نافذة على الحياة.. ما ضرَّ بالشعبِ إلا

سهير آل إبراهيم

دارت على مواقع التواصل الإجتماعي قبل فترة حكاية بيت شعر نُظم بصيغة سؤال، يقال أنه للشاعر ابراهيم الغزي الذي توفي قبل ما يقارب الألف عام. يقول فيه:

ما لي أرى الشمع يبكي في مواقده

من حرقة النار أم من فرقة العسلِ؟

تذكر الحكاية أن الرد على ذلك التساؤل جاء بعد مئات من السنين، حيث كتب الشاعر السوري صالح طه:

مَن لم تُجانسه فاحذر أن تُجالسه

ما ضرَّ بالشمع إلا صُحبة الفِتلِ.

و يقصد بذلك أن سبب بكاء الشمع هو الفتيل الذي يحترق بداخله فيذيبه ويقضي عليه.

تلك حكاية تثير التفكير والتأمل، وقد ينطبق مضمونها المجازي على حالات كثيرة من واقعنا المعاش. من الناحية العملية فإن احتراق الفتيل يجعل الشمعة مصدر نور وضياء، وذلك امر إيجابي نافع، ولكن وصف ذوبان الشمع بالبكاء يعطي الحكاية بعداً مجازياً آخر. عندما قرأ أخي الحكاية بدا له أن الشمع الباكي هو الشعب وان الفتيل المحترق أشبه بالطائفية التي جلبت له الكثير من المحن والويلات، والتي أسالت الدموع والدماء أنهارا.

الطائفية وليدة البغض والكراهية، وسبب احتراق الكثير من أواصر المحبة والسلام بين البعض من مجاميع البشر التي تنتمي الى طوائف مختلفة. الطائفية نبتة شيطانية تُروى بالكره وتنتعش في بيئة يسودها الإنغلاق الفكري ويغيب منها الوعي والتفكير المنطقي السليم.

يعرف المعجم الطائفة على انها جماعة من الناس يجمعهم رأي أو مذهب يمتازون به. ولا ضرر أو سوء في ذلك، فالحياة يزينها التنوع والإختلاف. إلا إنَّ الطائفية بمفهومها الدارج بيننا الآن أمر مختلف تماما، حيث تشير الى الصراع والتناحر بين أبناء طوائف زُرع بينها العداء والضغينة، ورسم لتلك الطوائف أن تقتتل وأن تقضي على بعضها البعض. الطائفية برأيي هي السلاح الأشد فتكاً، فهي تمزق النسيج الاجتماعي للبلد الذي تحل فيه، وإصلاح ذلك، بلا شك، أصعب من إصلاح البنى التحتية التي تدمرها الأسلحة الميكانيكية الاخرى، مهما كانت درجة تطورها وشدة فتكها.

يعرف المفكر الفرنسي، السوري الأصل، برهان غليون الطائفية على انها  »الاستخدام السياسي للدين«، وانها  »التعبير السياسي عن المجتمع العصبوي الذي يعاني من نقص الاندماج الذاتي والانصهار، حيث تعيش الجماعات المختلفة بجوار بعضها البعض لكنها تظل ضعيفة التبادل والتواصل فيما بينها«.

من خلال متابعة الأحداث التاريخية بشكل عام، وما مرت وتمر به بلادنا بالتحديد، نجد ان الطائفية هي آلية تعتمدها بعض الأنظمة الحاكمة للتميز بين ابناء المجتمع على أساس الهوية الدينية، لغرض السيطرة على المجتمع حيث تخدمها الانقسامات بين طوائفه المختلفة وتفرقها، ولذلك تغيب العدالة في المجتمعات التي تسودها القيم الطائفية ولا يتساوى فيها الأفراد أمام القانون، كما تختلف فيها وظيفة الدولة عن المفهوم الأساسي المفترض لها من حيث كونها كيانا حياديا يعمل على خدمة وتنظيم المجتمع وضبط الخلافات وحل النزاعات بين الأفراد على أساس هوية المواطنة التي تربط أفراد المجتمع فيما بينهم من جانب، وتربطهم جميعهم بالدولة من جانب اخر. الأنظمة الحاكمة التي تتبنى الفكر الطائفي هي أنظمة منحازة وهذا الإنحياز يلقي بظلاله على جميع مؤسسات الدولة وعلى المجتمع بشكل عام فيتحول بالنتيجة الى مجتمع طائفي تسوده الفرقة والخلافات، ويشعر فيه الأفراد الذي لا يماثلون الطبقة الحاكمة في الاتجاهات الدينية والمذهبية بالظلم والقهر، وذلك غالبا ما يزعزع روح المواطنة لديهم، اذ كيف يمكن اعتبار البقعة الجغرافية التي يشعر فيها الانسان بالظلم والحيف وطنا، وكيف يشعر الإنسان بالأمان على أرض تغيب فيها مفاهيم العدالة والمساواة بين الأفراد! الوطن هو المكان الذي تُحفظ فيه كرامة الإنسان وتُصان فيه إنسانيته، حيث يعيش عزيزا كريما لا تُغتصب حقوقه ولا تُمتهن إنسانيته ولا يوضع في موضع أدنى مما يستحق بسبب لون بشرته او بسبب انتمائه العرقي او العقائدي.

الطائفية هي الوجه الآخر للعنصرية، وفي الوقت الذي أصبح فيه السلوك العنصري جريمة يحاسب عليها القانون في الدول المتحضرة، نجد الطائفية تتغلغل وتتشعب في مجتمعاتنا، إذ لم تعد منهجا فرديا محدودا، وإنما هي الآن ظاهرة تعمل بالتدريج على زعزعة كيان المجتمع وإذابة أواصر المحبة والسلام بين أفراده كما تذيب نار الفتيل الشمع وتصهره.

يؤكد المفكر العربي عزمي بشارة في كتابه الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة، إن الطائفية ليست من إنتاج الطائفة، بل هي نتيجة عجز الدولة وفشلها في دمج الطوائف الاجتماعية المختلفة ضمن هوية المواطنة، واستثمارها للهوية الطائفية في الصراع على السلطة. ويبين بشارة ان من اهم مميزات الطائفية نشر ثقافة المظلومية في كل الطوائف بما فيها الطائفة التي تدار الدولة بإسمها، ويؤكد أن جميع الطوائف في المجتمعات التي ابتليت بالطائفية هي طوائف مظلومة، ولجميعها تاريخ من الظلم والقهر، ولجميعها ذاكرة قتل النساء والأطفال وهتك الأعراض والمذابح، الجميع برأي بشارة مظلوم على أرض الطائفية.

يُرينا الواقع أن لا وجود للتقدم الحضاري في ظل الطائفية، لا إمكانية للبناء في ظل الهدم. يؤكد الباحث والأكاديمي الأميركي الدكتور روبرت رايلي على إن منح الأولوية للعقل شرط أساسي للتقدم الحضاري ونجاح الديمقراطية، إذ لا ديمقراطية بدون عقلانية، بدون العقل لا يمكن بناء حكومة دستورية ولا مؤسسات علمية. الحال الذي آلت اليه المجتمعات التي مزقتها الطائفية تجعلنا نظن، أو ربما نتيقن، أنّ القضاء على الطائفية وعلاج ما أحدثته من علل في تلك الكيانات الإجتماعية هو أمر مستعصٍ، وقد يراه البعض مستحيلاً، وهو للأسف كذلك؛ أمر صعب وعسير لكنه ليس مستحيلاً. كلما تعمق تغلغل الطائفية في المجتمع كلما زادت صعوبة القضاء عليها، فقد يستغرق الأمر وقتاً طويلا، بلا شك، ربما نحتاج الى زوال أجيال كاملة نشأت على تعطيل دور العقل وعلى اجترار الأفكار الجاهزة، وظهور أجيال جديدة تُدرب منذ الطفولة على التفكير الحر بعيدا عن الخوف الذي هو أداة القمع الأقدم، أجيال تنشأ وتكبر وينشأ ويكبر معها الوعي الذي تحتضنه عقول تُوظف لما أريد لها من دور في تطوير الإنسان وتهذيب فطرته والإرتقاء به الى المكانة السامية التي يجب أن يحتلها بين بقية المخلوقات.

العدد 97 – تشرين 2019