حوار حول كتاب  »الأوبانيشاد«، مع الدكتور نبيل مُحسن

نسرين الرجب ـ لبنان

كتاب الأوبانيشاد لمؤلفه شري أوربيندو، ترجمة الدكتور نبيل محسن، وهي ترجمة صادرة عن مكتبة بيسان، في طبعة أولى نيسان 2019.

والأوبانيشاد تاريخ فلسفة لها عُمقها الأزليّ في عالم السؤال والبحث عن الحقائق الكونيّة، يعود تاريخها إلى ما قبل الميلاد، نصوص كتبها أشخاص مختلفون على مدى عدّة قرون  وفي أماكن ومسائل مختلفة، تلتقي حول أفكار معينة وتطرح عدّة عقائد. تمثّل الأوبانيشاد ذروة التفكير الفلسفيّ الهنديّ، وهي فلسفة حدسيّة كما عرّف عنها المترجم، وتشكّل منبع مختلف تيارات الديانة الهندوسيّة القديمة والحديثة، كما يمتد تأثيرها إلى البوذيّة.

يلجأ إليها كل باحث ودارسٍ للفلسفات الشرقيّة، ومهتمٍ  باكتشاف عُمق أثرها وتأثيرها في الديانات والثقافات الأخرى.

يقع الكتاب في 382 صفحة، في الجزء الأوّل منه تضمّن تعريفّا بمؤلّف الكتاب  »شري أوربيندو« الذي  والكلام للمُترجم ـ  »بدأ حياته يعمل من أجل تحرير الهند واستقلالها، وغادر وهو يعمل من أجل التحرر والتطور الروحي للإنسان«، تلاهُ مقدمة المترجم، وتعريف بتاريخ

الدكتور نبيل مُحسن

الأوبانيشاد، ومدخل إلى أهم المحاور والعقائد التي تناولتها، وفي الجزء الثاني والأساسي منه تتضمَّن ترجمة الكتاب ثلاثة أقسام تناولت مفاهيم وعقائد هذه الفلسفة من خلال نصوص تعود إليها، وفي الختام وضع المترجم معجم الكلمات  والتعابير السنسكريتيّة التي وردت في الكتاب بهدف توضيح أبعادها التي تخص هذه الفلسفة وحدها.

لا تقتصر مهمّة التُرجمان على النقل، وخاصة في المجالات التي لها خصوصيّتها وتطلّب مهمّة نقل معانيها عناية ودقّة بالغة، من هنا يأتي دور التُرجمان في إعادة تشكيل مؤلّف باللغة المُترجَم إليها، لذا فهو مؤلّف ثانٍ للنص المُترجم، لأنه ينقل فهمه لهذه النصوص، وقد يعود فشل بعض الترجمات إلى أن الترجمان أدّى دور الناقل وليس الباحث، فاكتفى بالكتاب ولم يبحث عن خلفيات أخرى تتصل بالمضمون، وخاصة في الكتب الفكرية والتي تتناول إشكاليات دقيقة وحساسة، وفي هذا الكتاب يسرد المؤلّف مدى جدِّه وحرصه على البحث والتدقيق وعن تعدد مراجع ومصادر بحثه، مما يؤكّد نظرية أن الترجمة الحقّة هي إبداع مستقل وموازٍ للأصل.

الدكتور نبيل محسن هو اختصاصيّ بأمراض الدماغ والجهاز العصبيّ، له اهتمام خاص بدراسة الفلسفات الشرقية، نُشِر له سابقا ترجمة كتاب  »الهندوسية وتحضيرها لانعتاق الروح«.

وعن ترجمته الحديثة لكتاب  »الأوبانيشاد«  كان للحصاد شرف الحديث عن  فلسفة الأوبانيشاد وأهمية الطرح الذي تُمهّد له ترجمة الكتاب إلى العربيّة، وعن تقاطعيّة علوم معرفة الذات مع هذه الفلسفة العميقة الأثر.

كتبها أشخاص مختلفون في أوقات مختلفة..

تحدّث الدكتور نبيل عن هذه الفلسفة قائلا: إنّ الأوبانيشاد نصوصٌ مُلحقة بالفيدا، والفيدا هي النصوص المقدّسة الأقدم في الهند، ولكنّها تُركّز على الطقوس، في حين أنّ الأوبانيشاد كُتِبت من قبل أشخاص انسحبوا من المجتمع وتفرّغوا للتأمل في حالة تُمثّل الابتعاد نسبيّا عن الطقوس، للإجابة عن أسئلة أعمق تتعلق بالنفس والحياة والوجود والألوهة والخلاص..

وأضاف: الأوبانيشاد كتبها أشخاص مختلفون في أوقات مختلفة وبطرُق مختلفة، بعضها شعريّ وبعضها نثريّ، وبعضها أمثولات. وهي في مجملها تكتسب أهميتها من انها تؤسس لمفاهيم الخلاص والتجدد والكارما، والروح.. وهي الأفكار التي نجد لها امتدادا في كل الديانات والفلسفات الشرقية.

الفكر العربي المعاصر هو فكر مأزوم حضاريّا

تحدّث الدكتور مُحسن عن تقصير المكتبة العربيّة في ترجمة الكتب الفلسفيّة التي تعود إلى جذور حضاريّة قديمة، وعن مدى جهوزيّة الوعيّ العربي لاستقبال هذه الأفكار، أوضح الدكتور مُحسن أن  الفكر العربي المعاصر لم يهتم بدراسة الحضارة القديمة دراسة مقارنة، كما أنه لم يبد أي التفات كان لدراسة الثقافات والحضارات الشرقية بما فيها الفارسية، وذلك لأنه فكر مأزوم حضاريّا، ولأن الحاجز اللغويّ والدينيّ الرسميّ يعيقه في مبادرة كهذه. عندما كان العالم الاسلامي يعيش حالة توسعيّة وازدهارا انكبّ الباحثون والمفكرون بكل ثقة على ترجمة الفكر اليونانيّ والهنديّ إلى اللغة العربيّة. وبما أن الفكر الهنديّ هو موضوعنا، ننوّه أن البيروني، وهو من أصل فارسيّ، رافق الغزنوي في فتح الهند، وكتب باللغة العربية عن تراث الهند ومعارفها، وعن الفكر الديني فيها. إن دراسة حضارة وثقافة الشعوب الأخرى علامة قوّة، وانفتاح تساهم في تعميق المعرفة وتغني الثقافة وتفتح أبواب الالتقاء والتطور.

الهند معدن الحكمة

السّر في كوْن الهند أرضا خصبة لنمو الأفكار الفلسفيّة  والعقائد الدينيّة، كما يقول  الدكتور مُحسن، هو أنّ: الهند بيئة ملائمة سمحت بظهور الافكار التي شكّلت جوهر الأوبانيشاد، وهذه البيئة تميّزت بالتصوّف والزهد وانتشار النُسّاك، مع ميل للتعدديّة والتسامح سمح بظهور العديد من الأفكار التي شكّلت  بمجملها ما يمكن أن ندعوه اليوم بالديانة الهندوسيّة التي تسمّى ـ أيضا ـ الديانة الأزليّة.

 يُضيف: وكذلك، أيضا، تُعرف الهند بمعدن الحكمة وأرض الروح ومتحف المذاهب… وإن كنّا نجد الممارسات الصوفيّة والنسكيّة في الاسلام والمسيحيّة وديانات أخرى إلا إن لها طابعا وفكرة خاصة في شبه القارة الهندية ترك تأثيره في أماكن أخرى من العالم..

كتاب الأوبانيشاد

الترجمة تتطلّب معرفة باللغة والظروف التاريخية

وفي حديثٍ عن صعوبة الترجمة، أوضَح الدكتور مُحسن: غنيّ عن القول إنّ ترجمة نصوص قديمة كُتبت ما قبل الميلاد باللغة السنسكريتية وكتبها أشخاص مختلفون في أزمنة مختلفة ليس بالأمر اليسير، وهذا يتطلّب معرفة باللغة والظروف التاريخية التي كتبت بها النصوص كما أن لهذه النصوص الفلسفية ، أحيانا قراءات متعددة أو مستويات مختلفة من التفسير، ولذلك تطلبت ترجمة هذا الكتاب وقتا طويلا واستعنت بترجمات  عن لغات أخرى ولجأت للمُلمّين باللغة السنسكريتيّة في الهند وفرنسا، أسألهم النُصح وجلاء بعض المعاني الصعبة..

وعن إبقاء المصطلحات السنسكريتيّة في سياق الكتاب على ما هي عليه، ووضع فهرس توضيحي لها في نهاية الكتاب؛ اعتبر أنّ ذلك هو محاولة وخطوة أولى نحو دراسات أكاديميّة وجادّة ومتخصّصة.

الكتاب يسعى إلى فتح أبواب جديدة للدراسة والتفكير والتأمل

يوحي انتشار برامج التنميّة الذاتيّة، بحدوث فجوَة روحيَّة في العالم، تتشابك المصطلحات التي تستخدمها هذه البرامج مع الكثير من المصطلحات الفلسفية، فهي تدعو إلى التحرُر الطاقي، والتأمل في أعماق الذات، يُشير الدكتور مُحسن في هذا السياق، إلى أنّ نموذج الحضارة الغربيّة السائد اليوم  لم يترك للإنسان الفرد أيّة فرصة لاكتشاف الذات والتأمّل  في هذا الوجود، وهذا ما سمح للأفكار القادمة من الشرق، وسمح للغورو ولمُعلميّ اليوغا والجمعيات والأنديَة التي تُعلّم فهم الذات والتأمل أن تنتشر في أوروبا وأميركا..بغض النظر عن أصالة وحقيقة هذه الممارسات. ولكن الكتاب الذي نحن بصدده اليوم، أي  »الأوبانيشاد« ليس له أي علاقة بهذا التوجّه. فهو يسعى إلى فتح أبواب جديدة للدراسة والتفكير والتأمل، والرغبة في الانفتاح على إرث وثقافة وحضارة الآخرين  لا سيّما الحضارات الشرقيّة. والمكتبة العربيّة تفتقر بشدّة لهذا النوع من الدراسات.

 

العدد 96 – ايلول 2019