الشاعر مُعتز قُطيْنة

نسرين الرجب- لبنان

 »رجل يحاول كتابة الشعر، ويسعى إلى إقناع العالم أن الشعر لا يزال حيا«

إنّ الشعر بجماليته العذبة هو دربٌ مقرون بالصِعاب، المعنى في تأفُفه وتزحلُقه لا يؤاتي من يشاء أن يأتيه، ويتفنّن في الظهور، فلا يحده شكلٌ ولا يلجمه وزنٌ، واللفظُ في تمظهُره كثيفٌ كثير، فالمُفردة صائتة وساكنة، جامحة وهادئة، لا تحنو إلا لسائسها، وسائسها ليس من يضربُ في رمل المعاجم ويستخرج منها ما صعُب وابتعد عن ألسنة المعاصرين لزمنه، بل من يُحكم قبضته عليها، ويُدلل سكونها بحُسن إعرابها، وهذا ما يميّز التجربة الشعريّة للشاعر مُعتز قُطيْنة.

الشاعر مُعتز قُطيْنة، من مواليد القدس في العام 1980، كتب مقالات في صحف عدّة، منها: الشرق السعودية، البلاد السعودية، صحيفة أنحاء، صحيفة الرؤية الإماراتية، مجلة الفجيرة الثقافيّة، وعدد آخر من المجلات والصحف والمواقع الإلكترونية، درس القانون، ويُحضّر حاليا ماجستير في إدارة الأعمال، عمل في العلاقات العامة، وخدمات الإنترنت، والصحافة، أسّس عددا من المشاريع الإعلاميّة والمنصات والتطبيقات الصحفيّة والتقنيّة، له خمس إصدارت، في أغلبها مجموعات شعريّة : (خلفي الريح مجدولة 2001، أوجاع الذئب الأشقر 2004، عصيان 2007، أخاف أن تفشل الموسيقى 2015، كان غريبا أنني صدّقت 2018) وعمل سرديّ واحد هو: الجنسيّة 2010. أسّس رواشن للنشر في 19 سبتمبر/ أيلول، من العام 2018، وهي دارُ نشرٍ مُتخصصّة بإصدار دواوين شعر، أقام بشكل شخصي عددا من الأمسيات الشعريّة وشارك في عدّة ملتقيات إعلاميّة وثقافية متحدثا ومشاركا.

الشاعر مُعتز قُطيْنة

كان للحصاد فرصة للحديث مع الشاعر حول تجربته الشعريّة، والعلائق المتصلة بآرائه ككاتب وصاحب دار نشر  »رواشن«.

يُعرّف  »مُعتز قُطيْنة« عن نفسه بأنّه: رجلٌ يحاول كتابة الشعر، ويسعى إلى إقناع العالم أن الشعر لا يزال حيا.

المكان بين التشتّت والانتماء

كان للمكان أثرا عميقا في حياة الشاعر، فهو هو ابنُ فلسطين، وعاش مرحلة من طفولته في القدس، يمتلك الجنسيّة الأردنيّة، وقد عاش في جدة – السعوديّة، ثم انتقل للعيش في الإمارات العربيّة المتحدة – دبي وما زال هناك، عن هذه التجربة يقول : الفرد هو نتاج بيئته، على اختلاف جذورها وظروف معيشتها، كل ذلك مؤثّر، المكان، والانتماء الجغرافي، وثقافة الحياة في كلٍ منها بين ما تحمله الأسرة وأهدافها التربويّة تجاه هذا الفرد، وما يصنعه المكان، وما يمر به عبر تجربته الشخصيّة.

والشاعر يعتبر؛ أن هذا التعدُد في الانتماءات المكانيّة قد أحدث تشتتا في شخصِه في وقت ما من تجرُبته المُعاشة، هوياتٌ تتنازع في التجربة، كل منها تريد أن تكون لها الغلَبة في بناء الشخصيّة وتشكيل ملامحها، قبل أن يصل الفرد – والكلام للشاعر- إلى درجة مناسبة من الوعي فيتجلّى له أن تعدّد الانتماءات ليس أكثر من جزء وحيد يسهم في بنائه، وأنّها عنصر فيه فقط.

وعن ملامح البلاد التي ينتمي إليها في تجربته الإبداعيّة، تساءل : بأي معنى نتحدث عن البلاد؟ جواز السفر؟ المكان الذي يعيش فيه الشخص؟ المكان الذي أتى منه؟ أم الذي قرّر هو بمحض إرادته أن يعيش فيه؟ المسألة إشكاليّة ولا يقين فيها. أظن المكان الذي يختاره الإنسان ليعيش فيه سيكون أقرب إلى ملامح ”البلاد“ التي يريدها.

كلّ شاعر يبحث عن صوِته الخاص

تتميّز نصوص معتز قُطيْنة، بمباشريّة الفكرة وعُمق إشارتها، يُضمّنها الإحالات اللازمة لها، وتنفردُ لغته بجزالتها، فهو يُجيد إحكام قبضته على المفردات وصوْغها ضمن التركيب الجمليّ المناسب لها، يرى الشاعر أنّ كلّ شيء حوله قابل لشحن قصيدته بالصور الشعريّة، فيقول: كل ما يحيط بي في الحياة قابلٌ لأن يكون قطعة داخل النص، إلى جانب المصادر المعرفيّة بكل روافدها.

 يُشير الشاعر قُطَيْنة أنّه لا يتّبع منهجا محددا في الكتابة، فيقول: ليس ثمّة منهج معدّ مسبقا للكيفيّة التي أكتب بها، أحاول وأجرّب، أتعمّق في الفكرة التي أخوضها. أحاول، أيضا، ألا أكون محاصرا باللغة، أو محدودا في المساحة التي أجرّب كتابتها، انطلاقا من التراث العربيّ بكل ما فيه، واستنادا على المعارف الإنسانيّة العالميّة، وآمل أنّني أحقّق ذلك.

ومن الشعراء المؤثرين في تجربته، ذكر: فواز عيد، محمود درويش، محمد الماغوط، أدونيس.

لا يعزل الشاعر نفسه عن التحولات السياسيّة في المنطقة، ولهذا فهو يرى أنّ ما يحدث في العالم يؤثر بشكل مباشر وغير مباشر في الإبداع والأدب، وهو يرى أن : الأدلجة باصطلاحها العقائدي أصبحت مفضوحة في العالم العربي، وتتراجع عالميا على الرغم من تكرارها وعبثيّة نتائجها، ولولا أنها مستنكَرة لما شاهدنا حراكا إنسانيا يصر على رفضها. أما النص الهش، المعرّض للعبث الأيدلوجي فلا يمكن أن يُسمى شعرا.

يرى الشاعر في إشكاليّة الصراع بين القصيدة العموديّة والنثريّة، جدل عقيم وبائد، فيقول: نعيش في زمن لا صوتَ واحدا فيه، ولا يمكن أن نسجن الذائقة في شكل واحد، ليفعل كلٌ ما يريده، وليكتب أصحاب الوزن قصيدتهم وليكسر من يريد العمود، لا مشكلة في ذلك، الوقتُ ينتصر للنص الجميل ضد الضعيف والمترهل، يُضيف: يفترض بالحداثة – في الشعر وغيره – أن تكون مفهوما متجددا، قابلا للتطوير، أما الجمود المفاهيميّ والتطبيقي للحداثة فهو الذي يصنع كارثة في الأدب؛ هي أزمة ثبات في الفكر، وانعدام التجديد هو الذي يخلق الأزمة.

وعن الموسيقى في قصائده المتحررة من الوزن والتفعيلة، يعتبر الشاعر أنّ اللغة العربيّة إيقاعيّة بحدّ ذاتها، كل نصوصها – على اختلافها- متخمة بالإيقاع. لا يحدها شكلٌ -كما يوضّح – شكل النص لم يعد معضلة، ولا أستطيع الجزم بأن النص الذي أكتبه أصبح ذا مميزات يتفرّد بها عن غيره. كل شاعر يبحث عن صوته الخاص، لكن الاعتقاد بتحقيق هذا الهدف يعني أنني سأكتفي بهذا الامتياز وأكرّر ما أكتبه في فلكه، أريد ألا أبقى حبيس صوتي، وأن أكون قادرا على الركض في أراضٍ جديدة كل مرة أكتب فيها.

أمّا عن العلاقة مع المتلقي فهو ليس من أنصار  »هذا ما يريده الجمهور«، ويعتبر أنّ: الكتابة لأجل المتلقي كارثة : لي أن أكتب النص كيفما أراه، وله ذائقته عندما يكتمل النص. فالشعر –في رأيه- يفقد جماليته عندما يخلو من المعنى وتغيب عنه الفكرة، ويفقد الشعر ذاته عندما يضع رأي المتلقيّ نصب عينيه.

الجنسيّة سرديّة الفرد الفلسطينيّ

للشاعر معتز تجربة سرديّة واحدة بعنوان  »الجنسيّة« هي محاولة لنقل تجربة الشاعر الشخصيّة فيما خص انتماؤه لفلسطين الوطن، وأزمة الهوية للفرد الفلسطينيّ والذي يعيش في بلد آخر هو المنفى بالنسبة له، ويشاركه في قضيته الكثير، عن ثقل تجربته يقول: كتبتُ في ”الجنسية“، مشكلة الفرد الفلسطيني أنه محسوب على قضيّة يشاركه إياها ملايين، فلسطين أزمةٌ لأبنائها، قضيتُهم الجمعية أخلّت بمفهوم الفرد، صار الفلسطيني جزءا من كل، لا فردا مستقلا. لا أعرف إلى أي مدى يتفاوت هذا الثقل لدى الفلسطينيين أنفسهم، ولا بد أن جانبا منهم مستمتعٌ بهذا الثقل، وينظر إليه باعتباره قضية حياة، لكنني – كفرد – سبق وتورطت فيه، ولا أظن أن الخلاص من تبعاته أمر يسير.

في مقطعٍ من نصٍّ عن يوم الأرض، يقول:

 »فلسطين ليست قبرا،

فلا تعودوا لتُدفنوا فيها..

ولا تحتفوا بيوم الأرض إن كان دعوة إلى الموت«

الكتاب هو تجربة سرديّة على شكل مذكرات، لا يُصنّفها كاتبها ضمن خانة الرواية، فيقول: لا أملك ما يمكن تسميته تجربة روائيّة، كتبتُ عملا سرديا، وأعمل على نصوص أخرى. أفضّل أن أبقى في سياق الكتابة كعمليّة إبداعيّة أيا كان منتجها النهائيّ، لكن الشعر قطعا هو صوتي الأعلى.

رواشن للنشر مشروع طموح

أسّس مُعتز قُطيْنة دار رواشن للنشر في 19 سبتمبر 2018، استجابة للنقص الحاد في الدور المتخصصّة عربيا، وفي الشعر تحديدا –كما صرّح-، تركّز رواشن للنشر على إيجاد سوق حيويّة لكتب الشعر، وتهدف إلى التفاعل مع المتلقي عبر إحياء وجود الشعر وحضوره في المناشط الثقافيّة. أقام بشكل شخصي عددا من الأمسيات الشعرية وشارك في عدّة ملتقيات إعلاميّة وثقافيّة متحدثا ومشاركا.

فالدار كما يراها: رواشن للنشر مشروع أزعم أنه طموح، والدعم والتشجيع الذي يلقاه جماهيريا مفاجئ ومبهج. ما نسعى إليه في رواشن، هو إثبات أن الشِعر قادر على الحضور والتواجد، وأن له من يبحث عنه، ويسعى إليه.

أما عن معايير النشر الأساس للدواوين الشعريّة، وآلياته، يضع في المقام الأوّل: النص الجيد، مع المحافظة على ديمومة المشروع تجاريا، وهذا يتطلب موازنة بين الكم والكيف، وبحثا دؤوبا عن النص المختلف إلى جانب إمكانيّة تسويقه.

يتطلع الشاعر إلى الحراك الثقافيّ في العالم العربيّ على أنّه: جيّد، أطمع في المزيد والأكثر، ستتحسّن حياة العرب إذا شغلوا أنفسهم بالإبداع والفن. وعن مشاركته في هذا الجانب: مشاركتي في هذا الجانب تقيّدها قدراتي الفرديّة، ولم يسبق أن زرت لبنان قبلا أو شاركت في مناشطه.

 »لم تحصل المبدعات – العربيات تحديدا – على فرصة توازي فرص الرجل«

في سؤال عن مدى اعتقاده بأنّ القيمة الأدبيّة من حيث جودة الأثر، مرتبطة بالنوع الاجتماعي (امرأة/ رجل)، بالنسبة لاختيار الموضوعات ونقل التجربة الإنسانيّة، يأسف الشاعر مُعتز قُطيْنة لأنّ السياقات الاجتماعيّة والتاريخيّة والأنظمة السياسيّة منحت الرجل أفضليّة وفرصة أكبر للاطلاع والتعلّم والممارسة، ونتيجة لذلك، أصبحت تجربة الرجل أعمق وأكثر تطورا، وهذا ليس تقليلا من قيمة الإبداع النسائي، ولا يسيء إليه، ثمة نتيجة واقعة ينبغي النظر إليها بعدالة: لم تحصل المبدعات – العربيات تحديدا – على فرصة توازي فرص الرجل، قد يتأخر ظهور الحيز الذي يتساوى فيه الطرفان، لكنها مسألة وقت، خصوصا مع انفتاح العالم على ثقافاته، وصعود صوت الحقوق النسائية، لا بد أن تصل التجربتان يوما إلى نقطة تعادل، ستنتجها ثقة الرجل المفرطة بأدائه واعتقاده بأفضليته، وبالتالي تكاسله عن تحديث أدواته، نظير مثابرة المرأة وجهدها في تأكيد قدراتها الإبداعية.

لا يتحيّز الشاعر لتجارب الرجال أمثاله في الشعر، بل هو يقرأ التجربة الجميلة كما يقول، فيرى أنّه هناك الكثير من التجارب العربيّة الجميلة، ومنها: علية عبدالسلام، روان طلال، كاتيا راسم، آلاء حسانين، أسماء الرواشدة، العنود الروضان، نسرين خوري، والقراءة تتسع للكثير من التجارب.

الرجال يقهرهم الحُب

في نصّ يحمل موضوعة  »قهر الرجال« يتحدث عن خصوصيّة التجربة الشعوريّة والجسديّة للرجل، بأسلوبٍ مباشر، وواضح على غير عادة الرجال في الإفصاح عن علاقتهم مع مخاوفهم يقول:

الرِجال يقهرهم الحُب،

يقهرهم رجالٌ مثلهم،

يقهرهم الوقت وهو يسخر منهم بسبّابته،

تقهرهم التجاعيد وهي تخطُّ حول أعينهم فرشاتها،

تقهرهم كروشهم في السرير، وفي المقاسات المحيّرة لقمصانهم،

يقهرهم الفراغ إذ لا يجدون حيلة للفساد،

ويقهرهم بياض أفئدتهم ولو اسودّت رؤوسهم

وتقهرهم المحافظ الجلدية الخاوية والأرصدةُ التي يعرفون فواصلها العشرية،

تقهرهم امرأة،

ولنعد إلى أول الخلق، كم كان آدمُ قويا؟!

يعبّر هذا النص عن تفاصيل وخصوصيّة جسديّة وشعوريّة، عادة ما يأنف الرجال التعبير عنها شعرا، ويعتقد  »معتز قطيْنة« أنّ الشاعر الرجل لا يعبّر عن تفاصيله الخاصة، ويوضّح ذلك : ربما يختلفون في الطرح والتفاصيل التي يفضّلون الحديث عنها. لكننا لن نتجاوز أنّ الرجل العربيّ لا يستطيع بسهولة الإفصاح عن هشاشته وضعفه، حتى وإن أراد ذلك.

ختاما، نصٍ من كتاب ”كان غريبا أنني صدّقت“:

أخافُ أن يخذلني الأمل،

وتهرب من تأفُّفِك الجوارح،

ثم تطير الآلام عن كتفي ولا تعود،

محمولا على المجاديف ولدتُ،

يضمني كتفك الأيسر، تطعمني كفك اليمنى،

يجمعني بطنكِ إلى الخواء،

يربطني شعركِ إلى العالم،

فأزعم أنني متوثبٌ للطيران..

وثمة ما يجعلني واثقا بك:

أنك اخترتِ، رغم كل الشوك، قلبي عشا،

وها هو ذا، ينزع أغلاله شوكة شوكة، فَتُدميه.. !

 

العدد 97 – تشرين 2019