الشعائر الحسينية في مصر الإرث الفاطمي والخصوصية الحضارية المصرية

سناء بزيع

ليس من السهل الخروج على ما هو مشهور تاريخيا ومحاولة إبراز جوانب خفية أو متنحية من تراث وتاريخ أي شعب، وخاصة الشعوب التي تمتلك عمقا حضاريا ضاربا في القدم كالشعب المصري..

 قد يبدو وجود شعائر حسينية في مصر غريبا عن المألوف والمعروف، فالجميع يدرك أن هناك تراثا شيعيا في مصر بدأ مع الفاطميين لكنه كذلك انتهى معهم.. بل يحاول بعض الباحثين التاريخيين الزعم بأن قرنين من حكم الفاطميين لم يشهدا أي أثر يذكر لدى المصريين إلا الأعياد والاحتفالات التي استمرت ولم يكن من بينها شعائر الحزن على الإمام الحسين في عاشوراء.. هذا هو المشهور، لكن بعض الباحثين لا يقبلون به ويؤكدون أنه مشهور إعلامي وليس تاريخي على الإطلاق، بل يؤكد الباحث أحمد صبري السيد علي أن شعائر الحزن على الإمام الحسين

الشعائر الحسينية في مصر

كانت تقام في مصر حتى الحرب العالمية الأولى….

 لنأخذ التاريخ من بداياته.. هل بدأت شعائر الحزن على الإمام الحسين في عاشوراء مع الفاطميين ؟

 هذا التصور خاطئ جدا وللأسف منتشر حتى بين الباحثين التاريخيين الذين ينطلقون في تبنيهم لهذا التصور من خلفية طائفية، فمصر كانت متنوعة من الناحية المذهبية قبل الفاطميين وتواجد بها عدد كبير من الشيعة، وهؤلاء كانوا حريصين على الاحتفال بذكرى استشهاد الإمام الحسين (رض) حتى ولو أدى إلى تعرضهم للأذى كما حدث في سنة 353 هجرية، بل أن المؤرخ المصري ابن زولاق يؤكد أن مصر حتى وفاة الإمام جعفر بن محمد الصادق كانت دار تشيع، ويذكر كذلك عدد من العائلات والشخصيات المصرية الشيعية كبنو أسباط وبنو لهيعة، وعقب سقوط الفاطميين استمر الشيعة في مصر وكانوا يشكلون كثافة سكانية في بعض مدن الصعيد كإسنا وأسوان وأسفون وأرمنت.

 لننتقل لمصر الحديثة، هل شهدت احتفالات عاشورائية كالتي يقيمها الشيعة الآن ؟

 نعم، لقد أقام محمد علي باشا مصر الحديثة على أسس علمانية وكان يطمح، وكذلك أبنائه، لاستقلالها عن الدولة العثمانية ولذلك سعى لإقامة علاقات سياسية وتجارية قوية مع كافة الدول بغض النظر عن توجهها الديني وهو ما سمح للشيعة الإيرانيين لاحقا بالإقامة في مصر وممارسة الشعائر الحسينية دون مشاكل.

 متى بدأت الجالية الإيرانية في إقامة شعائر عاشوراء بمصر ؟ وما هي مظاهرها ؟

 من غير المعروف متى بدأت الجالية الإيرانية في إقامة الشعائر الحسينية بمصر، ولكن من المؤكد أنها بدأت في عهد سعيد باشا حفيد محمد علي، وشهدت كثافة كبيرة في عدد المشاركين بها في عهد الخديو إسماعيل، وهناك نص مهم لعلي باشا مبارك في كتابه الخطط التوفيقية حول مظاهر عاشوراء في مصر، يقول:  »والأعاجم القاطنون بالقاهرة يفضلون السكن بالقرب من المشهد الحسيني عن غيرها ويتظاهرون في مولده بالزينة الفاخرة والولائم العظيمة ويحزنون عليه حزنهم المشهور وهو من ابتداء المحرم من كل سنة يجتمعون في منزل يتخذونه لذلك ويكسونه من الداخل بالكشمير والأقمشة المفتخرة ويفرشونه بالبسط والسجاجيد ويوقدونه وقدات فائقة ويدعون من أرادوا من اصحابهم وأحبابهم وبعد الأكل يقوم منهم خطيب يصعد فوق منبر صغير ويخطب خطبة بالفارسية تتضمن رثاء أهل البيت ويترنم فيها بالنوح والتعديد وإظهار الحزن والأسف والكآبة ويبكي ويبكي الحاضرين وبعد فراغه يشربون الشاي وينصرفون وهكذا يفعل في الليلة الثانية والثالثة إلى ليلة عاشوراء فيتوسعون في الوليمة ويكثرون من دعوة الامراء والأعيان ثم بعد الساعة الثانية من الليل يتهيئون في صورة موكب يحضره كبيرهم وصغيرهم ويصطفون صفوفا وبأيديهم السيوف وبين صفوفهم شاب على حصان ملبسه كملبسهم البياض فمتى أنتظموا مشوا نحو المشهد الحسيني وهم يصيحون ويقولون حسن حسين ويبكون بحزن ويضربون جباههم وصدورهم بما في ايديهم من السلاح والدم يسيل على ملابسهم ومتى كانوا عند المشهد وقفوا برهة ثم يعودون إلى المنزل من طريق أخرى على الصورة التي ذكرناها«.

 ويذكر المستشرق ماكفرسون في كتابه  »الموالد في مصر« أن الشيعة الإيرانيين قد سمح لهم بإقامة حسينية في القاهرة، أو كما سماها هو  »تكية فارسية« لممارسة هذه الشعائر، وقد أشار الشيخ محمد رشيد رضا إلى هذه التكية، في أحد مقالاته بمجلة المنار، حيث ذكر أنها أقيمت في حي الحمزاوي بالأزهر وأنه قبل دعوة القائمين عليها لحضور المأتم عدة مرات.

 ماذا عن موقف الجماهير المصرية السنية في غالبيتها من إقامة هذه الشعائر؟ هل نشأت أي حساسيات مذهبية بسببها ؟!

 المستشرق ماكفرسون يجيب عن هذا السؤال بمنتهى الإعجاب بالرقي الحضاري للمصريين، يقول:  »فإذا وضع في الاعتبار كيف كانت العداوة بين  »السنة« و »الشيعة«، في أجزاء كثيرة من عالم الإسلام، وأن الأغلبية العظمى من القاهريين  »سنيون«، فان تقديرا كبيرا  واحد

مجسد الامام الحسين في القاهرة

من كثير  يستحق للتسامح المصري، في اتحاد السنة والشيعة في رابطة واحدة في المسجد، وأن لا شيء يرى في الموكب سوى التعاطف والمشاركة الوجدانية«.

 ويبدو مما ذكره علي باشا مبارك وماكفرسون أن الجماهير المصرية كانت تشارك في هذا الاحتفال الذي أطلقت عليه  »زفة العجم« في إشارة واضحة إلى مدى الاهتمام الذي كان يلقاه الحدث وكثافة المتابعين له.

 لماذا توقف هذا الاحتفال إذا لم تكن هناك حساسيات مذهبية ؟

 لا يوجد أسباب واضحة لكن يبدو أن نشوب الحرب العالمية الأولى أدى لتراجع أعداد الجالية الإيرانية في مصر وهو ما تسبب تدريجيا في اختفائه، لكن بعض المعمرين يذكر أن الإيرانيين عادوا لإقامته عقب الحرب لكنه لم يحظ بنفس الاهتمام السابق وأقيم في حدود ضيقة بالرغم من أن بعض المصريين خاصة من طبقة التجار تأثر بهذه الممارسات لمرحلة اعتناق التشيع كمذهب، وقد أشار الكاتب الراحل نجيب محفوظ إلى هذه الحالة في ثلاثيته الشهيرة حول شخصية سيد أحمد عبد الجواد.

 لماذا لم يتم إحيائه في فترة النسب الملكي بين البيتين المصري والإيراني ؟

 لا يوجد تفسير واضح للأسف، لكن من المحتمل أن يكون الاستفزاز الذي شكله هذا النسب للتيارات الدينية التي برزت في بدايات القرن العشرين بدعم من السعودية دور في الإحجام عن إحيائه، خاصة أن هذه التيارات تبنت تفسيرات متشددة تجاه الآخر عموما.. كان النسب المصري الإيراني جزء من مشروع تبناه علي ماهر باشا، لتشكيل رابطة مصاهرة بين البيت الملكي المصري والبيوتات الملكية في العراق والأردن وإيران وبالتأكيد كان هذا التحالف ضد مشروع هذه التيارات التي سعت لإيجاد تحالف بين البيتين المصري والسعودي.

 هل يوجد أي نوع من الاحتفال بعاشوراء في الوقت الحاضر ؟

 حاليا لا يوجد بكل تأكيد بسبب رفض المؤسسات الدينية في مصر لهذه الاحتفالات، بالإضافة لخشية الأجهزة الأمنية من حدوث أي صدامات بين الشيعة والتيارات السلفية المتشددة، وإن كان الشيعة العرب وغيرهم يقيمون بعض هذه المراسم على نطاق ضيق جدا حرصا على عدم

مقام الامام الحسين داخل المجسد

استفزاز السلفيين.

 

 

 

 

 

 

العدد 97 – تشرين 2019