رحلـة فـي عقـل الكاتبـة غـادة السـمان

غنى الفكر وثراء الخيال.. تترجم غزارة الانتاج وتميزه.

أمين الغفاري

فرق كبير أن تغوص في ابداع كاتبه، قد تنوعت ألوان انتاجها وتعددت اصداراتها بين القصة والرواية، والشعر وأدب الرحلات، مثل غادة السمان أو أن تبحر معها في ثنايا تكوينها الشخصي، وأن تقتحم بجرأة وجسارة عالمها النفسي، وتجردها من هالة الغموض التي تكتنفها، وأن تشدها بعيدا عن تلك العوالم التي شيدتها بنفسها، وحاكتها بأناملها، ثم عادت وطلتها بفرشاتها لكي تبدو أمام عينيك وفق ما أحبت وهوت أو عشقت. لقد أبدعت بالفعل فيما سكبت من سطور طعمتها ببعض ذاتها، وبقطرات من خوالجها. هكذا يمكننا أن نتفهم ذلك الكتاب الذي صدر مؤخرا، فهو صورة بلا رتوش، ولوحة بلا ألوان. هو غادة السمان العقل والفكر أو الراي والتكوين، وليس اليراع النافذ والحكي المسترسل والخيال الذي يحلق في سموات مفتوحة، أو بشكل آخر النبض المرهف والوجدان الحالم. صدر ذلك الكتاب وعنوانه (تعرية كاتبه تحت

الكاتبة غادة السمان
تعبيراتها في الحوار تشكل قاموسا للأقوال المأثورة

المجهر)عن الروائية الشهيرة (غادة السمان) يتناول مجموعة من الأحاديث والحوارات أو بتعبير الكتاب الأستجوابات الصحفية لنخبة من الكتاب والصحفيين، عبر صفحاته (235) صفحة، وهو صادر عن منشورات غادة السمان. تتضمن الحوارات قضايا تناولتها الكاتبة بمعالجات، يمكن ان ترضي القارئ، ويمكن أيضا أن لاتشبعه، ولايمكن في تلك الحالة أن نعود للكاتبة بلهجة عتاب، فالكاتب – كما تذكر في حوارها مع (رشا المالح)- ليس مسؤولا على جريمة ارتكبها أحد أبطال قصصه، تستطرد فتقول وجهة نظر المؤلف نستشفها من روح النص ككل ومن روح مجمل اعماله. ثم اجدني عاجزا عن أنهي تلك الفقرة دون أن أسجل توقفي الشخصي أمام تلك العبارة وعلى فمي ابتسامة عريضة، ولكنها بالتأكيد راضية (آه.. لايجمع العرب الا نظرتهم المتخلفة الى المرأه).

العين ورحلتها عبرالسطور

تبدأ الرحلة، وتسرق السطور عينيك، وانت تجري بها عبر الكلمات، وزحام الحروف، وتدفق الخواطر حتى تصطدم بكلمة لها جلال، ولوقعها رنين، ولاتملك سوى ان تتوقف عندها، لترى وانت تتلهف لتعرف مدى وزنها عند الروائية الكبيرة حين تسألها (ليندا عثمان) ما هي أجمل مفردة في حياتك؟ فتجيب.. الحرية. أتصور لو تركت الروائية الشهيرة لعواطفها العنان لكي تجيب لقالت.. الحب. الحب بالطبع على لسان أديبة تعرف أن للكلمة حرمه ووزن، هو العاطفة في أعلى درجات سموها، وليست تلك الكلمة التي طالما ابتذلت على لسان أهل النغم والطرب، والذين لايملكون سوى شبق الغرائز، وبوهيمية الحيوانات، ولكن لأن العقل هو الحاكم، حتى وان كانت ملكاته تغلفها حمم عالية من المشاعر، فلابد أن تكون الأجابة – كما جاءت محددة، واضحة المعالم، وعالية النبرات -هي (الحرية) لكن يبقى سؤال هل الحرية مفهوم مطلق وصارم.. أم هي مفهوم خلافي ونسبي ؟ أتذكر في رواية قديمة للكاتب احسان عبدالقدوس باسم (أنا حره) و، وروايات احسان عبدالقدوس كانت في الغالب روايات ذات مفتاح كما أطلق عليها توفيق الحكيم، أي أنها تدور حول فكرة يختصرها احسان في سطور داخل مربع يتصدر رواياته، وكان مفتاح رواية (أنا حره) تلك السطور (ليس هناك شيئ اسمه الحرية، فأكثرنا حرية هو عبد للمبادئ التي يؤمن بها والغرض الذي يسعى اليه، أننا نطالب بالحرية لنضعها في خدمة أغراضنا، وقبل ان تطالب بحريتك اسأل نفسك لأي غرض ستهبها). تلك احكام احسان ورؤاه لمفهوم الحرية، ينحصر في اطار مبادئ ومطالب، مع أن للحرية – في تقديري – مفهوم أوسع من ذلك يتعلق بخيارات كل انسان، حتى وان كان خياره أن يكون صعلوكا مغمورا يعيش بين الناس، بلا مطالب ولا أهداف، والشرط الوحيد أن لاتتعارض حريته بمعنى اختياره ولا تتصادم مع حرية الآخرين. الحرية للكاتب أكسير الحياة لقلمه ولفكره، ولكن ماذا لو اصطدمت تلك الأفكار بآمال وأمنيات الأكثرية من الناس، بل ولحرياتهم أيضا فيما يختارونه، ويطمئنون اليه.. ؟. تعود المحاورة للسؤال من جديد.. هل تروجين في كتاباتك للحزن؟وماذا تقولين فيه؟تقفز الأجابة على لسان الروائية المعروفة.. (لاأروج في كتاباتي للحزن أو الفرح، بل للصدق والحرية.. الحرية..). هنا في ظني يعثر السؤال على اجابته، ويبتعد عن الجدلية بعد أن عثر على مبتغاه، فالصدق رفيق الحرية، والصدق مع النفس هو الصدق أيضا مع الناس، فيما يعانونه، وفيما يتطلعون اليه.

عقد اللؤلؤ الذي يزين جيدها

يستجوبها (أسماعيل فقيه) من أنت ؟ من هي الكاتبة التي دورتها الدموية من الحبر؟ من هي غادة اليوم وبالأمس، وفي المستقبل ؟، أين تقيم سيدة (الحب من الوريد الى الوريد) ؟ أما زالت(شهوةألأجنحه) تشدك، والى أين ؟ غادة السمان هل هي كائن حاضر أم غائب ؟. ترد الكاتبة الأثيرة وتسرد في سطور اجابتها، منظومة متكاملة لمجمل اعمالها، أسماء وعناوين، ما خطة يراعها ونسجه قلمها، عبر سنوات من ثراء الطرح، وقدح الفكر، ورهافة الحس، وهدير المشاعر: حاضرة في غيابي (شهوة الأجنحه) تؤكد لي أن (الجسد حقيبة سفر) و(القلب نورس وحيد) في (زمن الحب الآخر) و(رحيل المرافئ القديمه) بينما (البحر يحاكم سمكه) و(الرغيف ينبض كالقلب) تنطلق (صفارة انذار داخل رأسي) فأمضي في (تسكع داخل جرح) هذا بينما (القبيلة تستجوب القتيله)الى آخر تلك المنظومة القصصية والروائية والشعرية، وأدب

الشاعر لامع الحر
عجز المبدع في التعقيدات التكنولوجية

الرحلات التي تشكل في مجملها حبات عقد اللؤلؤ الذي يزين جيدها، وقد طبعت على كل حبة بصماتها. غنى في الفكر وثراء يظلل الخيال وصلابة تغلف الأرادة في غزارة كم الأنتاج الذي يميزه ابداعها. انتاج تعدد وتنوع، وأصبح يشكل خلاصة حية لتجربة حياة أوراقها ملونة وأشجارها مثمرة، وأزهارها فواحة، تبث عبيرها فوق كل أرض خضراء..

بين أحكام العقل ونبضات القلب

في استجواب آخر للكاتب (رؤوف قبيسي) عن الحب، والى من كان أكثر ؟.

تجيب، والأجابة محيرة، هل يمكن أن نضعها في قاموس الأدب ومفاتيحه، أم بالكمال والتمام في خانة الحكمة ودروس الايام، تقول (لا أعرف مقياسا مثل مقياس  »ضغط الدم« لمعرفة  »ضغط الحب«! الحب كلمة مشوهة في عالمنا العربي، والكلمة متمردة على الأنابيب العلمية، ذات الأرقام الدقيقة، ومؤشرات ماكينات قياس  »ضغط الحب«. لن أدع الشجرة تغطي الغابة، وبالتالي من منهما رسائله الأكثر روعة ابداعية أبجدية من الآخر، الأجابة عن ذلك متروكة للناقد والقارئ. تميزغادة السمان واضح في الحوارات، فهي دائما متوثبة في الاجابات، تملك لسانا لايباريه سوى قلمها في الكلمات الصريحة النافذة الى عمق الموضوع وجوهره، وليس الى شكله أو ملمسه.

تستجوبها (سوسن الأبطح)تتأملين الجمال بيقظة حاذقة في الشعر كما في القصة والمقالة، فأين تلحظين الجمال في المرأة؟. تقول :والأجابة هنا تعتمد على التحليل والرؤية الفاحصة، والترتيب على القواعد التي يمليها واقع الحال. الجمال في المرأة يكمن في صلابتها الداخلية وهشاشتها الخارجية، فالجميلة قد تبدو قابلة للكسر، لكنها تمتلك صلابة الفولاذ ومرونته في آن. بمعنى آخر أحب أن تظل المرأة أنثى، وألا تحاول لعب دور الرجل واهمة أن ذلك يرفع من قدرها. مع الرجل المطلوب التكامل لا التماثل، والتميز لا  »التمييز العنصري« الذي يمارسه بعض الذكور. الجمال مثل أشعة اكس، يخترقنا دون أن نراه، ومقياس الجمال الحقيقي ليس عند لجان التحكيم لمسابقات ملكات الجمال. الجمال في نظري هو الضوء الذي ينير مصباح الجسد، أنه تدفق انساني وحضور ودي وكهارب روحية، لا كتلة موميائية جسدية، الجمال تجدد أيضا بحيث تتحول المرأة الى قبيلة نساء شهرزاديات الجاذبية دون بذل جهود لذلك. تعاود (سوسن الأبطح) استجوابها عن ندرة تواجدها الثقافي الاجتماعي، وهل هي رغبة في الحفاظ على صورة معينة جرت صياغتها في كتاباتها ؟. تقول غادة السمان، ولكن بطريقتها المباشرة ان لم تكن اللاذعة: لو كنت في كوكب عطارد لحضرت الأجتماعات والمظاهرات الثقافية والسهرات الأجتماعية، وحتى مهرجانات انتخاب أطول شنب. فاليوم في عطارد يساوي 59 يوما بالتوقيت الارضي، ولكنني أعي حتى نخاعي مقولة (جوته)  »العمر قصير والفن شاسع« وأضطر باستمرار لاختيار ما سأفعله، وآخر همومي أن أكون مضيفة لطيفة في كافتيريا الأدب، أما عن صورتي في ذهن القارئ من خلال ما يطالعه لي فأنا حريصة على نسفها بدلا من الحفاظ عليها. ثمة ناقد تكرم بتأليف كتاب عن أعمالي (دونما معرفة بيننا) وكاد يسقط في فخ اسقاط سلوك بطلاتي علي، وسلوك أمهاتهن وآبائهن أيضا !. يقظة هي، وذاكرتها تتوقد حين تصادف أسئلة شائكة، ومعها حق فيما تطرحه، فثمة عامل مشترك يجمع بين الأنطباع العام للممثل لأدوار الشربأنه فعلا شرير، من فرط أخلاصه لدوره، وكذلك الشأن عند الكاتب أو الشاعر، فحين يبدع في رسم الشخصية، أو في نصه الشعري كعاشق يتوسم فيه بعض القراء أنه يعبر عن تجربة شخصية أو يعاني من وجد بارح، ولذلك نجد رد غادة السمان أشبه بالحريق، فقد كان مشتعلا، فيه ثورة، وغضب، ولكنه يتضمن في صخبه بطبيعة الحال نغمة الأحتجاج. الكتابة عشق الكاتب، والقلم أداته لترجمة حبه الى كلمات، لكن الزمن يتغير، والتطور يلاحق المفاهيم فما بالك بالأدوات. قام التقدم بدوره في صنع عملية احلال للأدوات وجاء الكمبيوتر لكي ينحي القلم جانبا، ويقوم بتفعيل قدراته في ترجمة املاءات العقل بخصوص ألرأي أو نبضات القلب فيما تحمله من مشاعر ووجدانيات في فن النظم وانطلاق الخيال في الشعر والقصة، والرواية، ومن خلال ألوان الفنون والآداب بأكملها، ولذلك جاء استجواب (لامع الحر) للكاتبة ذات السيولة في صياغة الكلمة وتركيب الجملة : هل مازال المبدع أميا في المسائل التكنولوجية، وكيف تتعاملين معها ؟. وتجيب عاجزة عن التعامل معها لمرض في عيني وهوالحساسية للضوء الساطع كضوء الكمبيوتر، وبالتالي لم أتمكن من الدخول في عصر الأنترنت، ثم لاتدع الفرصة تفوتها فتعرج على توصيف (البومه) وهي عشقها الذي يملأ

رؤوف قبيسي
هل للحب مقياس علمي كضغط الدم ؟

ساحات من رفوف منزلها فتقول (أنني كالبومة غير قادرة على التحديق في الضوء، لكنني أرى في الظلام كبقية شعب البوم)، ثم أردفت منذ صباي وأنا أرتدي معظم الوقت النظارة السوداء لاطلبا للعبة الغموض بل عجزأ! لكن في في المقابل حملت التكنولوجيا الى كتبي البركة، ومعظم المترجم منها الى عشرين لغة يباع بواسطة شبكات الأنترنت.

ثم يعود السؤال ليسطر استجوابه : لاشك انك مهتمة بالشأن السياسي، كيف تنعكس السياسة على نفسك وعلى ابداعك، وتجيب كأنها تكتب من جديد كلماتها المأثورة (ليس بوسع كاتب أن يكون خارج قضايا السياسة والا لكان خارج قضايا الحياة. فالسياسة تنعكس على لقمتنا وقصص حبنا وأبجدية حياتنا، فهي جزءمن حياتنا اليومية. بالمقابل لم يحدث مرة أن غرقت في التفاصيل اليومية لمستنقع السياسة اللبنانية. فأنا لا أصلح للعبة تبديل الاقنعة والتصفيق لأشرطة التسجيل التي يطلقها البعض من حناجرهم ولها قطع بديل، وتتبدل وفقا لمصالحهم.

قبــــل الختــــام

سطور غادة السمان تغري بالمزيد من الأبحار في عالمها، فهو فياض بحلو التعبير وعمق التفكير وتأملاتها في منطق الأشياء، وواقعيتها في النظر الى مجريات الأحداث، وتجعلنا نتساءل في حيرة هل لدغتها عقارب السياسة ففرت منها الى واحة الأدب. فهي لم تنفصل عن دنيانا بمشاكلها وقضاياها، ولكنها في الوقت نفسه ليست عنصرا مباشرا أو فاعلا في احداثها، وانما آثرت ان تراقب من بعيد، وتتكون لديها النظرة الأشمل لتصادم الارادات على مسرح السياسة والحياة. أقوالها تشي بأسرارها في كل المناحي، فهي عاشقة للوطن وللعروبة، كما أنها متيمة بأجواء الأمومة والأسرة، وحنان الأب. تقول عن رعاية والدها لها (تسحرني أمومة الرجل).

كلماتها تنعش العقل وترطب العواطف وتغني الوجدان. سطورها تمتلء بموازين العقل وبجموح المشاعر، اجاباتها يقظة ومتوثبة مستعدة دائما للأنطلاق بل وللعراك.

والرحلة في عقلها بالقطع كانت مثيرة وجذابة، تغني تجربتك وتضيف الى معارفك، وترسم على شفتيك ابتسامة فيها فيض من الرضا، والكثير من النشوة والسعادة.

العدد 96 – ايلول 2019