قيود باسيل السورية وقيود نصر الله الإيرانية تكبل لبنان

أميركا وروسيا انتشلتا البلاد من  »قبرشمون«

قيود باسيل السورية وقيود نصر الله الإيرانية تكبل لبنان

بيروت – غسان الحبال

وضع الانقسام السياسي العمودي الذي شهده لبنان مؤخرا، في أعقاب حادثة قبرشمون وتداعياتها، البلاد أمام مصير غامض، وبدت الصورة قاتمة تلامس بسوادها سواد الصفحة الأولى من العدد الذي أصدرته جريدة  »الدايلي ستار« بتاريخ الثامن من شهر آب/أغسطس الماضي، والذي قصدت به نعيا للبنان الوطن.

وكانت حادثة قبرشمون التي حصلت في 30 يونيو الماضي بين أنصار رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ومرافقي الوزير صالح الغريب وهم من أنصار الامير طلال أرسلان، قد شهدت تصعيدا سياسيا حادا استهدف في أبعاده إحالة التحقيق بها على المجلس العدلي وصولا إلى اتهام جنبلاط بالتخطيط لها، على خلفية قطع الطريق على وزير الخارجية جبران باسيل للعبور إلى بلدة كفرمتى في جولة سياسية له في منطقة الشوف.

وقد أتاح هذا التصعيد للوزير باسيل الطامح لخلافة عمه والد زوجته في رئاسة الجمهورية، استغلال الثغرة السياسية المفتوحة والسعي إلى الانقلاب على الطائف، ما زاد في تعقيد الأمور وتعطيل أية حلول تسمح بالعودة لاجتماعات مجلس الوزراء، في وقت اتخذ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون موقفا أراد به ترجيح كفة أحد طرفي النزاع على الآخر، حين اعتبر صراحة ان حادثة قبر شمعون إنما كانت تستهدف اغتيال الوزير باسيل، بعد أن كان الادعاء ان الحادثة كانت تستهدف الوزير الغريب الذي يمثل النائب أرسلان في الحكومة.

المصارحة والمصالحة.. حل الأزمة ام تأجيلها؟

هذا التصعيد الحاد الذي وضع كل الحلول المطروحة للخروج من الأزمة أمام الطريق المسدود، سبق صدور بيان مقتضب عن السفارة الأميركية في بيروت عشية عيد الأضحى، حذر من تحويل حادثة قبر شمعون من قضية قضائية إلى قضية سياسية هدفها تعزيز أهداف سياسية لصالح طرف من الأطراف المتنازعة، وكان هذا التحذير، مدعوما بتحذير روسي لسوريا يقول بأن وليد جنبلاط خطأ أحمر في المعادلة اللبنانية، كافيين لتجميد التصعيد ومسارعة الترويكا الرئاسية اللبنانية إلى لملمة الأزمة واجتراح حل أرسى قواعد  »المصارحة والمصالحة« بين طرفي الأزمة الرئيسيين جنبلاط وأرسلان.

انعقاد المجلس.. سيف ذو حدين

ويبقى السؤال: ماذا بعد قبرشمون؟ وإلى متى سيبقى الوضع السياسي في لبنان هشا قابلا للانفجار في أية لحظة اذا رفعت القوى الدولية رقابتها عنه؟ وهل يعني الحل ان مجلس الوزراء سيعود للعمل مجتمعا وكأن شيئا لم يكن؟

يقول ديبلوماسي لبناني متقاعد عمل سابقا في السفارة اللبنانية في واشنطن:  »يخطئ من يقارب بيان السفارة الأميركية في بيروت من زاوية التدخل في الشؤون اللبنانية، ذلك أن العقلانية السياسية تستدعى التوقف ملياً عند معاني البيان الذي لم يصدر إلا بعدما استشعر المسؤولون الأميركيون أن السلطات اللبنانية قد تجاوزت الخطوط الحمر في محاولة كسر المعادلات السياسة والزعامات السياسية، التي من شأن استهدافها أن يحدث تغييرات كبرى في البلاد«. ويضيف قائلا:  »إن هذه التطورات هي التي استدعت إيصال رسالة واضحة بأن لبنان ليس متروكاً أميركياً، وأن أي محاولة من هذا القبيل سوف لن تبقى من دون رد فعل«.

وفي قراءته يشرح الديبلوماسي اللبناني أن البيان  »أراد أن يحذر من ضرب مصداقية المؤسسات التي يفترض أن تشكل صمام الأمان لاستعادة الدولة الثقة الداخلية والخارجية، ويأتي القضاء في مقدمة هذه المؤسسات، وهي مسألة من شأنها أن تحدث ارتدادات لدى المؤسسات والدول المانحة التي تحتاج  الى توفّر مناخات ثقة في لبنان للاستثمار، ولا يمكنها بالتالي التغاضي عن  وجود  قضاء مسيس ومتحّيز ومجيّر لغايات سياسية«.

وكان  »حزب الله« قد اعتبر البيان الأميركي  »تدخلا سافرا وفظا ووقحا في الشؤون اللبنانية، ويشكل إساءة بالغة للدولة ومؤسساتها، وغايته إضفاء التعقيد على الأزمة الراهنة«، كما علقت عليه وزارة الخارجية اللبنانية بدعوة أميركا لعدم  »التدخل بشأن لا يعنيها«، إلا أن ردود

الفعل هذه لم تلغ الأجواء الكثيفة التي ربطت الانفراج السياسي المفاجئ بصدور البيان، لاسيما أنه ترافق مع ورود معلومات متقاطعة صدرت عن دوائر أوروبية تتحدث عن بيان أوروبي مماثل لبيان السفارة الأميركية، بما يعنيه ذلك من وجود بلدان هي أساس  »سيدر« تسعى لإنقاذ لبنان اقتصاديا، وتشير إلى أنه لو بقيت الأمور على تصعيد سياسي محلي، فإن الموقف الأوروبي لن يكون مستبعداً.

ويرجح الديبلوماسي اللبناني ان يكون البيان الأميركي  »مؤشرا لعقوبات أميركية قد تطال مسؤولين في التيار الوطني الحر، في حال بقيت الأمور على ما هي عليه، بقدر ما يؤكد أن لبنان ليس متروكاً للأهواء الإيرانية ولأهواء حزب الله وحلفائه، وهو يشكل رسالة مباشرة أنه لم يتم التخلي عن لبنان«ّ.

اللعب بالأوراق اللبنانية

إلا أن الأبرز في رؤية الديبلوماسي اللبناني هو ربطه بين تداعيات حادثة قبرشمون وبين المفاوضات الدولية/الإقليمية حول مستقبل الوضع في سوريا، الأمر الذي استدعى صدور بيان السفارة الأميركية.

مجلس الوزراء بعد انقطاع 40 يوما.. على أمل الصمود

ويقول الديبلوماسي اللبناني أن  »المحادثات الدولية/الاقليمية حول سبل إرساء الحل السياسي في سوريا وبينها وبين جيرانها، تتطلب مزيدا من الاستقرار الميداني في سوريا، ولذلك فإن ضرب هذا الاستقرار وخربطة الأوضاع انطلاقا من الساحة اللبنانية ممنوع، بالتفاهم والتنسيق بين طرفين رئيسيين هما الولايات المتحدة وروسيا، وبما لا يمنع التشاور مع إسرائيل بما يعنيها عند الضرورة«.

وإذا كان لبنان قد تمكن مؤخرا من إحباط مشروع فتنة طائفية كادت أن تعود به إلى أجواء الحرب الأهلية عشية العام 1975، فإن السؤال البديهي اليوم هو: كيف يمكن لهذا البلد الصغير أن ينجح في تجاوز الكثير من المطبات التي يمكن ان يتعرض لها نتيجة بؤر التوتر والحروب الإقليمية التي تحيط به بكل أبعادها وتعقيداتها الدولية، ونتيجة محاولات جره دائما ليكون ساحة لحروب الآخرين؟

الهروب للحرب مع إسرائيل

في الواقع، يعتبر طرح هذا السؤال أمرا بديهيا متى ما علمنا أنه ما ان تمكن لبنان من الخروج متعبا من  »فخ قبرشمون« بتغطية دولية أميركية وروسية، فهم منها السوريون بأن جنبلاط  »خط أحمر« والايرانيون بأنه ممنوع الإخلال بالتوازنات الحالية داخل لبنان في ضوء  الوضع الإقليمي الراهن، لأن أي خلل لبناني قد يفتح الباب على صراعات لا يستطيع أحد السيطرة عليها، حتى أعلن أمين عام  »حزب الله« السيد حسن نصر الله، أن المنطقة ستشتعل إذا ضربت إيران، وذلك ردا على تهديدات أميركية وبريطانية سابقة لها علاقة باحتجاز بواخر تنقل نفطا عبر مضيق هرمز.

وفي الوقت ذاته كان النائب محمد رعد يستبق وصول رئيس الحكومة سعد الحريري إلى واشنطن في زيارة رسمية ليعلن أن إسرائيل تتحضر لشن حرب على لبنان.

هذه الإشارات التقطها وزير العدل السابق اللواء أشرف ريفي، ليغرد محذرا من نوايا إيرانية لتحويل لبنان إلى حقل تجارب وتوجيه رسائل ضغط وتهديد للولايات المتحدة بتفجير الأوضاع الأمنية في المنطقة، متسائلا: أين رئيس الجمهورية وأين الحكومة من مصادرة إيران لقرار السلم والحرب؟

وهنا يقول الديبلوماسي اللبناني، أن اللقاء الذي حصل في بعبدا في حضور الرؤساء عون وبري والحريري وجنبلاط وأرسلان، والمصارحة بين الأخيرين ومن ثم المصالحة بينهما التي أعقبها انعقاد مجلس الوزراء في اليوم التالي،  لا تشكل نهاية الأزمة او عودة الانتظام في العمل الحكومي، لأن وضع البلد سيبقى مفتوحا على كثير من الأزمات في ظل وجود تباينات في الرأي وانقسام عمودي حول الكثير من الأمور السياسية والإجرائية التي ما زالت عالقة ولم تتم معالجتها«.

ويضيف مشيرا إلى أن  »المتربصين بلبنان يرون أن الفرصة سانحة للإسهام في ضرب ما تبقى من مقومات الدولة على مختلف المستويات، بحيث يفرض توالد أزمات الحكم  وضع الجميع أمام استحقاق البحث عن حلول دائمة من خلال تعديل  »اتفاق الطائف« والدستور، والإفادة من الاختلال الحاصل في موازين القوى الداخلية منذ التسوية الرئاسية ونتائج الانتخابات النيابية، إلا أن القلق الحقيقي ينبع من المخاوف الأمنية، إذ على الرغم من الجهود التي تقوم بها الأجهزة الأمنية في الجيش والمخابرات وقوى الأمن، والتي تستنفر الكثير من طاقاتها، فإن إمكانية اللجؤ إلى  »الخربطة الأمنية« ليس مستبعداً، لا سيما أن  »الأرض تبدو رخوة« لجهة القدرة على اختراقها وافتعال أحداث وإشكالات قد تبدأ فردية وتتطور، فضلا عن أن من شأن الأجواء المتوترة أن تسهم في اشعال الوضع، كل ذلك من دون التقليل من أهمية استخدام الساحة

سعد الحريري: البحث عن مخرج يحفظ ماء الوجه

اللبنانية وتحويلها من قبل مختلف أطراف النزاع إلى ما يشبه  »صندوق بريد« برسائل باردة وحامية في آن، كما حصل مؤخرا حين قاد الأمين العام لـ »حزب الله« شخصيا الهجوم العنيف على جنبلاط في ما اعتبر رسائل متعددة الاتجاهات لها بُعدها الداخلي الهادف إلى تطويق جنبلاط كجزء من تعبيد الطريق أمام سقوط لبنان الكلي في فلك إيران وانخراطه في مشروع تحالف الأقليات وتحوله ورقة قوية بيدها قادرة على استثمارها وتجييرها وصرفها في المواجهة الحاسمة مع واشنطن«.

هشاشة لبنان تستدرج الأزمات

ويلتقي عدد من النواب السابقين، الذين عرف عنهم معارضتهم للعهد الحالي، في مخاوفهم مع الديبلوماسي اللبناني، فيعربون عن تخوفهم من بقاء الوضع السياسي في البلاد على الهشاشة التي كان عليها قبيل حادثة قبرشمون  »لأن من أوصلنا إلى هذا المستوى من التدهور يشكلون عمليا السلطة الحاكمة التي أظهرت حتى الآن الكثير من القصور وعدم الحكمة في التعاطي مع المرحلة الدقيقة التي يمر بها لبنان، والتحديات التي تواجهه اقتصادياً ومالياً، وهذا الواقع يطرح للأسف علامات استفهام عما إذا كان أركان الحكم من جميع الأطراف يدركون حجم الاهتراء السياسي الحاصل، وما إذا كانت القيادات السياسية تستشعر بأن الهيكل بات على قاب قوسين أو أدنى من السقوط فوق رؤوس الجميع بسبب عجزهم عن ابداء قدر من الجدية والمسؤولية في مقاربة المسائل منعاً لانهيار البلاد«؟

هل من وسيلة للخروج من المأزق الحالي، والالتفاف على مخاطره التي تهدد مصير لبنان؟

يلفت رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة الى أن  »المجتمع الدولي يرغب بمساعدة لبنان، لكن على لبنان ان يساعد نفسه، وهذا الامر يتطلب منه ان يقوم بإصلاحات لا تقتصر على المعالجات النقدية عبر مصرف لبنان، ولا عبر معالجات مالية وعبر الرسوم والاجراءات الإدارية، لكن من خلال التوجهات السياسية في مختلف القطاعات«.

ويشير إلى أن  »الخلافات التي تحصل اليوم مصطنعة وتهدف الى الشعبوية، الامر الذي يؤدي الى اسقاط لبنان في حفرة كبيرة، ولذلك فإن المطلوب هو موقف واضح من الدولة اللبنانية وعلى رأسها رئيس الجمهورية الذي كرمه الدستور واعطاه الصلاحية«. لذلك ينبغي عليه ان يعلو فوق الخلافات ونزاعات الفرقاء، ويتصرف كرئيس للجمهورية حاضن للكل. هذا هو الطريق الذي يؤدي بنا الى الخروج من المأزق وإمكان الاستفادة من  »سيدر«.

 

العدد 96 – ايلول 2019