لماذا دراسات المستقبلات؟ عودُ على بدء

أ.د. مازن الرمضاني*

 قد لا نختلف على أنُ عملية التغيير (Change)وحركة التاريخ يرتبطان بعلاقة طردية موجبة. فكما أنُ التغيير كان على مر الزمان مدخلا أساسيا وراء ديمومة تدفق حركة التاريخ إلى الامام كذلك كان تدفق هذه الحركة بالمقابل مدخلا أساسيا وراء تسارع معدل عملية التغيير.

وعلى الرغم من أنُ تسارع معدل عملية التغيير قد تباين من موجة حضارية إلى أخرى خلال دورة تطور الحياة (Life Cycle of Evolution) إلا أنُ هذا التباين لا يلغي أن مخرجات هذه العملية التي كانت لصيقة بكل موجة حضارية قد افضت إلى عالم تميز بإختلافه في العموم عن العالم الذي كان لصيقا بالموجة السابقة عليها. ولهذا تُعد هذه المخرجات بمثابة الفيصل بين ما كان وبين ماهو كائن وكذلك بين ما قد يكون. ولهذا تتماهى مخرجات هذه العملية تماما مع مخرجات تأثير تلك الافكارالفريدة أوالاحدات الكبرى التي جعلت التاريخ يقترن عبر الزمان بمرحلتين: مرحلة ما قبل هذه الافكار و/أو الاحداث وكذلك مرحلة ما بعدها.

 ومنذ اقتران العالم بخصائص الموجة الحضارية (أو الثورة الصناعية) الثالثة أي المعلوماتية بعد منتصف القرن الماضي تقريبا مرورا ببداية دخوله في الثورة الصناعية الرابعة منذ حلول القرن الراهن والإنسانية تتعايش مع تأثير غير مسبوق لمجموعة متغيرات متعددة ومتنوعة العناوين: علمية وتكنولوجية واقتصادية وسياسية…الخ أفضت مخرجاتها إلى أن يكون معدل سرعة التغيير في عالم اليوم غير مسبوق تاريخيا ومن ثم إلى أن يقترن بعملية تاريخية فريدة تتميز بتنوع فرصها وتحدياتها فضلا عن إنفتاح نهاياتها على شتى الإحتمالات الإيجابية و/أو السلبية.

وقد اطلق المفكر العربي أنور عبد الملك على هذه العملية التاريخية تسمية عملية تغييرالعالم. وقد كان دقيقا وصائبا. فمخرجات هذه العملية قد أدت إلى عالم يكاد يستوي والنقيض مع عالم أباؤنا. فالإنسانية صارت تتعايش مع إنجازات وإبتكارات حضارية متنوعة ومتجددة ومتسارعة أضحت مخرجاتها تؤجج، عاطفيا في المرء مختلف مشاعر وأحاسيس الإعجاب والرهبة والذهول. بيد أن هذه المخرجات ادت، بالمقابل.إلى أن يكون الإنسان في الدول المتقدمة وكذلك السائرة في طريق النمو خصوصا أكثر نزوعا إلى تشوف احتمالات بمعنى مشاهد المستقبل من أي زمان مضى.

وجراء نوعية الفرص والتحديات الناجمة عن هذه الإنجازات والإبتكارات تتكررالدعوة إلى ضرورة تبني التفكير الإبداعي بعيد المدى ومن ثم الأخذ برؤية إستباقية تُساعد على تأمين التكيف الإيجابي والهادف مع مخرجات عملية تغيير العالم.. فإضافة إلى أن التجربة التاريخية تؤكد العلاقة الطردية الموجبة بين النجاح في تحقيق الاهداف الكبرى وبين التفكير بعيد المدى يودي العكس أي التفكير قصير المدى إلى حصرالاهتمام بالحاضر وبمخرجات تفضي إلى الحيلولة دون الإرتقاء بالإستجابة الإنسانية إلى مستوى تحديات المستقبل ومنُ ثم تحمل الخسائر الباهظة الناجمة عن ذلك.

إن جدوى الاخذ بالتفكير بعيد المدى تتماهى ايضا مع حقيقة أن المستقبل لاينغلق على مشهد واحد محتُمل ولايقبل التنبوء القاطع بمالاته وإنما ينفتح على شتى الإحتمالات ويقترن كذلك بالعديد من المشاهد. ويُرد ذلك وإساسا إلى أن المستقبل وكما يؤكد مثلا المستقبلي نك مونتفورت (Nick Montfort) غير مكتوب أصلا.. لذا تضحى رؤية المستقبل وكأنه امتدادا لنسق الماضي ليست خاطئة فحسب وإنما هي مضللة أيضا.

 ومما يدفع أيضا إلى جدوى الإنشغال في المستقبل أن مخرجات دينامية عملية تغيير العالم والمشاهد البديلة الناجمة عن كيفية تطور حركة الحاضر باتجاه المستقبل قد أفضت ايضا إلى تحول جذري في الرؤية الإنسانية لحركة الزمان. فقبل الموجة الصناعية الاولى أدى بطئ معدل سرعة التغيير إلى إدراك إنساني للزمان يكاد يقترب  »… من النظر إلى ماضي الموجودات…وحاضرها (وكأنها) كائنات لا تاريخ لها…لان مستقبلها كحاضرها وحاضرها كماضيها (لذا كان)… مستقبلها كامنا كليا في حاضرها«.

 وعلى خلاف ما كان افضت مخرجات الموجة المعلوماتية خصوصا إلى أن يتبني الإنسان في العموم رؤية للزمان تتميز بنسبيتها ومرونتها وارتباطها بسرعة الحركة، ومن ثم لا تستوي وبكافة المعايير مع تلك السابقة علي هذه الموجة هذا فضلا عن رؤيته ايضا كمتغير ناجم عن الإرادة الإنسانية وتابع لها. إن هذا التحول في رؤية الزمان دفع إلى الاستعانة بمقاربات علمية للتفكير في المستقبل وإستشراف مشاهده البديلة إدراكا لجدواها العلمية وكذلك العملية. لذا لا غرابة في أن مفكرا عربيا بارزا كفؤاد زكريا يُحذرمن مغبة عدم الأخذ بالتفكير العلمي في المستقبل قائلا إن :  »… البقاء في المستقبل دون نظرة علمية وأسلوب علمي في التفكير سيكون أمرا مشكوكا فيه«. لذا يُعد الانصراف عن هذا التفكير وعدم الاستعداد المسبق لحلوله هو سلوك خاطئ بالضرورة.

ومنذ الأخذ بالتفكير العلمي في المستقبل وإعداد المؤلفات المنشورة التي تتناوله و/أو التي تندرج تحت مسمى دراسات المستقبلات أو غيرها لم تعد تنمو بوتيرة متسارعة فحسب وإنما صارت تجد ايضا إستجابة مجتمعية تزداد إنتشارا على صعيد جل دول العالم. وتُعد هذه الإستجابة الواسعة حصيلة لإدراك مركب يتأسس على معطيات موضوعية يُفيد ان تسارع وتيرة عملية تغيير العالم ستفضي على الارجح إلى مستقبل سيكون مختلفا بمعطياته الإيجابية والسلبية عن تلك التي تميز بها زمان ماضي الحاضر و/أو زمان حاضر المستقبل ومن ثم لابد من البحث عن المعرفة التي تسهل عملية الإستعداد لمشاهد هذا المستقبل قبل حلوله. وغني عن القول أن دراسات المستقبلات صارت تُقدم هذه المعرفة المطلوبة. ومن هنا جاء هذا الإقبال الواسع عليها.

وجراء مخرجات تسارع وتيرة عملية تغيير العالم لم تعد رؤية المستقبل من خلال عدسة واحدة كافية وقادرة على إستشراف مشاهده وإنما من خلال عدسات متعددة ومتكاملة. ومرد ذلك أن العالم جراء مخرجات هذه العملية لم يعد يتحرك مثلما كان قبل الثورة الصناعية الاولى على نحوٍ خيطي واضح وممتد عبرالزمان وإنما أضحى يتحرك على نحوٍ يتميز بخصائص التقلب واللايقين والتعقيد والغموض. إن الأخذ بعدسات متعددة لإستشراف مشاهد المستقبل هو الذي يتيح التصرف على نحوٍ يتماهى ومخرجات خصائص عالم اليوم. وقد ذهبت وزارة الدفاع الامريكية ومنذ تسعينيات القرن الماضي إلى الإستعانة بمختصر يتشكل من الحروف الاولى لأربعة كلمات انكليزية هي:VUCA للتعبير عن هذه الخصائص. ويجد هذا المختصر إنتشارا واسعا على صعد عدة. ومن بينها مثلا صعد رجال الاعمال ووسائل الإتصال وغير ذلك.

إن انتقال الإنسان عبرُ الزمان من موجة حضارية إلى أخرى أدى إيضا إلى انتقال إنشغاله في المستقبل نوعيا من حال إلى حال أخر مختلف. وقد أفضت مخرجات هذا الإنشغال خصوصا بعد تبني التفكير العلمي في المستقبل منذ منتصف القرن الماضي إلى تحول نوعي على صعيد هذا التفكير وتطبيقاته العملية. فمخرجات هذا التحول أدت مثلا إلى:

أولا تراجع تلك الرؤيةالتي صاحبت التفكير الإنساني في المستقبل لقرون وقالت أن المستقبل ينغلق على مشهد واحد ولا سواه ومن ثم عمدت إلى التنبوء به عبر استخدام ادوات ينتمي بعضها إلى عالم ما قبل التفكير العلمي في المستقبل لصالح الاخذ برؤية مختلفة أخرى افادت أن المستقبل ينفتح على مشاهد متعددة ومن ثم راحت إلى إستشرافها عبر توظيف مقاربات علمية سبيلا لتحقيق غاية محددة تكمن في صناعة المستقبل المرغوب فيه والافضل من الحاضر.

ثانيا التخلي عن فكرة أن معطيات الحياة ستبقى تتشكل جراء تأثير تلك الإتجاهات (Trends)التي تتكون في الماضي ومن ثم تمتد إلى الحاضر والمستقبل لصالح فكرة أخرى مختلفة تدعو إلى التدخل الواعي والإبداعي في معطيات الحاضر وتوظيف مخرجاته من أجل التمهيد لصناعة المستقبل الافضل والمرغوب فيه. ومن هنا عد الإستعداد المسبق للتعامل مع تحديات ومفاجآت المستقبل وبضمنه إستشراف مشاهده بمثابة الغاية المباشرة لدراسات المستقبلات.

 وغني عن القول أن الأخذ بفكرة صناعة المستقبل لم يكن بمعزلٍ عن التماهي مع سؤال المستقبل: أي إلى أين نحن ذاهبون؟. وتجدر الإشارة إلى أن نوعية حضور سؤال المستقبل في البنية الثقافية لاي مجتمع ينطوي على تأثير بالغ الاهمية في تحديد طبيعة موقفه حيال ما هو كائن وكذلك ما سيكون. فبقدر نوعية تبني هذه البنية لسؤال المستقبل تتحدد مدى حيوية هذا المجتمع أو ذاك وقابليته على التطور والتقدم ورغبته في الإبداع والإبتكار ومن ثم إستعدادة للمستقبل.

وتؤكد تجارب ثمة دول أسيوية سائرة في طريق النمو ومثالها الصين واليابان والهند وسنغافورة وكوريا الجنوبية إن الإستجابة لمضمون سؤال المستقبل يفضي إلى الإرتقاء الحضاري في الحاضر ومن ثمً في المستقبل بالضرورة. فإنحياز هذه الدول إلى المستقبل متفاعلا مع نزوعها العملي إلى تحقيق المستقبل المرغوب فيه من قبلها جعل حاضرها يتماهى مع بعض ممكنات مستقبلها. ومن المرجح أن يكون مستقبلها غير حاضرها الراهن. لذا يتكرر القول: إن مستقبل العالم بعد منتصف القرن الحادي والعشرين سيكون أسيويا وعلى الارجح بقيادة صينية.

ومن المرجح أن يحظى الإهتمام بسؤال المستقبل في قادم الزمان بإستجابة عالمية ارحب وإعمق من أي وقت مضى. إن الذي سيفضي إلى ذلك لا يكمن فقط في مخرجات عملية تغيير العالم، وإنما أيضا في الحاح متطلبات الحاجة للتعامل مع حالة اللا يقين الناجمة عن التأثيرات العميقة والمعقدة والخطيرة والكامنة في المخرجات المحتملة لتلك التحديات الراهنة والمستقبلية ذات الإبعادالعالمية. ومثالها التغير المناخي والهجرات البشرية الواسعة ومخرجات العولمة والإرهاب عابر للحدود وإعادة صياغة الخرائط السياسية والجيوبولتيكية ناهيك عن مخرجات الثورة الصناعية الرابعة على صعد العلم والتكنولوجيا…الخ.

 وجراء طبيعة التحديات الراهنة غني عن القول أن المجتمعات التي لا تولي تحديات المستقبل الاهمية التي تستحقها هي ذاتها التي تأخذ في العموم بخاصية الإنتظار السلبي للمستقبل وبالتالي الإستسلام لمعطياته عندما يأتي ويضحى حاضرا. وهي بهذا تتناسى تجربة تأريخية مظلمة تفيد أن الوقوف موقف المتفرج حيال المستقبل ينطوي على دعم عملية تجذر معطيات التخلف والإنحطاط والتراجع الحضاري بعنصر مهم مضاف. لذا وكما يقول هادي نعمان الهيتي إن المجتمعات التي  »… عانت من التخلف سيكون عليها أمر إلارتقاء (الحضاري) عسيرا ذلك أن أمر ارتقائها قد تضاعفت متطلباته«.

 ولا نرى أن هذا القول الذي ينسحب على جل دول عالم الجنوب يغالي. فمخرجات واقع التأخر أو التخلف الحضاري في هذه الدول لم تؤد إلى تعطيل تنميتها المستدامة فحسب وإنما مهدت السبيل أيضا إلى أن يكون مستقبلها إمتدادا لتأثير معطيات حاضرها المتأخر أو المتخلف. ومع ذلك لا يعني واقع هذه الدول إنها لا تستطيع تغييره بالمطلق وإن مستقبلها سيبقى بالضرورة إمتدادا لنوعية ماضيها و/أوحاضرها.

وتنطوي التجربة الماليزيةوسواها أيضا على نماذج مهمة تستحق الدراسة والاستفادة. إن جميع هذه النماذج تؤكد على مسألة على قدر عال من الاهمية هي: أن المجتمعات التي تأخرت فيها عملية التنمية الشاملة تستطيع تجاوز أزمتها الحضارية إن كان صناع قراراتها من نمط أولئك الذين كانوا وراء التجارب التنموية الناجحة هنا وهناك عالميا. فتميز هؤلاء إنما يعود إلى توافرهم على نظام عقيدي Belief System أتاح لهم تشوف المستقبل ومن ثم إختيار ذلك المشهد الذي أمن لمجتمعاتهم الإرتقاء الحضاري انطلاقا من رؤية إستراتيجية واعية تدعمها إرادة هادفة تتبنى نمط من التخطيط والتنفيذ الإبداعي. وبهذا الصدد يؤكد المستقبلي الاسترالي ريتشارد سلوتر Richard Slaughter أن مفتاح النهوض إنما يكمن  »…في مدى توافرنا على رؤية دقيقة للمستقبل«.

 ويُفيد واقع التوظيف الجغرافي لمقاربات التفكيرالعلمي في المستقبل وتطبيقاته العملية على صعيد العالم بتباينه نوعيا. ويُرد ذلك إلى إختلاف نوعية إستجابات المجتمعات المعاصرة في عالمي الشمال والجنوب لسؤال المستقبل وكذلك للتحديات التي تفرزها عملية تغيير العالم ومن ثم تباين نوعية أنماط إنحيازها إلى المستقبل.

وانطلاقا من العلاقة الطردية الموجبة بين الإدراك والفعل فقد أفضى هذا الإدراك بتلك المجتمعات المتقدمة وكذلك السائرة في طريق النمو إلى أن تأخذ ومنذ منتصف القرن الماضي تقريبا بنمط من التفكير جعل من توظيف المنهجية العلمية سبيلا لإعادة تشكيل العقل وترشيد الفعل استباقا واستعدادا لمفاجآت المستقبل وإستشراف مشاهدة البديلة. ويسمى هذا النمط من التفكير بالتفكير العلمي في المستقبل أما تطبيقاته العملية فهي تندرج تحت تسميات متعددة. وتُعد تسمية دراسات المستقبلات اكثرها انتشارا. ونحن نتبنى هذه التسمية.

ويشير واقع هذا التفكير في هذه المجتمعات إنه صار ظاهرة شاملة تأخذ به جل مؤسساتها العامة والخاصة وترعاه جمعيات ومراكز علمية متخصصة وتدعمه دوريات اكاديمية رصينة . اضافة إلى اتاحة الفرصة للتخصص العلمي فيه والحصول على درجات علمية عليا (ماجستير و/أو دكتوراه).

وأما عن جل دول عالم الجنوب وخصوصا المتأخرة والمتخلفة منها فالتفكير العلمي في المستقبل لا يحظى إلا بإهتمام بعض نخبها الواعية. إما بقية شرائحها الاجتماعية فهي تأخذ أما برؤى تستمد اصولها من التفكير ما قبل العلمي في المستقبل أو تتبني ثمة مواقف سلبية و/أو انماط ثقافية تغالي في تمجيد الماضي و/أو تجعل من الإنحياز إلى الحاضر أبرز أولوياتها.

وقدر تعلق الامر بنا نحن العرب لا تتماهى أهميتنا حضاريا وجيوإستراتيجيا وإقتصاديا مع موقفنا الراهن من التفكيرالعلمي في المستقبل وتطبيقاته العملية. فمخرجات متغيرات عربية مهمة وممتدة عبر الزمان وذات علاقة بتأثير النسق الثقافي والعلمي والاجتماعي العربي أدت إلى أن يكون إنحياز شرائح إجتماعية عربية واسعة إلى الماضي و/أو إلى الحاضرأعمق تجذرا من إنحيازها إلى المستقبل.

ويرى هادي نعمان الهيتي صائبا أنّ مرد هذا الموقف العربي السلبي من المستقبل يكمن في أنّ المستقبل  »..لم يدخل الوعي العربي…« وبحصيلة سبق لخير الدين حسيب تشخيصها بدقة هي:  »… غياب المستقبل عن تصوراتنا… والتنظير (في شأنه) عن إبداعنا«. إن ما تقدم لم يُود في العموم إلى محدودية الإنشغال العربي بسؤال المستقبل مقابل وفرة الكتابات المهمومة أما بسؤال الماضي أو بسؤالُ الحاضر وإنما أيضا إلى تراجع الإنتاج العربي لدراسات مستقبلية رصينة علميا ومجدية عمليُا. وفي ضوء انتشار ثقافة الإنحياز إلى الماضي و/أو الحاضر في وطننا العربي والتي تقابلها حاجتنا الماسة إلى تبني ثقافة الانحياز إلى المستقبل لإنها سبيلنا للإرتقاء الحضاري،من المفيد التذكير بأمرين مهمين:

فأما عن الاول فهو أن الزمان وإن يُعبر عن حركة إتجاهية ذات أبعاد ثلاثية: ماضي وحاضر ومستقبل، إلا أن المستقبل يُعد الاكثر أهمية من سواه. ومرد ذلك لا يكمن في أنه يُعبر عن الزمان الذي سيأتي حتما فحسب وإنما لإنه خصوصا الزمان الذي يستطيع الإنسان وهو يعيش في الحاضر التدخل الواعي في عملية إكتشافه وتشكيله على وفق رؤيته الواعية وإرادته الهادفة. ولنتذكر أن المستقبل كان وسيبقى صناعة بشرية.

على أن قولنا إن المستقبل يُعد أهم أبعاد حركة الزمان لا يلغي أهمية الماضي والحاضر. فهذة الاهمية ونوعية تأثيرها سلبا أو إيجابا هي التي تحدد طبيعة الموقف الذي يتبناه الانسان حيال المستقبل. وهذا الموقف لا يستطيع بدوره أن يكون بمعزلٍ عن نوعية الإدراك الإنساني لحقائق الماضي ومعطيات الحاضر خصوصا وإن إستيعاب المرء لاحد أبعاد الزمان يتطلب وبالضرورة تحقيق قدر كاف من الإستيعاب للبُعد الذي يسبقه.

 وإما عن الامر الثاني فهو يتعلق بمسؤوليتنا الاخلاقية حيال أجيال المستقبل: ابنائنا واحفادنا. فهذه المسؤولية لا تقتصر على حسن رعايتهم وهم في الحاضرفحسب وإنما تمتد لتشمل أيضا السعي ضمن رؤية حضارية بعيدة المدى إلى تأمين مستلزمات مستقبلهم بحكمة وأبداع وبضمنه إعدادهم علميا ومعرفيا وحضاريا، للعيش في عالم يتغير بسرعة ومفعم بالتحديات وعدم اليقين هذا فضلا عن تأهيلهم لاداء أدوار هادفة قد تُؤدي تراكمات مخرجاتها في المستقبل المتوسط في الأقل إلى بداية عودتنا إلى دائرة صناعة التاريخ لصالحنا الوطني والقومي معا.

*استاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات

العدد 96 – ايلول 2019