرا وقومه منها. ليس مهما شكل الوسيلة وبشاعتها المهم الغاية النهائية من ذلك.

والواقع أن العونية أثبت جدارة خطابها في احتلال الفضاء المسيحي. وفق ذلك الخطاب المعادي للـ  »آخر« داخل الحلف الرباعي الانتخابي عام 2005، حقق عون  »تسونامي« داخل البيت المسيحي. ووفق خطاب حلفه مع حزب الله المعادي للسنيّة السياسية ببعديها المحلي والعربي صار عون رئيسا للجمهورية. وعلى هذا، فإن الصهر سرّ عمه، وأبواب بعبدا واعدة أمامه بصفته المُعبِّر عن وجدان المارونية السياسية العتيق، وحراكه ليس تحضيرا للاستحقاق الرئاسي عام 2022، بل ينشد جهوزية لهذا الاستحقاق في أي وقت مفاجئ قبل ذلك.

خطاب المارونية السياسية القديم ضد الـ  »الآخر« ضد  »الغريب« ضد  »التخلف العربي« والمتبجح بتفوق  »العنصر اللبناني« على خطى من دعا يوماً إلى تفوق العنصر الآري، لطالما ووجه قديماً بخطاب من قبل سّنية سياسية ما، كان يضخ أمصالا مضادة لسموم ثقافة الخوف وتقديس الـ  »أنا« وتضخيم الذات.

كانت هذه السنيّة السياسية المفترضة تنهل من مدّ عروبي مندثر. بيد أنها في تبشيرها اللاحق بـ  »لبنان أولاً« وبلادتها في ابتكار وعاء أنسانوي لتلك اللبنانية الحصرية المترجلة داخل خطابها، وقعت في فخّ المدافعين عن  »لبنان القوي«. في سكوتها هذه الأيام عن حملة عنصرية سوداء ضد السوريين والفلسطينيين وأي  »آخر«، وعزوفها المخجل عن مواجهة عار ذلك، تبدو السنية السياسية هزيلة لاهية بألعاب باسيل المفضلة، تختصر نفسها بموقع رئاسة الوزراء مُهمِلة موقع السنّة أنفسهم في تاريخ وراهن وهوية ووظيفة البلد والمنطقة برمتها.

لن يصبح باسيل رئيسا للجمهورية. الرجل يتمتع بذكاء ونباهة ويعرف جيدا أن الطريق التي يسلكها لن توصله إلى القصر الرئاسي. فلماذا يسلك هذا الطريق؟

يقدم الرجل خدمات مجانية لمنافسيه في السباق الرئاسي. لن يقبل لبنان رئيسا لا يعترف بأن الحرب الأهلية قد انتهت وأن اتفاق الطائف بات ينظم الحياة السياسية اللبنانية. ولن يقبل اللبنانيون برئيس لا يعترف بحيثيات طوائفهم ومذاهبهم وبحساسيات الهويات المتعددة المتلامسة المتعايشة وفق معادلات دقيقة.

يتلاعب باسيل بتوازنات  »الطائف«، فما مصلحته في التصويب على هذه التوازنات لتحقيق طموحه في أن يكون رئيسا لإحدى جمهوريات الطائف؟ هل يقف حزب الله خلف هذا التصويب وضد هذه التوازنات ويعتبرها متقادمة يُعمل على قلبها؟

يلعب باسيل من حيث يدري أو لا يدري ومن حيث يخدم نفسه أو يخدم غيره على وتر الفتنة. الأمر ليس افتراضيا بل أن وقائعه كانت خطرة في قبرشمون في قلب  »الجبل«. فهل يجوز أن تندلع حرب أهلية من أجل عيون الصهر الطموح؟ لا أحد يريد هذه الحرب لا في الداخل ولا في الخارج. وبدا في الأيام الماضية أن إقفال بعبدا أمام باسيل بات ضمانة منشودة لمنع تقدم ظلال تلك الحرب من حاضر ومستقبل لبنان.

العونية ضد الجنبلاطية في مناورات باسيل الجديدة

ربما من المبكر إلقاء الأحكام على المشهد الرئاسي المقبل. الانتخابات ما زالت بعيدة. بيد أن باسيل يخشى من الأقدار ومن أن يأتي طارئ ما يُحدث فراغا مفاجئا في قصر بعبدا. يتحضر باسيل لهذه الأقدار ويسعى لفرض نفسه قدرا وحيدا، تماما كما قُدم عمّه ميشال عون قدرا وحيدا يليق بقصر بعبدا.

باسيل يناكف الطبقة السياسية التقليدية ليس من باب تقديم وجبات حديثة للعمل السياسي في البلاد، بل من باب التحضير للانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2022. عون نفسه أعلن أن باسيل يتقدم المنافسين، وبناء على هذا التبني الرئاسي ينطلق الوزير المرشح لفتح الطريق نحو رأس الدولة مزيلا من أمامه كافة العقبات الراهنة والمحتملة في المستقبلة.

من أراد أن يكون رئيسا للجمهورية في لبنان عليه أن يكون مارونيا. هذا هو العرف الذي انتهجه اللبنانيون منذ الاستقلال. لكن مارونية المرشح ليست كافية لإقناع المسيحيين أنفسهم قبل إقناع بقية الطوائف في البلد بجدارته رئيسا للبلاد. ولطالما كان على هذا الماروني أن يمسك بنقطة التقاطع العبقرية التي يلتقي عندها اللبنانيون بكافة تياراتهم وطوائفهم، وتلتقي داخلها اللحظة الدولية التي لا يملك لبنان إلا أن يكون مطيعاً لقوانينها. فما الذي يُعدِّه جبران باسيل لكي يكون الرجل المناسب لتيك النقطة وتلك اللحظة.

سمير جعجع وسليمان فرنجية.. منافسان جديان لباسيل على الرئاسة

لا يمكن لعاقل أن يصدق أن باسيل الذي يشنّ حملة ضد السنّية السياسية يوماً، وضد الشيعية السياسية و »بلطجة« نبيه بري يوماً ثانياً، وضد الدرزية السياسية وزعامة وليد جنبلاط يوماً ثالثاً، هو بصدد إعداد الرئاسة المقبلة لنفسه. ما المصلحة في البكاء على مُلك مزعوم سلبه السنّة من المسيحيين. وما المصلحة في معاداة شيعة حركة أمل وزعيمها. وما الحكمة من العبث بالتوازنات الدرزية كرافعة من رافعات فتح أبواب بعبدا أمامه. وما غنائم كل ذلك في حسابات المرشح المُسترئس.

قد يستنتج البعض أن في خطاب باسيل روحية بشير الجميل العزيز على قلب الذاكرة الجمعية لكثير من المسيحيين، وأن خطاب استعادة حقوق المسيحيين يدغدغ مشاعر الجمهور المسيحي منذ إبرام اتفاق الطائف. غير أن استخدام لغة شعبوية تمسّ بعنصرية وطائفية أهل البلد والمقيمين فيه والتي قد تلقى آذانا صاغية لدى الجمهور المسيحي قد تشدُّ حول باسيل عصبا مسيحيا لن يكون ولم يكن يوما شرطا من شروط الوصول إلى بعبدا، لا بل كان اشتداد العصب حول أي مرشح السبب الأول لحرمانه من منصب الرئاسة الأولى.

ورقة التفاهم بين عون ونصر الله سند باسيل في  »جهاده« نحو الرئاسة

 

 

 

 

 

 

 

(*) صحافي وكاتب سياسي لبناني

العدد 95 – اب 2019