نغرق في تفاصيل أزماتنا ونستدعي شياطينها-مصير لبنان رهن نتائج حوار بالتزامن بين واشنطن وطهران

بيروت – غسان الحبال

اذا كان الشيطان يكمن في التفاصيل، فإن اللبنانيين استدعوا مؤخرا عشرات الشياطين عبر خوضهم في الكثير من التفاصيل الشائكة والخلافية حول وطنهم وتوجهاتهم في بحر هائج مائج من الصراعات الدولية والإقليمية، ما وضع لبنان في عنق زجاثجة راح يضغط بقوة على أنفاسه وشرايينه الحيوية.

وإذا كان السفير الروسي في لبنان ألكسندر زاسبكين قد أعرب عن تفاؤله حين أعلن أن  »لا معطيات موضوعية تؤشر إلى اشتعال الحرب موسعة بين لبنان وإسرائيل«، ملمّحاً إلى وجود اتصالات تقودها روسيا مع الأطراف المعنية لمنع أي تصعيد بين  »حزب الله« واسرائيل، فإن

سقوط الدرون في الضاحية: مدخل للحل او لإثارة موضوع الصواريخ الدقيقة

ذلك لا يعني خروج لبنان من دائرة المخاطر المحدقة به من كل جانب، والتي تفتعلها قواه السياسية على الصعيدين المحلي والإقليمي، نتيجة التناقضات وطموحات الاستئثار بالسلطة والنفوذ، ولو على حساب مصير الوطن.

وربما، من هذه الخلفية، شدّد زاسبكين على  »أهمية أن تكون الجهود مشتركة بين جميع الأطراف لوقف التصعيد«، وعلى الرغم من أنه أثنى على  »وحدة الموقف اللبناني في مقاربة ما حصل«، بين  »حزب الله« واسرائيل من تداعيات في أعقاب سقوط الطائرتين المسيرتين في الضاحية الجنوبية، مشيرا إلى أنه أوجد  »قواسم مشتركة عنوانها رفض الحرب بين إسرائيل ولبنان«. فإنه لفت أيضا إلى  »الخلافات الدولية حول مسائل إقليمية«، مما يعني أن عدم تحييد اللبنانيين أنفسهم عن مفاعيل هذه الخلافات قد ينعكس سلبا على أوضاعهم الداخلية.

وهنا اعتبر زاسبكين أنّه  »لا يجوز المسّ بصلاحيات القوات الدولية  »اليونيفيل« العاملة في جنوب لبنان وإنما الابقاء عليها كما وردت في القرار 1701 (اتّخذه مجلس الامن الدولي اثر حرب تموز 2006)«، مشيراً إلى أنّ  »أي تغيير في مهامها وصلاحيتها سيؤدي إلى تداعيات خطيرة ستؤثّر على الاستقرار في المنطقة«.

الوقت يضيق امام الاستحقاقات

وإذا أردنا أن نترجم كلام السفير الروسي على صعيد التطورات الميدانية لبنانيا، يمكن القول أن الوقت قد ضاق جدا على لبنان فيما الاستحقاقات الحتمية أصبحت على الابواب، وإذا وضعنا الاستحقاق الاقتصادي جانبا كونه مرتبطا بالإصلاحات السياسية، يمكن القول أن الاستحقاقات السياسية بكل فروعها المتعلقة بالإصلاحات المطلوبة لمكافحة الفساد، وتلك المتعلقة بالسلاح، وترسيم الحدود، وتوفير الأمن في منطقة الترسيم والتنقيب عن النفط، كل هذه الاستحقاقات أصبحت داهمة، الأمر الذي يفترض حكما الحديث حول سلاح  »حزب الله«، الذي يعتبر أمر نزعه بالمطلق غير مطروح وفق ما كان الأمر سابقا، أما المطروح حاليا، دوليا وإسرائيليا، فهو البحث في الصواريخ الدقيقة وبعض الأسلحة النوعية. وهذا بحدّ ذاته تطور لا يمكن إغفاله، خصوصاً إذا استرجعنا كلام أمين عام  »حزب الله« السيد حسن نصر الله، عن أن الأميركيين

الصواريخ الدقيقة: استيراد ام تصنيع؟

يريدون التفاوض مع الحزب والأوروبيين يريدون التنسيق معه، فضلا عن وجهة نظر يتحدث بها سياسيون من أنصار  »حزب الله« حول  »حماس أوروبي للتنسيق مع الحزب والتفاهم معه على جملة ملفات وسط قناعة أوروبية ملخصها أن حزب الله قوة بشرية واجتماعية لبنانية عصية على الإلغاء أو التجاوز، هذا قبل الحديث عن قوته العسكرية«.

ويعلم أصحاب وجهة النظر هذه أن  »حزب الله« هو القادر على ضمان تنفيذ اتفاقات عديدة، ولا يمكن إبرام أي اتفاقات لها علاقة بمستقبل المنطقة، من دون التوافق مع إيران وحلفائها الموضعيين في كل دولة من دول الشرق الأوسط، ولذلك يشتد الضغط على لبنان في هذه المرحلة، متخذاً أشكالاً متعددة، اقتصادية ومالية ووعسكرية، إن عبر تنفيذ بعض الضربات في سوريا أو عبر العقوبات، كما حصل ويحصل.

ضغط الصواريخ الدقيقة

في المقابل يرى معظم اللبنانيين أن مكمن الخطر حالياً هو تحويل لبنان مجدداً إلى ساحة نزاع على مناطق النفوذ بالمعنى العسكري الاستراتيجي وليس الجغرافي، أي عبر نوعية الأسلحة التي يمتلكها الحزب ومداها، والتي ترفض أميركا وإسرائيل حيازته لها، ومن هنا تأتي الحملات الاعلامية الإسرائيلية/الاميركية عبر إثارة موضوع الصواريخ الدقيقة، والتي تعتبر أن الحزب أصبح يمتلك مصانع لتصنيعها، كالمصنع المزعوم في النبي شيت (البقاع).

وترتبط الحملات الإسرائيلية/الأميركية الضاغطة على لبنان بملفات عديدة تفرض على الدولة اللبنانية و »حزب الله« الاستجابة لشروطها، من دون إغفال قناعة أن  »حزب الله« هو الطرف القادر على إبرام التسويات والتفاهمات مع الدول والالتزام بها، وذلك استنادا لكلام أمينه العام بـ »أن قوة الحزب لمنع الحرب وليس لشنها«، الأمر الذي يرتب على الحزب تدبير تفاهمات تثبّت الاستقرار باتفاقات واقعية تلبّي مصالح مختلف الأطراف، في وقت كان رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه برّي يعلن صراحة أن  »لبنان في عين العاصفة، وهناك حرب حقيقية تمارس ضده وضد كل اللبنانيين«.

لبنان إذن في عنق الزجاجة والضغوط عليه من كل جانب، وفيما يتم ممارستها عمليا على  »حزب الله«، إنما تلتف في الوقت ذاته حول أعناق اللبنانيين. فهل نحن أمام ضغوط ستؤدي إلى اتفاق أم إلى مواجهة؟ هذا ما سيكشف عنه النزاع الأميركي-الإيراني الذي يشهد حوار مواقف وتصريحات بالتزامن من قبل الطرفين.

أزمة مع الأتراك ام مع العثمانيين؟

من التفاصيل التي استدعت شياطين أزمة محلية/اقليمية أحكمت خناقها على لبنان أيضا، تلك التي كانت في مناسبة بدت في ظاهرها وطنية بحتة، وهي مناسبة الاحتفال بالمئوية الاولى لذكرى إعلان لبنان الكبير، وجعلها عيداً وطنيا رسمياً يتم من خلاله الاحتفال بصمود لبنان قرناً

إثارة  »إرهاب الدولة العثمانية«.. من المستفيد؟

كاملاً على الرغم من الزلازل والبراكين التي ضربته ولا تزال.

الاحتفال الذي إنطلق من القصر الجمهوري في بعبدا، في الاول من ايلول/سبتمبر الماضي، على ان تكون الفترة الممتدة حتى الاول من ايلول العام 2020، مكرسة لسلسلة من المنتديات واللقاءات والمعارض والاغاني والاناشيد الخاصة بالمناسبة، والذي كان يفترض ان يعهد بها لأهل الاختصاص في التاريخ والثقافة والسياسة، أشعل شرارتين، واحدة مع الدولة التركية الوارثة للامبراطورية العثمانية، التي إتهمها الرئيس عون بالارهاب، وثانية بين  »المتصرفيات« الطائفية اللبنانية، التي كانت كمن ينتظر حجة لتعميق الانقسام الوطني وتجديد الاشتباك الاهلي.

وفعلا كان موقف رئيس الجمهورية من الحقبة العثمانية قد أدى الى إنقسام داخلي وخلاف مع تركيا كان من الافضل للمصلحة الوطنية تلافيه، وتدارك ابعاده في ظل الواقع اللبناني المأزوم، وأخطر هذه الابعاد هي الشكل الطائفي الذي سلك طريق النقاش كشيطان كامن في تفاصيل الحياة العامة في لبنان.

واعتبرت ردود الفعل ان ما حصل هو خطأ سياسي تضمنته كلمة رئيس الجمهورية، وان لبنان كان في غنى عن هذا الخطأ، وكان من أبرز ردود الفعل تساؤل المفتي السابق محمد رشيد قباني  »عن الحكمة في نبش التاريخ وأحداثه المختلف عليها«، معتبرا أن خطاب الرئيس عون  »سبب اذى لمشاعر جمهور كبير من اللبنانيين«، وداعيا إلى  »ضرورة تراجع رئيس الجمهورية عما جاء في خطابه كون هذه العودة فضيلة«، الا ان تعليق المفتي قباني لقي ردا من رئيس المجلس العام الماروني السابق وديع الخازن الذي رفض  »الكلام المسيء الى مقام رئاسة الجمهورية وشخص الرئيس دفاعا عن دول ومصالح خارجية«.

إلا أن الدكتور سعود المولى لم ير في موقف الرئيس عون خطأ ما، بل قال أن رئيس الجمهورية كان  »يعرف تماماً ماذا يفعل حين فتح السجال حول المسألة العثمانية عشية انتخاب وزير الخارجية جبران باسيل رئيساً للتيار الوطني الحر«، معتبرا أن الأمر جاء  »استمرارا لعملية التحشيد والتعبئة التي يتقنها الوزير باسيل وتياره، وذلك على أبواب مؤتمر الأقليات، وعودة إلى فتح المسألة الشرقية مع تحالف متين من طهران وموسكو إلى يريفان ودمشق«.

وقال المولى أنها رسالة ايجابية من  »التيار الوطني الحر« في الاتجاهات السورية والروسية والشيعية والارمنية، فضلا عن  »استثارتها للهيجان السني الإسلامي والعروبي على حد سواء، والذي يعيش حاليا على سيرة المظلومية والغبن والتهميش والحنين إلى أيام العز والمجد من

د.سعود المولى: انهم يدركون ما يفعلون

السلطان عبد الحميد إلى جمال عبد الناصر إلى ياسر عرفات إلى رفيق الحريري«.

ضربات متعددة لهدف واحد، حملت الدكتور المولى على توجيه نصيحة إلى عقلاء المسيحيين بأن  »لا مصلحة لكم في استمرار هذا الهرج الطائفي العنصري«ّ.

على الجبهة الخارجية، فإن تركيا لم تخف إنزعاجها وترجمته ببيان صادر عن وزارة خارجيتها قابله إستدعاء وزارة خارجية لبنان السفير التركي والطلب إليه بعض التوضيحات التي كان من شأنها معالجة الأزمة بالسبل الديبلوماسية. وقد علق الاعلامي التركي حمزة تكين المقرب من حزب  »العدالة والتنمية« على الموضوع قائلا أنه  »من الواضح عبر الهدوء الرسمي في التعامل مع القضية بأن الجانب التركي يبدي الحرص على متانة العلاقة مع لبنان ما يؤشر حقيقة الى إدراك تركيا الفرق بين الجهات التي أطلقت هذه المواقف بكون الدولة العثمانية دولة إرهابية وبين غالبية الشعب اللبناني من مختلف الطوائف«، مؤكدا على أن  »تركيا ليست ببعيدة عن لبنان وشجونه وهي تدرك جيدا خصائص التركيبة اللبنانية وتعلم جيدا الإنقسام الطائفي الذي خلفه الاحتلال الفرنسي في لبنان، من هنا لن ترد تركيا بطريقة مؤذية للشعب اللبناني، وهذا ما هو واضح من خلال متابعة طريقة التعاطي الرسمي التركي«.

العدد 97 – تشرين 2019