بريد الليل لهدى بركات رسائل تبحث عن مصيرها

بيروت من ليندا نصار

»تعبّر الرواية في عمقها عن القتل النفسيّ والموت البطيء والموقّت لإنسان اليوم«.

 »رواية بريد الليل فلسفة في الحياة تعبّر عن المصير المحتّم للإنسان، الذي مهما حاول جاهدا التحرر منه، يبقى وسط دوّامة لا يعرف لها نهاية«.

في رواية  »بريد الليل« للروائية هدى بركات، الصادرة عن دار الآداب، التي حازت على جائزة البوكر العربية من قبل لجنة التحكيم ووصلت إلى الطليعة من بين ستّ روايات، تعتمد الكاتبة نمطا معيّنا ومميزا في صياغة الرواية وأسلوبا جديدا في طرح موضوع مغاير، إذ تعمل على نسج روايتها معتمدة فضاءات متعدّدة يتمثل حضور الشخصيات على مسرحها ما يجعلها تكشف عمّا في دواخل عوالمها الخفيّة من خلال حركاتها وتصرّفاتها.

وبحسب موقع البوكر العربية ولدت هدى بركات في بيروت وانتقلت إلى فرنسا ودرست الأدب المعاصر وقد فازت بالجائزة وستترجم روايتها إلى اللغة الإنكليزيّة عن دار وانورلد في العام 2020 في المملكة المتحدة. وتعتبر هذه الرواية أفضل عمل روائيّ بين تموز 2017 وحزيران 2018 وقد كانت في طليعة ستّ روايات من مصر وسوريا والعراق والأردن والمغرب.

ولهدى بركات ست روايات منها  »حجر الضحك« (1990) و »أهل الهوى« (1993) و »حارث المياه« (2000)، ولها أيضا مسرحيتان ومجموعة قصصية وكتاب يوميات، ومُنحَت وسامان رفيعان من الجمهورية الفرنسية ومنحت أيضا جائزة نجيب محفوظ لعام 2000 من الجامعة الأميركية في القاهرة.

وكانت بركات قد قالت في حوارها مع موقع جائزة البوكر قبل فوزها بالجائزة إن ما دفعها لكتابة الرواية كان  »مشاهد المهاجرين الهاربين من بلدانهم في قوارب الموت، ونظرة العالم إليهم ككتلة غير مرغوب فيها أو كفيروس يهدد الحضارة«.

وأضافت بركات أن  »هذا لا يعني أني أريد للبلدان الغربية أن تشرع الحدود أو النظر إلى هؤلاء كملائكة. أردت فقط الإنصات إلى حيوات تهيم في صحراء هذا العالم. آمل أن تكون هذه الرواية قد أسمعت بهذا القدر أو ذاك أصوات حيوات هشة يتم إصدار الأحكام عليها من دون فهمها أو استفتاء ما أوصلها إلى ما صارت إليه«.

يتبدّى في هذه الرواية المنهج النفسيّ والمنهج الاجتماعيّ والفضل في ذلك للكاتبة التي تميّزت برؤيتها العميقة للنفس البشرية والتعبير عن الحيوات الإنسانيّة، وبثّتها في السرد الروائيّ، فجاء الحكي على لسان الشخصيات بمنزلة اعتراف وسط ضياع الإنسان وتعرّضه للموت الرمزيّ، موت العلاقات الاجتماعيّة وعدم وقوف الإنسان إلى جانب أخيه وسط الظروف القاسية المحيطة به. توجّهت الرسائل المكتوبة وكأنها سائرة إلى جهّات مجهولة فكشفت عن الأعماق والأفكار التي تتحكّم بالإنسان والإيديولوجيّات المجتمعيّة المحيطة به في تلك المرحلة.

وليس غريبا على هدى بركات هذه المفاجأة التي تقدّمها إلينا من خلال الكتابة إذ اعتدنا على هذا الأسلوب الذي يظهر تفجير لتجربة مختلفة تصيب هدف التعبير عن مجتمع كثر فيه التهجير والمعاناة والهروب ومواجهة المصير.

وتطرح رواية بريد الليل فلسفة في الحياة تعبّر عن المصير المحتّم للإنسان الذي مهما حاول جاهدا التحرر، يبقى وسط دوّامة لا يعرف لها نهاية خصوصا إذا ما تحدّثنا عن أولئك الذين هاجروا هربا من السيء فوجدوا أنفسهم خاضعين للأسوأ، من الحرب إلى الغربة والتوحد، فوجدوا أنفسهم في ليل لا ينتهي وفي مواجهة للموت. فإمّا تقبّل الغربة وإمّا الموت وعدم الوصول. ترانا نبحث عن مصير رسالة أم مصير إنسان؟ وكيف يكتب الإنسان ويعترف ويعبّر على ورقة مجهولة القارئ؟ هل وصل به الألم إلى حدّ أنّ يصبح سؤال الكتابة عنده مرادفا للاعترافات الأخيرة المفتوحة على احتمال الموت؟

التساؤلات كثيرة التي تأخذنا إليهاالكاتبة عبر عوالمها المختلفة وفي ذلك دعوة إلى التفكير وإعادة النظر في حقيقة الإنسان وفي من يقرّر حياته وطريقة عيشه كذلك تعبر الرواية عن عالم ما زال الضعيف واقعا فيه تحت سيطرة القويّ وهنا تتجلّى قوّة السرد الروائيّ من خلال قوّة التعبير عن هذه الأحداث المتشابهة. فهذه الشخصيات تتحرك وتمثل أدوارها في أماكن مختلفة في إطار زمانيّ واحد لتتقاطع مصائرها وتلتقي عند نقطة تكاد تكون مجهولة ولا تتطابق ونقطة البداية فالإنسان كما الرسائل واقع بين حالتي الوصول أو عدمه.

تعتبر أحداث القصة قريبة من القارئ الذي عاين أساليب التعذيب وإن لم تكن نفسها إنما لامس جزءا منها وكل ذلك من خلال المتخيل الروائي والسردي الذي يجسد تصوّرات الكاتبة وليدة مجتمعها والتي عايشت المجتمعات العربية بما فيها من تمزّق واختراق لخصوصيّة الإنسان والمسّ بمعاناته بل بمصيره.

وتحمل الرسائل المجهولة تأويلات مستوحاة من محيط كل شخصية والأحداث التي تسيّرها وتلقي بها في أجواء من السّرد المشوّق. وتعبّر الرواية في عمقها عن هذا القتل النفسيّ وهو الموت البطيء والموقّت لإنسان اليوم خصوصا أولئك المعذّبين في الحياة وتنوّع أساليب التعذيب وقسوة الإنسان على أخيه الإنسان الذي ما إن يلمح بصيص مستقبله حتى تتدمّر طفولته أمام عينه.

تساؤلات كثيرة تضع القارئ في حيرة من أمره: ترى هل ستغيّر هذه الرسائل التي فقدت الأمان مصير الإنسان؟ أم أنها ستبقى حروفا تعبّر عن تشظّي الذات الإنسانيّة على أوراق لن تصل مع ساعي بريد أضاع العناوين؟ كثيرة هي التأويلات التي تجعلنا نغوص أكثر في العوالم الخفيّة لهذه الرواية خصوصا عندما ينفتح القارئ على معاناة وعذاب كلّ شخصيّة من خلال عجزها عن تغيير محيطها أو الخروج من دوّامة الحياة.

من أجواء الروية:

 »قد تجد ذلك غريبا، لكني، صراحة، لم أعد أتسلى إلا حين أكون وحدي. حتى حين أخرج من بيتي أنتقي موسيقى أحبها بقى قليلا في البيت وحدي. وني حين أعود سأسمع الموسيقى وأنا ما زلت في الخارج، وأنا أدير المفتاح في قفل الباب، وأقول في نفسي إنها هي نفسها الموسيقى، موسيقاي، وإن أحدا لم يدخل في غيابي ويحرك الهواء. وإني إذن، كنت وحدي في الداخل ولم أضجر. شيئا فشيئَا، ويوما بعد يوم، صارت الوحدة بذخا كاملا؛ مُلكا عظيما. الوحدة في هواء لا يتنفس فيه أحد سواي، حتى إنِّي صرت أتكهرب، كأن أفعى قد لسعتني، أكاد أصرخ ألما وغضبا إذا ما لمسني أو دقر بي أو بأغراضي أحد دون قصد، في الشارع أو الباص أو المصعد. إذا تعثر شخص وهو يقع، مثلا، وتمسك بذراعي. أعرف أنه سلوك مجانين. أتنفس عميقا. أبتسم وأقبل اعتذار برحابة صدر، بينما أحاول أن أخفي تعرقي وتسارع نبضي، وربما بسبب شحوبي أيضا. لا بد من أن كثيرين غيري يعانون من اقتراب من أجساد اخرين أو ملامستهم، لكنهم، مثلي، يتصرفون بكل تهذيب، ولا تبين عليهم علائم الكراهية. كثيرون، مثلي، ينظرون في المطعم إلى آثار اصابع على الصحون النظيفة أو على الكؤوس، لا نهم مولعون بالنظافة، بل للتأكد من خلو المائدة من آثار الناس«.

 

العدد 97 – تشرين 2019