في ذكرى حرب أكتوبر المجيدة – حرب الأستنزاف وصلابة الأرادة.. كانتا البداية نحو النصر

أمين الغفاري

تطل علينا في تلك الأيام ذكرى حرب أكتوبرعام 1973، وهذه الحرب تحديدا ليست مجرد معركة عسكرية أنتصر فيها الجندي العربي، ولكنها في ألأساس برهان ساطع على مقولة (شارل ديجول) رئيس الجمهورية الفرنسية في رسالته لعبدالناصر ليلة تنحيه أثر نكسة عام 1967 (أن النصر والهزيمة عوارض في حياة الشعوب، وأن العاصمة الفرنسية (باريس) قد احتلها الألمان في الحرب العالمية الثانية، ثم تم تحريرها بعد ذلك، وتبقى الشجاعة بعد ذلك في التحدي). في حرب 1967 تمت النكسة أو الهزيمة، ما دام تعبير(الهزيمة) يدغدغ مشاعر القوى ألأستعمارية أوالمستغلة أو المضادة لثورة 23 يوليو الخالدة، ويهدئ مشاعرها الملتهبة ضد العدل الأجتماعي والتحرر الوطني والتضامن العربي تحت شعار العروبة ووحدة المصير، لامانع من استخدام التعبير، فالمهم في الموضوع هو النصر الذي تحقق. الجندي المصري مقاتل شرس في الدفاع عن الأرض وعن الشعب، بل هو حصن الشعب وملاذه ضد العدو الخارجي، وضد الأرهاب الداخلي. فسلامة الأرض وسلامة الشعب كل لايتجزأ، والجيوش الوطنية على الدوام هي الأمن والأمان للوطن وللمواطن. حلت ذكرى حرب أكتوبر، وحل تاريخ العبور، وحل تاريخ رفع العلم المصري على الضفة الشرقية للقنال في ملحمة رائعة، أزالت خط بارليف العتيد، واخترقت تلال الرمال الكثيفة العالية التي شكلت سدا ترابيا، تصور مخططوه أنه العازل وأنه الحامي، وأنه الحصن الحصين. حلت ذكرى حرب أكتوبر، لكي تنصف الجيش الذي لحقت به هزيمة لم تكن من صنعه، ولم تكن نتيجة لتقصير في أدائه، أو أخلالا بواجبه، فالجيش عام 67 لم يحارب أصلا، ولم يدخل في معركة أساسا، وانما تلقى عدوانا، لم يستعد له قادته، ولم يأخذوا تحذيرالرئيس عبدالناصر مأخذ الجد، حين أعلن في حضورهم في المؤتمر الشهير

المشير احمد اسماعيل: قائد حرب أكتوبرعام 1973
قالت عنه صحيفة امريكية أنه اضاف للحرب تكتيكا جديدا

الذي عقد يوم 3 يونيو أن اسرائيل ستبدأ العدوان بالطيران يوم الأثنين 5 يونيو 67، وقال المشير عبدالحكيم عامربعدها (لم نكن نعلم ان الرئيس عبدالناصر مكشوف عنه الحجاب). حلت ذكرى الحرب المجيدة، ومصر تخوض معركتها مع الأرهاب، بدعواه الفجة، وبعقله المغلق وخياله السقيم. حلت ذكرى أكتوبر، ولازال الجيش وجنوده البواسل ومعهم رجال الشرطة يخوضون أشرف المعارك ضد المارقين. هؤلاء الهاربون من اعمال العقل، الفارون من طهارة الروح، المدنسون بخدمة قوى الاستعمار والصهيونية، القابضون من عملاء اسرائيل. الخادمون في عواصم الاستعمار وأعوانهم من نفايات البشر، حتى وان تقلدوا مواقع مسؤولة، أو يتم اعتبارهم من طبقة الحكام.

تفرد حرب أكتوبر

تظل حرب أكتوبر شاهدا على أن الجندي العربي يملك كل المقومات التي تؤهله لخوض كل المعارك مهما تعقدت الأجهزة التقنية أو تطورت الوسائل التكنولوجية، فقد كانت حرب أكتوبر حدثا فريدا، تعرضت اسرائيل من خلالها كدولة لمفاجأة من العيار الثقيل، كان من دلائلها عجز جهاز المخابرات(الموساد) عن رصد ألأستعدادات المصرية لشن الحرب بالتنسيق مع القيادة السورية، بما شكل مفجأة استراتيجية أفقدت القادة الأسرائيلين ثقتهم في جهاز مخابراتهم الذي أدخل في روعهم أنه أقدر جهاز مخابرات في العالم وأكثرها خبرة بقضايا الشرق الأوسط وموازين القوى في المنطقة. استحوذت تلك الحرب على ألوان شتى من التقديرات، ويأتي عنصر المفاجأة أولا على المستويين الأستراتيجي والتكتيكي، على قمة تلك التقديرات، فرغم التطور الهائل في وسائل الأستطلاع الحديثة، فقد توفر للمصريين عامل القدرة على التمويه والخداع بكفاءة عالية، بحيث دخل في روع الأسرائيليين بالفعل أن العرب خلدوا للأستسلام، وانه ليس في وسعهم الحركة في شن حرب أو الأقدام على المقاومة. كانت المفاجأة الثانية هي شق الكثبان الرملية لخط بارليف بواسطة خراطيم المياه، التي اقترحها المهندس المقدم باقي زكي ياقوت، وكانت تستخدم في تجريف الرمال في المنطقة التي يبنى فيها (السد العالي)، وفتح الطريق أمام الدبابات والأسلحة الثقيلة. وفى وصف دقيق لخط بارليف، قال حمدي الكنيسي المراسل الحربى المصرى خلال حرب أكتوبر 1973 في كتابه (الطوفان):  »ان خط بارليف هو أقوى خط دفاعى في التاريخ الحديث، وكان يبدأ من قناة السويس وحتى عمق 12 كم داخل شبه جزيرة سيناء، وكان يتكون من الخط الأول والرئيسى على امتداد الضفة الشرقية لقناة السويس وبعده على مسافة 3 – 5 كم. كان هناك الخط الثانى ويتكون من تجهيزات هندسية ومرابض للدبابات والمدفعية ثم يجىء بعد ذلك وعلى مسافة من 10 – 12 كم الخط الثالث الموازى للخطين الأول والثاني، وكان به تجهيزات هندسية أخرى وتحتله احتياطيات من المدرعات، ووحدات مدفعية ميكانيكية، وكل هذه الخطوط بطول 170 كم على طول قناة السويس. وبسبب كل ما سبق، لم يكن يخطر ببال قادة إسرائيل أن العرب يمكنهم تدمير هذا الخط الحصين، بل إن بعض الخبراء العسكريين الغربيين بعد دراستهم لتحصينات خط بارليف والمانع المائي الذي أمامه وهو قناة السويس، قالوا: إنه لا يمكن تدميره إلا إذا استخدمت القنبلة الذرية. نذكر أيضا من مقالات الأستاذ هيكل مقاله الشهير عن المعركة، بعد رحيل الرئيس عبدالناصر كتب يقول عن قضية تحرير الأرض مقالا بعنوان(تحية للرجال)وكان موجها لرجال القوات المسلحة ويتحدث فيه عن المهام الصعبة التي تخوضها تلك القوات استعدادا ليوم التحرير، ومنها قضية العبور ومدى تكلفتها ، خصوصا وهناك انابيب من الغاز أعدتها اسرائيل، وسوف تقوم بفتحها على القوات المصرية حين يلوح لها خطر اقتحامها لخط بارليف ومحاولة عبور القناة، لكي تصبح صفحة المياه للقناة شعلة ملتهبة من النيران.

كانت هذه الحرب اعلانا وشهادة للجندي المصري، وللاعداد الكفء الذي تولى من بداياته الفريق محمد فوزي القيام به، وللمستوى التعليمي والثقافي للمحارب الذي يقاتل بمعدات وآليات جديدة بها الكثير من التقنيات والأسلحة المتطورة. أنها شهادة للجهد المتفاني الذي بذله أيضا

الفريق اول محمد فوزي: قام باعادة بناء القوات المسلحة قاد حرب الأستنزاف ضد اسرائيل زهاء ثلاث سنوات

الشهيد عبدالمنعم رياض رئيس هيئة الأركان، والقيادة الحكيمة للمشير (أحمد اسماعيل) ، وقد قال العدو عن حرب أكتوبر. شهادة أباايبان وزير الخارجية العتيد للكيان الصهيوني (لقد طرأت تغييرات كثيرة منذ 6 أكتوبرعام 1973، وأبلغها أنه لاينبغي لنا أن نبالغ في مسألة التفوق العسكري الاسرائيلي بل على العكس أن هناك شعورا طاغيا في اسرائيل هو ضرورة اعادة النظر في علم البلاغة الوطنية.. علينا أن نكون أكثر واقعية. قال حاييم هيرتزوج رئيس الكيان الصهيوني الأسبق (لقد تعلم المصريون كيف يقاتلون، بينما تعلمنا نحن كيف نتكلم). وقال ناحوم جولد مان (أن حرب 1973 وضعت حدا لأسطورة أسرائيل التي لاتهزم. أن النتائج الأكثر خطورة تلك التي حدثت على الصعيد النفسي). تظل تلك الحرب في بهائها وروعتها، ولاينبغي أن ننظر الى ما سار اليه وانتهجه الرئيس الراحل انور السادات ومنه خلافه الشهير مع الفريق (سعد الدين الشاذلي) رئيس هيئة الأركان، حتى أقاله ، ويظل الأداء العسكري في مستواه الأعلى والأرقى، بعيدا عن الأداء أو الدور الذي قامت به السياسة، وتظل مقولة وزير الحربية الأسبق، وقائد العمليات اثناء حرب أكتوبر (الفريق عبدالغني الجمسي) على مفاوضات فض الأشتباك الأول والثاني التي وافق عليها الرئيس السادات موضع الأعتبار والتقدير (هل من أجل ذلك قاتل الرجال ؟)

حرب الأستنزاف (1967 – 1970)

كانت حرب أكتوبر وبطولاتها هي المحصلة النهائية لجهود عظيمة، تمثلت في اعادة بناء الجيش، ابتداء من 11 يونيو عام 1967، حين صدر قرار رئيس الجمهورية باسناد قيادة القوات المسلحة الى الفريق محمد فوزي، ورئاسة هيئة الأركان للفريق عبد المنعم رياض. مع الأخذ في الأعتبارأن القوات المسلحة سجلت بطولات خارقة في نفس الشهر الذي شهد النكسة، وفي اطار معارك يونية ذاتها عام 1967، فصدت سلسلة من الهجمات الأسرائيلية حتى بعد وقف اطلاق النار، وكانت أولى هذه المعارك (رأس العش)وهي منطقة قريبة من مدينة(بور فؤاد) وأرادت أسرائيل من خلال ذلك أن تحكم قبضتها على منطقة سيناء، ففي أول يوليو 67 شنت هجومها برتل من الدبابات، ولم يكن بالموقع سوى 30 مقاتلا من قوات الصاعقة، وقد استمرت المعركة زهاء سبع ساعات أنسحبت بعدها اسرائيل دون ان تحقق أهدافها. كما شهدت هذه الحرب معركة (جزيرة شدوان) وعدة هجمات على ميناء (ايلات) بالأضافة الى عملية تفجير المدمرة الأسرائيلية وهي من طراز HMS Zealous\ R39 وقد قامت القوات البحرية المصرية باغراقها في البحر الأبيض المتوسط امام مدينة بور سعيد في 21 أكتوبر 1967 بعد اربع أشهر من وقوع النكسة، وهي عملية مختلفة تماما عن الثلاث عمليات التي قامت بها كذلك الضفادع البشرية المصرية بالهجوم على ميناء (ايلات) الاسرائيلي، وقد تم فيها اغراق أربعة سفن، كما قامت المخابرات المصرية بتفجير (الحفار) في ابيدجان، وكانت اسرائيل قد اشترته للتنقيب عن البترول في سيناء

مراحل حرب الاستنزاف

بدأت مصر صراعها المسلح بعد النكسة ضد إسرائيل بمرحلة أطلق عليها مرحلة الصمود، انتقلت بعدها القوات المسلحة المصرية إلى مرحلة أخرى هي الدفاع النشط، ثم تطور القتال إلى مرحلة جديدة أطلق عليها الاستنزاف لتصل الحرب إلى ذروتها عام 1970. كان الهدف من

الفريق اول عبدالمنعم رياض: رئيس هيئة أركان الجيش
أحد أبطال حرب ألأستنزاف واستشهد على ضفاف القنال

مرحلة الصمود هو سرعة إعادة البناء، ووضع الهيكل الدفاعي عن الضفة الغربية لقناة السويس. كان ذلك يتطلب هدوء

. الجبهة حتى توضع خطة الدفاع موضع التنفيذ بما تتطلبه من أعمال كثيرة وبصفة خاصة أعمال التجهيز الهندسي المطلوبة. واستغرقت هذه المرحلة المدة من يونيو 1967 إلى أغسطس 1968. أما مرحلة الدفاع النشط أو المواجهة فقد كان الغرض منها تنشيط الجبهة والاشتباك بالنيران مع القوات الإسرائيلية بغرض تقييد حركة قواتها في الخطوط الأمامية على الضفة الشرقية للقناة، وتكبيدها قدرا من الخسائر في الأفراد والمعدات. واستغرقت هذه المرحلة المدة من سبتمبر 1968 إلى فبراير 1969. وتصاعد القتال إلى مرحلة جديدة أطلق عليها الاستنزاف أو مرحلة التحدي والردع، وذلك من خلال عبور بعض القوات والاغارة على القوات الإسرائيلية، وكان الهدف منها تكبيد إسرائيل أكبر قدر من الخسائر في الأفراد والمعدات لاقناعها بأنه لابد من دفع الثمن غاليا للبقاء في سيناء، وفي نفس الوقت تطعيم الجيش المصري عمليا ومعنويا للمعركة. واستغرقت هذه المرحلة من مارس 1969 إلى أغسطس 1970.

في صيف 1970 قام ويليام روجرز وزير الخارجية الأمريكي بتقديم مبادرة لوقف حرب الاستنزاف المصرية الاسرائيلية، واجراء مفاوضات يقوم بها الوسيط الاممي (جونار يارنج) للوصول الى حل بين القوى المتنازعة، وتوقف القتال في السابع من اغسطس، وقال عبدالناصر في المؤتمر القومي للأتحاد الأشتراكي في 23 يوليو 1970 (لقد طلبت من الفريق فوزي أن يظل في استعداداته العسكرية وجهوده من أجل ألأعداد للمعركة، وأن لايلتفت الى الجهود السياسية فتلك احتمالاتها رهينة بالأستعداد العسكري)، وتوقف اطلاق النار في السابع من أغسطس، وقد تمكنت القوات المسلحة المصرية من بناء حائط الصواريخ على ضفاف القنال قبل بداية ايقاف اطلاق النار مباشرة، وكان ذلك هو المكسب الحقيقي من مبادرة روجرز. رحل عبدالناصر قبل نهاية الثلاثة شهور المحددة في المبادرة الأمريكية، وتعددت المبادرات وكان التعنت الاسرائيلي بارزا، وكان الأستعداد العسكري رغم تغير القيادات العسكرية قائما مع تكثيف عمليات التمويه والخداع الاستراتيجي، حتى استيقظ الاسرائيليون على المفاجأة الكبرى والمرة بالنسبة لهم في كل تاريخهم وهو الأجتياح المصري السوري لأستحكماتهم على طول الجبهة مع مصر ومع سوريا يوم السادس من اكتوبر عام 1973. سيظل هذا اليوم في ضمير كل حركة تحرر، فالأوطان وترابها لها قداسة خاصة، ومن أجلها تسهر العيون وتفنى الاجساد.

العدد 97 – تشرين 2019

سعدالدين الشاذلي : رئيس هيئة أركان الجيش أحد أبطال حرب أكتوبر واقاله السادات لأنه عارضه في الثغرة