مها أبو شقرا تلوِّن الغياب

استيقظتْ على الحياة من خلال فكرة الغياب والفقدان، فقدان الأب… انتظرت أن يأتي من السفر فلم يأت… انتظرت أن يعود من الموت فلم يعد…

مها ابو شقرا مع لوحاتها

 تراكمت الأسئلة في رأسها الصغير وبدأت رحلة فهم كينونة وجودها الذاتي داخل كينونة الوجود البشري…فسألتْ:

ما معنى الموت ؟ كيف نتقبله ؟ هل هو نهاية حياة أم بداية جديدة؟

واذا كان الموت يعني الوجود من أجل الانتهاء، فالوجود هو الشيء الوحيد الذي نمتلكه وهو أيضاً الشيء الوحيد الذي نحن معرَّضون لفقدانه في كل لحظة…

موت الأب هز وجودها ووكينونتها منذ الطفولة ودفعنها الى اختيار هذا الموضوع :

 تراسندانتال (تجاوز)…

اختارت أسلوب الأطفال لرسم ما تفكر به وتشعر به… فما زالت مها تلك الطفلة ذات السبع سنوات تسكنها وما زالت صورة أبيها المحمولة بين يدي أمها مطبوعة في ذاكرتها…

من اعمال مها ابو شقرا

أعادت صياغة ملامح وجهها من جديد لتعيده الى الوجود وكأنها تعيد رسم ذاتها في وجوه من تُحب…

تجربتها الفنية أخذت مساراً تعبيراً رمزياً، لناحية أدواتها الفنية التي استخدمتها في الرموز والخطوط والأشكال المتكررة في حركة بيضاوية متواصلة ترمز الى الوجود، وأما الحركة الهرمية التي توحي بالأهمية والرفعة لشخصية الأم. والحركة المستطيلة التي ترمز بالسكون من خلال ظهور الهيكل الهلامي للأب والحركة الدائرية التي تحدد شخصية الابنة بفمها المغلق والمقطب والمُحجم عن الكلام بقرار منها بعدم التواصل مع محيطها…

تتشكَّل مجموعة الشخصيات الانسانية التي تظهَّرتْ كحالة من التآلف بألوان مكمّلة، تحيطها الخطوط الرفيعة والثخينة لخدمة التأليف والناحية التشريحية التعبيرية…

تنضوي شخصيات مها أبو شقرا ضمن مساحة اللوحة للحفاظ على تأليف قوي متماسك، فاللعبة التشكيلية تشبه أسلوب العرض بمعنى المخاطبة والمواجهة مع الآخر في مساحة درامية بألوان باردة ما بين البنفسجي والأزرق، وما بين الألوان الدافئة بين الأصفر والأوكر والبرتقالي… وتتمايز الشخصيات من حيث علاقتها التأليفية بألوان مختلفة تطغى عليها الناحية التعبيرية الانسانية، فانطلاقا من الألوان المكمّلة وما تنقله من تضاد ومن الشخصيات البيضاء التي تتكرر في عدة لوحات تشبه الشبح، نتيجة لقسوة وشدَّة الصدمة والشخصية الزرقاء المتكررة أيضاً، وتارةً تشبه الطيف والروح التي لم تعد تسكن عالم الأرض بل سافرت الى العالم الثاني عالم السماء عالم الروح…

تبدو العلاقات الانسانية متآلفة وحيناً متناقضة،وحينا في الظل وأحيانا تأخذ حيزاً كبيراً من اللوحة، ومنها ما يبدو في المستوى الأول من اللوحة ومنها في الثاني والثالث فهذه العلاقات العائلية تستوي لتؤلف الجوّ الذي عاشت فيه الفتاة الصغيرة التي رفضت الانصياع الى مفهوم الغياب وقبول عيش الحياة بشكل طبيعي…

 تختزن هذه المشهدية العائلية كل الأحساسيس الانسانية المتناقضة من الحزن والقلق والألم والفرح والدهشة والرفض والخنوع والحب والكره… لتتراكم هذه المشاعر المتضاربة…

 فتخلق مساراً حياتياً مختلفاً ومتميزاً بأجواء من الشفافية التي تدلُّ على الحنين العميق الى حضن الأب المفقود، علماً بأن السماكات المتنوعة تمتزج مع سيلان الألوان كالبخار الذي يلتصق على الزجاج في أيام الشتاء… كل ذلك عبارة عن صور عن الحالة الطفولية التي تعيشها مها أبو شقرا عند أداء تجربتها…

العدد 97 – تشرين 2019