رقصةُ الحرب في الخاصرة الرخوة

عصام الجردي

أكدت الضربات التي استهدفت منشآت شركة أرامكو السعودية المؤكد. ما عادت التحكم في ثروات الدول والإقتصاد العالمي طوع يد السياسات الحكومية، وخطط النمو والتنمية فحسب. بل ورهن علاوة المخاطر الجيوسياسية والسيادية في تلك البلدان وفي عمقها الإقليمي. بات هذا المعطى يؤرق السلطات السياسية، ويوجهها نحو زيادة التسلح لدرء تلك المخاطر. و/ أو يستدعي طلب المؤازرة الدفاعية من دول حليفة. يعني كل ذلك، أن الثروة والإقتصادات باتت تستقطع تكلفة حراستها من نفسها. وأن على السياسات الحكومية الإقتصادية والتنموية، وضع المخاطر الجيوسياسية في حساباتها، وفي نفقات الموازنات والخزانة. مع كل ما يترتب على ذلك من أعباء وتكلفات طارئة.

طرح الأسهم سيتأخر

بينما كانت الرياض تتحين الوقت المناسب لطرح أولي 5 في المئة من أسهم أرامكو، تعتبره مفتاحا لتمويل خطة 2020 – 2030، التي يتبناها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وتعول المملكة عليها لتنويع الإقتصاد ومصادر الدخل والنمو، وكانت أسواق المال العالمية وبورصاتها تتنافس على اجتذاب أضخم عملية من نوعها، جاء استهداف منشآت أرامكو من طرف ايران كما هو مرجحٌ الى حد كبير، ليزيد من عدم اليقين حيال إمكان طرح الأسهم في نهاية 2019. ولو صح ذلك، سيكون إرجاء الطرح مرة ثانية. وقد سبق للرياض أن أعلنت في آب 2018 إرجاء هذه العملية التي كانت مقررة في الفصل الأول من 2018.

أرامكو أيقونة الشركات السعودية. وخزين ثروتها من النفط والغاز، ومصدر تمويل الدولة الوفير. وهي أكبر شركة في العالم من دون منازع في صرف الإعتبار عن القطاع والتخصص. تقدر الحكومة السعودية قيمة أصولها بنحو تريليوني دولار أميركي. يتراجع التقدير وفقًا لبعض مؤسسات الإستثمار العالمية الى تريليون و500 مليار. وتبقى مع ذلك الشركة الأولى عالميا في حجمها. ولطالما أحاطت الحكومة السعودية المعلومات المتصلة بأصول الشركة ودفاترها وأرباحها بستار كثيف من السرية والكتمان، واعتبرتها من مستلزمات الأمن القومي. تمامًا كما يتعاطى ثعلب الكرملين فلاديمير بوتين مع موارد روسيا الهائلة، الكامنة تحت صقيع سيبيريا. بيد أن الحكومة السعودية اضطرت منذ 2016 الى الكشف تباعًا عن قيمة أصول الشركة المقدرة، شرطًا أساسيًا للإفصاح والشفافية كي تكتسب أسهمها حقوق الإدراج في الأسواق المالية الدولية. خصوصًا أن مجرد إدراج 1 في المئة من أسهم الشركة تُقدر قيمته بنحو 20 مليار دولار أميركي.

 أرباح هائلة 2018

وتبعًا لقواعد الإفصاح نفسها، أعلنت أرامكو في نيسان أبريل الماضي مرةً أولى بشفافية عن أرباحها الصافية في 2018. وبلغت111 مليار دولار أميركي. وكانت المفاجأة تجاوز أرباح أرامكو الصافية، الأرباح الصافية في 2018، للشركات الثلاث الكبرى في العالم، المصرح عنها في 2018 البالغة 104.20 مليار دولار أميركي. أبِل Apple ( 59.5 مليارًا ) وشلRoyal Dutch Shell ( 23.9 مليارا ) وإكسون موبيل Exxon Mobil ( 20.8 مليارا ) وتُقدِر مراجع غربية مستقلة احتياطات السعودية المؤكدة من النفط (2017) بنحو 268.5 مليار برميل. وكلها في تصرف أرامكو الشركة الأم. وأنتجت في 2018 نحو 10 ملايين و300 ألف برميل معدلًا وسطًا من النفط الخام يوميا.

ما هي ارتدادات استهداف مرافق أرامكو على الإقتصاد السعودي في المدى القريب والمتوسط؟ وهل تراجعت قيمة أرامكو السوقية بعد استدافها؟ وما تأثير التطورات والمخاطر الجيوسياسية في المنطقة على خطة ولي العهد 2020 – 2030؟

رئة الموارد والإستثمار

موارد النفط والغاز هي المصدر الرئيسي لموارد الخزانة والموازنة والتنمية في المملكة العربية السعودية. وعليها تعتمد الحكومة لتنويع اقتصادها وتنفيذ مشاريعها الاستثمارية، ولجذب الاستثمارات الخارجية المباشرة. وأرامكو هي الوعاء الانتاجي والاستثماري للموارد النفطية والغازية. في سنة 2018 حولت الشركة الى الحكومة نحو 169 مليار دولار أميركي نتيجة أرباح وعائدات وضرائب في قطاعها. الحرب في اليمن، وتدخل السعودية المباشر لجبه مشاريع إيران في المنطقة، أثقلا موازنة الدولة. وبدأت تواجه شحا في الموارد مع التراجع الكبير في أسعار النفط بدءا من ربيع 2014. فلجأت السعودية مرة أولى الى الاقتراض بالعملات عبر اصدارات حكومية لاستئناف تمويل المشاريع والنفقات المتفاقمة في القطاع العام. فأي ضربة جديدة تتلقاها أرامكو والقطاع النفطي والغازي، ستكون لها انعكاسات غير محمودة تؤثر مباشرة على خطط الحكومة الإستثمارية وتنفيذ المشاريع ومستوى المعيشة، مع معدلات بطالة حرونة فوق 12 في المئة من القوى العاملة. ومعظمها بين صفوف الشباب والفئات العمرية اليافعة. طبعا، لا تزال السعودية قادرة على جبه أي عجز في موازنتها السنوية. فالتمويل المحلي بالريال، والخارجي بالدولار والعملات الأجنبية الأخرى ميسورا ومرحبا به من مصادر تمويل الاصدارات الحكومية. بيد أن الحكومات السعودية المتعاقبة التي اعتادت على تمويل مشاريع ضخمة موفورة من عائدات النفط والغاز، تحتاج الى بيئة تمويلية يسهم فيها القطاع الخاص السعودي والأجنبي في الدرجة الأولى الى جانب الموارد الطبيعية. فالطلب الداخلي على تمويل نفقات حكومية يأخذ موارد من القطاع الخاص. ويؤثر على بنية الفوائد ويحد من دور القطاع في حفز النمو وحشد المدخرات الوطنية في عملية تمويل المشاريع الحيوية والتنموية.

مؤشرات اقتصادية

وفقًا للتقرير الصادر عن صندوق النقد الدولي في أيلول/ سبتمبر 2019، أعدته بعثة الصندوق بعد دراسة (بحسب المادة الرابعة) وسبق إعداده استهداف منشآت أرامكو، توقع أن يزداد النمو الحقيقي السعودي غير النفطي مع زيادة الإنفاق الحكومي إلى 2.9 في المئة في 2019. بيد أن التقرير توقع أن يتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى 1.9 في المئة مع تباطؤ النمو الحقيقي للنفط إلى 0.7 في المئة. وأظهر التقرير نظرة إيجابية للنمو في في 2020 وما بعدها. لكنه ربط ذلك  »بتوسع مرتقب في العجز المالي بواقع 6.5 في المئة من الناتج المحلي في نهاية 2019، من 5.9 في المئة في 2018. قبل أن يتراجع من جديد الى 5.1 في المئة في 2020. وبسيناريو تراجع أسعار النفط في الأسواق الآجلة على المدى المتوسط، من المتوقع أن يتوسع العجز. وأن يتقلص فائض الحساب الجاري إلى 6.9 في المئة من الناتج المحلي في عام 2019، في مقابل 9.2 في المئة في 2018«. ولئن ارتفعت أسعار النفط بعد استهداف أرامكو، كانت تتجه قبلها الى التراجع، مع تباطؤ الاقتصاد العالمي نتيجة الحرب التجارية الحمائية بين الولايات وبين الصين.

يمكن قراءة قرار الحكومة السعودية بشراء نحو 70 في المئة من أسهم عملاق الصناعات الكيميائية سابك، المملوكة من صندوق الثروة السيادي لمصلحة شركة أرامكو، بأنه فتح إرجاء الطرح الأولي لجزء من أسهم أرامكو الى وقت غير محدد. لكن لُحظ أن الحكومة السعودية تنوي اقتراض 15 مليار دولار أميركي من الأسواق لهذه الغاية. ويعتقد على نطاق واسع، أن الاقبال على إصدارات الدين سيكون ميسورا. وسيرفع من قيمة أصول أرامكو ومن قيمتها السوقية حين طرح أسهمها. الأمر الذي سيتيح موارد اضافية لأرامكو تستخدم رافعة في خطة الحكومة التنموية حتى 2030.

علاوة المخاطر الجيوسياسية

نكتب على الورق. يتوقف كل ذلك على المخاطر الجيوسياسية والسيادية التي تواجه المملكة العربية السعودية التي أشرنا اليها استهلالا. لو اختارت طهران الإستمرار في صراعها مع واشنطن على خلفية الملف النووي والعقوبات في الخاصرة السعودية الرخوة، منشآت النفط والبتروكيميائيات، سيكون على السعودية ومنطقة الخليج العربي عمومًا دفع ثمن باهظ. وكالة موديز للتصنيف الإئتماني لحظت المخاطر الجيوسياسية التي تتعرض لها الرياض. ومع تصنيف الوكالة شركة أرامكو A1 القوي، بيد أنه ما زال دون تصنيف إكسون موبيل وشل. ربطت ذلك بـ »الإستقرار السياسي والظروف العصيبة التي تمر السعودية«. وبشؤون أخرى.

تجيد طهران رقصة الحرب على منابع النفط. هددت لا تصدير لنفط المنطقة مع حظر صادراتنا منه. ونفذت على الأرجح. ومع العقوبات المالية والمصرفية، لم يبق شيئًا لتخسره. الرياض لديها الكثير. حساباتها مختلفة في حرب تتهيبها وتتردد. وواشنطن دونالد ترمب تراوغ. والمنطقة تحبل بالإحتمالات الكبيرة.

العدد 97 – تشرين 2019