السياسة الخارجية الصينية ومشهد التردي والانكشاف العربي

أ.د. مازن الرمضاني*

في دراسات المستقبلات لا يتم إدراك مفهوم المشهد بدالة تتماهى وجذوره اللغوية، و/أو استخداماته الفنية، بمعنى السرد المكتوب لقصة محددة، وإنما بدالة اخرى. فهو عندنا مثلا إجتهاد علمي مشروط يعمد إلى توظيف العلم والخيال سبيلا لاستشراف المسارات البديلة التي سيقترن بها المستقبل، انطلاقا من حقائق الماضي ومتغيرات الحاضر. لذا وتأسيسا على عموم معطيات الواقع العربي والمسارات المحتملة لكيفية تطوره، سلبا أو ايجابا، باتجاه المستقبل، تتعدد وتتنوع، بالتالي مشاهد المستقبلات العربية، المحتملة والممكنة.

 فالمعطيات العربية الراهنة، بشقيها الداخلي والخارجي، إن استمرت ممتدة إلى المستقبل، فإنها ستفضي إلى أن يكون المستقبل استمرارا لمعطيات التردي والانكشاف التي يتميز بها الحاضرالعربي. أما إذا اقترنت بتحولات إيجابية، كمية وكيفية، فإنها ستؤدي وباحتمال عال إلى مشهد مستقبلي مختلف عن الأول. وبالمقابل تدفع إشكالية استمرارية التردي والانكشاف متفاعلة مع بدء عملية الارتقاء الحضاري العربي إلى مشهد مركب يجمع بين مخرجاتهما في أن، فضلا عن إستمراره إلى حين استقراره على صورة اخيرة، تدهورا أو ارتقاءا.

وانطلاقا من أن الواقع العربي الراهن قد تجذرت معطياته عبر الزمان، لا يمكن القول موضوعيا أنه قابل للتغيير خلال زمان قصير. بيد أنه، في الوقت ذاته يشهد هنا وهناك، تحولات كيفية وكمية مهمة، لابد أن تفضي تراكمات مخرجاتها عبر الزمان إلى التغيير. فالواقع العربي لا يستطيع أن يكون بمعزل عن احد قوانين الحياة أي قانون التغيير والذي افضى إلى استمرار العالم في التغيير وعلى نحو غير مسبوق. وجراء هذا الواقع لا تستطيع أي دولة أن تكون بمعزل عن مخرجاته.

 وحتى يستقر المشهد المركب اعلاه على صورته الأخيرة، تدهورا أو ارتقاءا، نرى أن المستقبل العربي سيبقى مقترنا بمشهد ديمومة التردي والانكشاف. والسؤال: كيف ستتعامل الصين مع العرب في ضوء مخرجات هذا المشهد وامتداده المحتمل إلى المستقبل.

كاحدى القوى الدولية الصاعدة وبثقة إلى قمة الهرم السياسي الدولي، تتحرك الصين سياسيا خارجيا على وفق رؤية واضحة تعبر عن أولويات مختلفة عن تلك التي كانت تنطلق منها خلال مرحلة ما قبل منتصف السبعينيات من القرن الماضي. ويُعد لاغراض هذا المقال مجديا تكرار الاشارة إلى هذه الاولويات سيما وأن واقع السياسة الخارجية الصينية يؤكد انطلاقها منها حيال كافة دوائر ومثلثات اهتماماتها الدولية هذا قبل تناول المضامين المستقبلية المحتملة لهذه السياسة حيال العرب.

تاريخيا، لقد دفع الاخفاق العام للسياسة الخارجية الصينية متفاعلا مع عزلتها النسبية خلال مرحلة 1949-1977 إلى البدء داخل الحزب الشيوعي الصيني، بالدعوة إلى ضرورة إعادة هيكلة هذه السياسة وعلى نحو جديد. بيد أن هذه الدعوة لم تجد استجابة عملية إلا بعد وفاة ماوتسي تونغ عام 1967 وابعاد رموز الثورة الثقافية عن مواقع تاثيرهم السياسي.لذا أخذ المؤتمرالحادي عشر للحزب الشيوعي الصيني عام 1977 بسياسة سيصبح عنوانها لاحقا الانفتاح السياسي الشامل على العالم. وتعبر هذه السياسة عن نوعين أساسيين من الأولويات السياسية الخارجية.

فأما عن الأولوية الأولى فهو تغليب الأمن الاقتصادي على الأمن العسكري لقد أكدت التجربة أن القدرة العسكرية التي لا تدعمها قدرة اقتصادية تسهل تحمل الاكلاف الباهضة الناجمة عن الأولى لا تستطيع أن تبقى فاعلة لزمان ممتد. وعليه ادركت الصين أن خيار الامن أولا ينطوي على تحمل اكلاف باهظة ترفد ديمومة تخلفها الاقتصادي بعنصر مضاف. لذا اندفعت في نهاية السبعينيات من القرن الماضي إلى الأخذ ببرنامج واسع للتحديث الداخلي جعل موضوع الأمن والدفاع اسفل قائمة أولويات هذا التحديث التي جعلت الارتقاء بالزراعة، والصناعة، والبحث والتطوير في مقدمتها.

وينطوي قيام القائد الصيني، دنغ هيساو بنغ، بوضع موضوع الأمن والدفاع في اسفل هذه القائمة على دلالة مهمة مفادها أن تمضي المدة المحددة لاستكمال عملية التحديث حتى عام 2050 دونما عقبات، وأن يكون نجاحها سبيلا يؤمن للصين الغاية النهائية لمشروعها القومي: أن تكون قوة عظمى. وتبعا لذلك كان الانفتاح الصيني الواسع على العالم مشروعا هادفا رمى إلى تسخير مخرجات هذا الانفتاح خدمة لتأمين مستلزمات التحديث الداخلي، ومن ثم تحقيق الغاية القومية المنشودة. أن الحرص الصيني على بناء علاقات دولية واسعة وتوظيفها، إنما يؤشر إدراكا صينيا مفاده أن المهارة السياسية الخارجية تعد أيضا سبيلا مهما لاكتساب التأثير الدولي الفاعل.

وأما عن الأولوية الثانية فهي تكمن في تغليب التعاون على الصراع بين الدول. فبينما تميزت السياسة الخارجية الصينية خلال مرحلة ماوتسي تونغ، في العموم، بتوجه ايديولوجي لا ينكر والذي لم يكن بمعزل عن رؤية ماوتسي تونغ لكيفية تطور العالم، والصراع الحاد مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي السابق أخذ هذا التوجه بعد الانفتاح الصيني الواسع على العالم بالتراجع لصالح التعامل الواقعي (البراغماتي). وقد رتب التحول في مضمون السياسة الخارجية الصينية ، وبالتالي أدواتها، نتيجة مهمة قوامها الحرص على بناء وتطوير علاقة تعاون مع الدول كافة، ولا سيما تلك التي تتوقع الصين أن العلاقة واياها ستعود عليها بالفائدة متعددة المضامين. وحيال هذه الدول تتبنى الصين فكرة المثلثات، التي تكون هي بمثابة الضلع الأساسي في كل منها.

وغني عن القول أن الصين التي كانت سابقا تعد من بين الدول المتأخرة، فضلا عن محدودية القبول الدولي بها استطاعت عبر التوظيف الماهر لسياستها الخارجية ليس فقط إلى رفد تحديثها الداخلي بمقومات الارتقاء، وإنما إلى أن تحقق ايضا الاعتراف بها كاحدى الدول المؤثرة في التفاعلات الدولية وكدولة أساسية في تفاعلات النظام شرق اسيوي، فضلا عن تعاملها مع الولايات المتحدة الأمريكية وسواها من موقع القوة السياسية والاقتصادية ضمن اطار قواعد اللعبة الدولية.

لذا، لو عاد ماوتسي تونغ حيا وتم سؤاله: ماذا فعلت من اجل الصين؟ فسيقول: حاولت أن أجعل منها قوة دولية مؤثرة ولكن الزمان نصحني بتأجيل ذلك إلى القرن الحادي والعشرين. لذا لا مغالاة في القول: اننا امام دولة تسعى انطلاقا من رؤية مستقبلية دقيقة في اهدافها وأدواتها إلى أن تعود كما كانت في سنوات إمبراطوريتها، مركزا للحضارة أو أحد مراكزها الأساسية في الأقل.

وعليه نعود إلى السؤال: كيف ستتعامل الصين مع العرب في ضوء معطيات مشهد التردي والانكشاف؟

ابتداءا تجدر الاشارة إلى أن أنماط الحركة السياسية الخارجية الصينية حيال العرب تحولت من مضمون إلى آخر تبعا للتحولات الجوهرية التي مرت بها عموم هذه السياسة عبر الزمان. ففي عهد ماوتسي تونغ لم تحل مجموعة من الكوابح، ومنها محدودية القدرة الصينية على الفعل والانشغال بالصراع الحاد مع الأمريكيين والسوفييت، فضلا عن ايلاء تفاعلاتها شرق أسيوية أهمية خاصة ناهيك عن البعد جغرافيا عن الوطن العربي لم تحل دون علاقة صينية مع دول عربية، و/أو قوى سياسية عربية داخلية، كانت قريبة منها أيديولوجيا. بيد أن هذه العلاقة لم تتجاوز حدود العلاقة الاعتيادية. ويرد ذلك إلى تأثير كوابحها.

 أما بعد تحول الصين إلى الانفتاح الواسع على العالم، فلقد دفعت متغيرات ايجابية، كانتفاء السمة الاستعمارية عن السياسة الصينية حيال العرب ونمو الحاجة المتبادلة ومتعددة المستويات لبعض، فضلا عن الموقف الأمريكي من الحضارتين: العربية والكونفشيوسيه والصراع الحضاري معهما دفعت إلى علاقات صينية ـ عربية متطورة لم تقتصر على الأصدقاء العرب القدامى وإنما إمتدت لتشمل دول عربية أخرى، ومنها دول الخليج العربي، كانت تتردد في زمان الحرب الباردة عن تبادل العلاقة مع الصين.

وانطلاقا من ركائز السياسة الخارجية الصينية، المشار اليها في أعلاه، متفاعلة مع معطيات الواقع العربي الراهن نرى أن السلوك السياسي الخارجي الصيني حيال العرب سيتمحور حول الآتي:

أولا: استمرارالصين في حرصها على تطوير علاقاتها مع الدول العربية عموما والمحورية خصوصا ومنها دول الخليج العربي، ادراكا منها لأهمية هذه الدول بالنسبة لها، ولاسيما على صعيد اشباع حاجاتها النفطية والاقتصادية والاستثمارية. ويتبع هذا الحرص ثلاثة أمور أساسية: فأما عن أولهما فهو الاستمرار في تعاملها مع العرب كارادات سياسية متنافرة مستفيدة من واقع ايلاء الدول العربية الاولوية لمصالحها القطرية على سواها، وبالتالي محدودية السياسات العربية المشتركة. وأما ثانيها فهو مقايضة دعمها، بأنواعه المتعددة، للعرب بالمحافضة على مصالحها وتطويرها. وأما عن الأمر الثالث، فهو يكمن في تجنب تدخلها في الشؤون الداخلية العربية، الذي كان أحد سمات السياسة الصينية حيال العرب منذ عهد ماو، خشية من تأثيره السلبي على علاقتها مع هذه الدولة العربية أو تلك.

ثانيا: استمرار الصين في تبني سياسة الحياد حيال الأزمات و/أو الصراعات العربية ـ الاقليمية، حرصا على علاقتها مع اطراف هذه الأزمات والصراعات هذا فضلا عن توظيف هذه السياسة لتحقيق مصالح مضافة. فالصين لم تتردد، مثلا، عن توظيف الحرب الإيرانية ـ العراقية، مثل سواها من الدول، لصالحها عبر أدوات متعددة، لسنا هنا بصددها. بيد أن تبني مثل هذه السياسة لا يلغي احتمال تدخلها للمساعدة على فض هذه الأزمات و/ أو الصراعات بالصيغ الدبلوماسية، ربما خشية من أن يفضي تصاعدها إلى تبلور حالة قد تهدد ضمان ديمومة مصالحها في منطقة النزاع أو الصراع.

ثالثا: من المرجح أن الصين ستتعامل ايضا مع الدول العربية على وفق مخرجات نوعية علاقاتها هي مع الولايات المتحدة الأمريكية، ونوعية علاقات العرب بالأخيرة. فهذه العلاقات عندما تكون إيجابية، فإنها تتيح للصين، جراء غياب الممانعة الأمريكية فرصة مهمة لتطوير العلاقة مع العرب إلى أفاق أرحب. بيد أن هذه العلاقات عندما تتسم بالتعاون بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية والعرب من جانب وبالتوتر بين دولة، أو دول، عربية أساسية والولايات المتحدة الأمريكية من جانب آخر عندها من المحتمل أن تعمد الصين، وعلى وفق نوعية عمق علاقتها مع هذه الدولة العربية أو تلك، إلى الانطلاق من احدى السياستين: فأما من سياسة تقف بالضد من السياسة الامريكية، وبضمنه توظيفها لحق النقض في مجلس الأمن لتعطيل هذه السياسة. وأما من سياسة تكتفي بالامتناع عن التصويت في مجلس الأمن الدولي على قرار تتبناه الولايات المتحدة.

ونرى أن الصين ستأخذ بالسياسة الثانية، سيما وأنها تتماهى مع رؤيتها لكيفية ادارة سياستها الخارجية وبما يؤمن مصالحها المنشودة. فهذه السياسة تسهل إرضاء العرب والأمريكيين معا ولو بالحد الأدنى. فهي تسمح للصين بمخاطبة الدولة، أو الدول، العربية وبما يفيد انها لم تكن مع الولايات المتحدة ضدها، والقول للأخيرة انها لم تمنع مجلس الأمن الدولي من اتخاذ القرار الذي تريده. وبهذا الصدد تجدر الاشارة إلى أن الامتناع عن التصويت في مجلس الأمن الدولي لا يعطل اتخاذه للقرار.

بيد أن الأخذ، في العموم، بسياسة الامتناع عن التصويت، لا يعني أن الصين سوف تتجنب، وفي كل الأوقات، الوقوف بالضد من الولايات المتحدة داخل مجلس الأمن الدولي. ولنتذكر هنا السلوك التصويتي للصين في هذا المجلس حيال القضية السورية مثلا. فالمصالح الصينية عندما تقتضي ذلك، تضحى السياسة الخارجية الصينية انعكاسا لها.

رابعا: أن إتجاه الصين إلى أن تكون قوة عظمى سيجعلها تتصرف حيال العرب كقوة عظمى. ومما يسهل ذلك أمران: أولهما، أن المصالح الصينية في الوطن العربي ستكون، خلال قادم الزمان، قد تطورت على نحو أعمق وأشمل ومن ثم صارت حاجتها للعرب أوطد. أن هذا التطور يفضي بها إلى الأخذ، وتبعا لطبيعة الموقف السائد، بسياسة الترغيب و/أو الترهيب لحماية هذه المصالح. وثانيهما، أن التراجع التدريجي المحتمل للدور الأمريكي في العالم، جراء تفاقم تأثير الاختلالات الهيكلية في الجسد الأمريكي، سيفضي بالمقابل إلى تسريع اقتران الهيكلية الدولية بخاصية تعدد الأقطاب

وتفيد تجربة التاريخ أن هذه الهيكلية اقترنت دائما بالتنافس و/أو الصراع بين الأقطاب الدولية على تلك المناطق الجغرافية المهمة في العالم. وكما أن الوطن العربي سيبقى من بينها، ستكون الصين من بين تلك الأقطاب، التي ستتنافس و/أو تتصارع عليه، وبمحصلة قد تجعله يعود مرة اخرى، إلى تلك الأجواء التي عاشها خلال فترة اشتداد حدة الحرب الباردة، والتي استنزفته مخرجاتها.

إن انماط السلوك السياسي الخارجي الصيني، اعلاه، إنما تؤكد أن مشهد ديمومة التردي والانكشاف العربي يلغي حاجة الدول الاخرى، اقليميا و/أو عالميا، الى إعادة هيكلة سياساتها الخارجية حيال الوطن العربي وعلى ذلك النحو الذي يأخذ المصالح العربية بنظر الاعتبار. بيد أن مثل هذه الحاجة ستصبح أكثر الحاحا عندما يقترن المستقبل العربي بمشهد يعكس قدرة العرب الكامنة على الارتقاء الحضاري والتأثير الدولي لصالحهم، كدول وأمة.

*استاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات

العدد 97 – تشرين 2019