سمير السعداوي الذي هوى

رؤوف قبيسي:

 بغياب الصحافي سمير السعداوي، يسقط غصن من شجرة الأحبة، وتخمد شمعة من تلك الشموع التي كانت تزين حياتنا المهنية في لندن وبيروت. رحل سمير السعداوي مسرعا ولم يبلغ بعد عتبة الستين. ترك وفي نفسه لوعة وحسرة وهموم، وشيء من عتاب حتى على أقرب المقربين منه! في  »الحياة« اللندنية أمضى عشر سنوات، وعندما توقفت عن الصدور، سافر إلى لبنان وعمل فيها سنوات طويلة، وبعد توقفها سافر إلى دبي، وعمل في مكاتبها، وكانت هذه آخر محطة له معها. مشواره مع  »الحياة« لم ينته على خير، وبقيت في نفسه حسرة على دار أعطاها الكثير من جهده وتعبه.

 قبل عام تقريبا، عاد سمير إلى لندن ليعيش غربته الثانية، مسؤولا في قسم الأخبار الدولية في صحيفة  »الشرق الأوسط«. عاد وحيدا، وبقيت أتواصل معه على الهاتف من مكان إقامتي الجديد في بروكسل، وعندما زرت لندن قبل ثلاثة أشهر تقريبا اجتمعنا، وحدثني عن الصعوبات المالية التي كان يواجهها. لم يكن راتبه يكفي لتأمين حياة سهلة له وللعائلة، ولم يكن مرتاحا في غرفة صغيرة، بعيدا عن زوجته وولديه الصغيرين. بقي باله مشغولا حتى عندما قدمت العائلة إلى لندن. كان همه أن يؤمن لهم السكن المناسب، والأثاث والسيارة والمدارس والمصروفات العامة، متطلبات أنهكته، ولا أبالغ إذا قلت إنها عجلت برحيله.

سمير السعداوي

في  »الحياة« اللندنية، في تسعينات القرن الماضي تزاملنا معا. كانت بيننا صداقة عمرتها الأيام، هي جزء غال من حياته وحياتي، وحياة الزملاء الذين عملوا معنا في تلك الصحيفة. الحق أنني أجد صعوبة في الكتابة عن سمير وفي رثائه. كان سمير في تلك السنين عازبا، فكانت سهراتنا تمتد إلى بعد منتصف الليل. لطالما سهرنا معا كشابين تائهين يبحثان عن المتاعب ولو بثمن. كان محباَ للحياة، ودودا ظريفا وصاحب نكتة. وكان كلما اتصل بي يبادرني بتلك الجملة الأثيرة:  »أين أنت يا أخي«.

أريد هنا أن أفصح عن شيء خاص جدا في علاقتي مع هذا الصديق الراحل، شيء أشبه باللغز. في الشهر الأخير من حياته لم يتصل بي بخلاف عادته، وفي إحدى المرات، وكانت الأخيرة التي سمعت فيها صوته، عاتبته على التأخر في عدم الرد على اتصالي، فاعتذر قائلا إنه كان مشغولا في تأمين مستلزمات العيش لعائلته. لم أرض بالعذر، وبقيت أقول بيني وبين نفسي لا بد أن هناك سببا آخر. سبب لم اعرف كنهه إلا حين بلغني نبأ رحيله. تعمد أن يخفي علي مرضه، ودخوله المستشفى. قد يكون أنه لم يرد أن يطل علي بمظهر ما عهدته فيه، مؤثرا أن تبقى صورته في ذاكرتي، صورة ذلك الوجه الودود دوما. هل أريد الآن وأنا أترحم عليه، أن ألومه على ذلك التكتم، وعلى كتمان سر مرضه الحقيقي؟ كنت سألومه قطعا لو بقي حيا، لكن ما فات قد فات، ولو كنت من الذين يخاطبون الأرواح لعاتبته عبر هذه السطور التي أدونها الآن، لكن ما حيلتي وأنا شكاك بوجود عالم يقول المتصوفون إن الأرواح تسبح في فضائه.

 بعد أن بلغني نبأ رحيله الذي لم أصدق، خطرت لي فكرة الاتصال برقم هاتفه المحمول، متوقعا أن يرد علي أحد يجلو لي حقيقة ما سمعت، وإذا صوت يجهش بالبكاء، هو صوت زوجته هنادي. عرفت المسكينة من أنا، وأخذت تحدثني بصوت متقطع أسيف بما كان سمير يقوله لها عني، وما كان بيننا من محبة. كانت تقول لي ذلك كله وهي تبكي. شعرت في لحظة من اللحظات بأن علي أنهي المكالمة، لشعوري بأن دموع عينيها ستدر دمعة من عيني. سألتها كيف كان وقع الحدث على بنيها، (زهير 11 سنة، ومالك 8 سنوات) فقالت لي إنها لم تخبرهما بالوفاة، وأنها ستفعل ذلك بعد نقل الجثمان إلى بيروت. أخبرتني أيضا عن اللحظات الأخيرة من حياة سمير وهو على سرير المرض، وكيف قام من سباته العميق لثوان، وأسلم الروح على وقع سماعه آية من سورة يس.

كان سمير السعداوي الابن الوحيد لوالديه. والده زهير السعداوي كان إعلاميا، تولى في عامي 1972 و1973 رئاسة الوكالة الوطنية للإعلام اللبنانية. كان معروفا بلقب الحاج زهير، وكان أنيق الملبس حلو الحديث، وصديق الندامى الدائمين في مقاهي بيروت أيام عزها، خصوصاُ  »الدولتشه فيتا« في منطقة الروشة. لا أذكر أنني قابلت الحاج زهير في لبنان، لكني تعرفت إليه في لندن في ثمانينات القرن الماضي حين وفد إليها هارباَ من الحرب الأهلية. كنت ألتقيه في مكتب الصديق العزيز مصطفى الجندي بالقرب من ميدان البيكاديللي، وفي مكاتب مجلة  »الصياد« التي كانت هي الأخرى قد انتقلت إلى لندن، هربا من حرب الجنون التي لم ترحم الحجر والبشر، وكان يدير  »الصياد« ذلك الوقت، الأصدقاء الثلاثة: سمير عطالله وريمون عطالله وسليمان الفرزلي. لا شك أن الحاج زهير قد أوقد في نفس سميره، جذوة التعلق بمهنة المتاعب، وأورثه حب الحياة، وروح الدعابة والنكتة، وذلك الظرف النادر الذي جعل من الأب وابنه شخصين مميزين في الخلق والسلوك. كنت أحب في سمير ثقافته المدنية، وسمة الاعتدال في الرأي والموقف، والنأي عن التحزب والموالاة لأنظمة تحكم شعوبها بأسلحة الأرض وأسلحة السماء، وكانت هذه السمات جلية واضحة في كتاباته.

ولد سمير السعداوي في بيروت من أم لبنانية، وأب ينتمي لعائلة ليبية عريقة كان لها دور بارز في حركة النضال القومي في ليبيا. جده المناضل نوري السعداوي، شقيق المناضل الليبي الكبير بشير السعداوي، الذي أسس حزب المؤتمر الوطني في النصف الأول من القرن الماضي، والذي شهدت له البلاد وقفات كبيرة في مسيرة توحيدها، وفي مسيرة استقلالها عام 1951، لكن ليبيا الملكية السنوسية نفت بشير السعداوي بعد مرورعام على الاستقلال، فرحل إلى المملكة العربية السعودية، وعمل فيها مستشارا لمؤسسها الملك عبد العزيز، وبقي في المنفى إلى حين وافته المنية في بيروت عام 1957.

كان لسمير أصدقاء كثيرون في لبنان والخليج، ولا شك في أن الجميع سوف يفتقدونه صحافيا قديرا، ونديما ظريفا، واخا حبيبا. أما بالنسبة إلي سيبقى سمير مثل أخ لي لم تلده أمي، ولا غرابة في ذلك، فقد كان صديقا لعائلتي، مثلما كان والده الحاج زهير من قبل، صديقا لعائلتي أيضا. كثيرة هي المرات التي عبرت فيها الشارع الذي كانت فيه مكاتب  »الحياة« في لندن، وفي كل مرة، كنت أرنو إلى المكان الذي أمضيت فيه عشر سنوات من عمري، متذكرا زملاء عملت معهم، ومنهم من صاروا في ما بعد اصدقاء لي مقربين، أراهم بين حين وآخر في لندن، وفي بيروت، ومنهم الراحل سمير.

في  »الحياة« كان سمير الوحيد من بين الزملاء الذي كنت ألتقيه أكثر من غيره خارج المكتب وفي الليالي. مكانته كانت خاصة في قلبي، بل خاصة جدا، ويحزنني كثيرا فراقه، كحزنه وحزننا جميعا من قبل، على توقف صحيفة عريقة مثل  »الحياة« اللندنية، كانت مرآة العرب أمام النخب الأوروبية والأميركية، وتجربة صحفية ذات تأثيرغير مسبوق في النخب العربية على امتداد العالم العربي. أعرف أنني لن أرى سميرا بعد اليوم، لكن يؤنسني كضرب من الحيلة والعزاء، أن أستعير من كتاب  »النبي« لجبران، كلمات المصطفى وهو يخاطب البحر، منتهى الجدول ومصبه الأخير، في صورة تعكس مسيرة الروح وهي تغيب عند منعطف محدد، لتعود وتتجدد في حركة دورانها الأثيري:  »وأنت أيها البحر الشاسع. يا أيتها الأم الهاجعة، فيك وحدك السلام والحرية للجدول وللنهر. سيدور هذا الجدول دورة بعد. سيهمس بعد همسة في هذه الغاب، وبعدها سآتيك قطرة لا تحد، إلى محيط لا يحد«.

العدد 97 – تشرين 2019