النازحون والمختطفون في العراق توظيف سياسي رخيص لملف إنساني

د. ماجد السامرائي

يرتبط ملف انازحين والمغيّبين في العراق بعدة ملفات، فلا يمكن لمتابع او معني بالشأن العراق أن يتناول أي شأن من شؤون السياسة والاقتصاد والأمن دون المرور بالحالة العراقية العامة وهي مؤلمة قإحصائيات منظمة حقوق الإنسان “هيومن رايتس ووتش” عام 2018 بينت إن هناك أكثر من (ثلاثة ملايين ) مهجر خارج العراق وأكثر من( أربعة ملايين ) نازح داخل العراق وقرابة ( مليون ونصف ) يعيشون في مخيمات مختلفة وهناك ( خمسة ملايين ) ونصف يتيم و( مليونا ) أرملة، ويوجد ستة ملايين عراقي لا يجيدون القراءة والكتابة ونسبة البطالة تجاوزت ( 31 ) ونسبة عمالة الأطفال دون ( 15) عاما تجاوزت ( 9 ) وانتشرت الأمراض الفتاكة والتعليم في أسوأ حالاته فيما كان مدخول العراق من النفط ما بين عامي 2003 – 2016 بلغ ( 1000 ) مليار دولار. لكن العراق تحت طائلة ديون تقدر ب( 125 ) مليار دولار، وبموجب مؤشر منظمة الشفافية الدولية، فإن العراق واحدا من بين أكثر دول العالم فسادا على مدى السنوات الماضية، إذ تعلن تقارير دولية على الدوام بوجود عمليات اختلاس وهدر للمال العام، وحلّ العراق في المرتبة الـ(169) من بين (180) دولة في مؤشرات الفساد الذي كان سببا رئيسيا في عدم تحقيق الحكومات المتعاقبة نتائج إيجابية في توفير الخدمات العامة الأساسية في الكهرباء ومياه الشرب والصحة وغيرها. والأرقام صادمة في جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية للعراقيين. ملف النازحين الذي إرتبط فيما بعد بملف ( المغيّبين والمختطفين هو الأكثر حساسية ومثالاً على عدم اهتمام الحكومة وأحزابها بالملايين من المواطنين الذين يمتلكون حق الحياة. فمنذ منتصف عام 2014، اضطر أكثر من 5 ملايين عراقي للنزوح وترك منازلهم في محافظات نينوى وكركوك وصلاح الدين والأنبار وديالى وأطراف بغداد ولم يكن أغلب العراقيين يعرفون جسر  »بزيبز« الذي يربط محافظتي الأنبار وبغداد قبل موجات النزوح من الأنبار قبل عامين، ولم يصبح مجرد رابط بين ضفتي نهر بل أصبح شاهدا على مستوى الكارثة الانسانية والتعاطي مع هؤلاء المواطنين بالدرجة الثانية خلال نزوح أكثر من 25 ألف شخص من مدينة  »الفلوجة« في محافظة الأنبار الى بغداد العاصمة حيث منعوا وحوصروا على هذا الجسر لعدة أيام.

ملف النزوح يرتبط بالسياسات الطائفية الممنهجة ضد مكون حُمّل ظلما سياسات النظام السابق وكذلك سلسلسة الممارسات الارهابية لداعش وغيرها. والأكثر بشاعة ما تعرض له ملايين العراقيين في المحافظات المحررة (نينوى وصلاح الدين والانبار وديالي وجزء من كركوك وحزام العاصمة بغداد من معاناة النزوح القسري من بيوتهم الى بعض محافظات الاقليم الكردي في مخيمات لا تتوفر فيها الحدود الدنيا من متطلبات الحياة الغذائية الصحية والتعليمية وظلت مشكلة النازحين منذ عام 2014 ورقة بيد السياسيين السنة يلعبون بها أوقات الانتخابات، وحامت الشكوك الكثيرة حول حالات فساد وتلاعب بالأموال المخصصة لمساعدة أولئك النازحين وسط إهمال متعمد من الحكومات المتعاقبة ونعيد للأذهان مجموعة التصريحات الطائفية لبعض المليشيات المسلحة قبل إعلان منظمة  »الحشد الشعبي« حيث توعد بعض مسؤولي الفصائل المسلحة مباشرة بالانتقام من أهالي الموصل قبيل معارك تحريرها، ومن أنهم  »أحفاد قتلة الحسين« هذه النبرة المتطرفة كانت مقدمة لما أصاب أهل تلك المدينة الباسلة وغيرها من المحافظات المحررة الأخرى من ظلم وتهجير وحملات للاعتقالات والاختطاف والتغييب القسري لشباب تلك المحافظات. والفصل الأخطر في ملف النازحين الذين كانوا يريدون العودة الى ديارهم رغم علمهم بأن غالبية المساكن خاصة في الموصل قد دمرت لكنهم واجهوا صعوبات في استراد منازلهم من غرباء شاغليها، توضح ذلك بصورة أدق في صلاح الدين والانبار حيث شغلت تلك المنازل من قبل مجاميع مسلحة نسبت نفسها للحشد الشعبي كما تم اسكان البعض الآخر لمواطنين مما أدى الى فتح معارك ونزاعات عشائرية استثمرت لاغراض سياسية وطائفية. كانت قضية إعادة الإعمار واستقرار المواطنين في مدنهم من مسؤولية رئيس الحكومتين ( حيدر العبادي وعادل عبد المهدي ) لكن لا حيدر العبادي حقق الخطوات الأولى متذرعاً بأنه أنجز الانتصار العسكري، ولا رئيس الوزراء الحالي عادل عبد المهدي قد تقدم خطوة على طريق الانجاز رغم مرور عام على رئاسته الوزارة وكان ملف النازحين في مقدمة برنامجه الحكومي مبرراً ذلك  »بوجود ضغوط أطراف سياسية تمنع عودة النازحين« حسب تصريح النائب (رعد الدهلكي ) رئيس لجنة العمل والشؤون الاجتماعية والهجرة والمهجرين بمجلس النواب.ولقد تأكد ذلك خلال حالات التمرد على قرارات رئيس الحكومة بدمج فصائل الحشد بالقوات المسلحة حيث تمرّد اللواء 30 في سهل نينوى بسبب وضع إسم رئيسه من قبل وزارة الخزينة الأمريكية ضمن قائمة العقوبات. وهناك حالات مشابهة للموصل في محافظات ديالى وصلاح الدين حيث تفرض المليشيات المسلحة سطوتها على الأجهزة الأمنية، وهناك تصريحات من نواب ديالى يقولون فيها بأن هيمنة تلك المجاميع على سلطة القانون هو مخطط جديد لتقويض الأمن والاستقرار وإعادة مسلسل القتل والتشريد والتهجير الذي اجتاح هذه المحافظة أعوام 2006 و2007«.

المختطفون والمغيّبون

ترافق ملف المغيبين والمختطفين خلال العمليات الحربية ضد احتلال  »داعش« للمحافظات الخمس ( نينوى وصلاح الدين وديالى وكركوك والأنبار ) وأجزاء كبيرة من العاصمة العراقية بغداد بملف النازحين وتصفية الآلاف من شباب تلك المحافظات عبر الاختطاف والتغييب مما خلق أزمة إنسانية كبيرة تجسدت بعدم السماح بعودة أهل المدن الى مساكنهم التي هجروا أو هاجروا منها خاصة في مدينة  »جرف الصخر« وذلك التحدي يشكل علامة صارخة على التعدي على حقوق الانسان، حيث سبق أن كانت هذه المدينة التي تقع ما بين الفلوجة في الأنبار وشمالي مدينة المسيّب في بابل واحدة من المدن التي قاتلت الاحتلال الأمريكي، ووصمت فيما بعد بتهمة التحالف مع  »الإرهاب« بعد تحريرها عام 2014 ولم يسمح للأهالي بالعودة بحجة إنتمائهم الى  »داعش« وهو إفتراض يتحدى جميع القوانين والأعراف ويناقض الدستور العراقي القائل بأن المتهم بريئ حتى تثبت إدانته، وإن لكل مواطن عراقي حق العيش والحرية في أية بقعة من الوطن،وهناك الكثير من الأحاديث تشير الى إن هذه المدينة قد تحولت الى مراكز للسجون والمعتقلات تديرها ميليشيات مسلحة في تراجع واضح لدور الحكومة وأجهزتها. وطبقا لإحصائية موثقة تتداولها منظمات عراقية معنية بحقوق الإنسان فإن أعداد المفقودين يقدرون بنحو (250) ألف شخص بعد سيطرة الميليشيات الطائفية على المدن التي كانت في قبضة داعش، وانتشار عمليات القتل والملاحقة التي تسببت في ارتفاع معدل الخطف والقتل والاعتقال، وهو الأمر الذي ترتب عليه زيادة كبيرة في حصيلة المفقودين في السجون السرية أو ممن لم يُستدل على أماكن وجودهم، ووجهت أسر المفقودين والمغيبين اتهامات صريحة للسلطات العراقية بتخليها عن واجبها في حفظ الأمن، ووضع حلول جذرية لمعرفة مصير أبنائها.وبحسب شهادات عوائل المغيبين والمفقودين فإن معظم أبنائهم اعتقلوا في سجون سرية أو تمت تصفيتهم جسديا عند سيطرة ( الرزازة وجرف الصخر والصقلاوية وبزيبز وحزام بغداد وصلاح الدين وديالى ونينوى ) ومناطق أخرى. ورغم مناشدة عوائل آلاف المغيّبين لم يتم تحريك هذا الملف الانساني من قبل النواب الذين يمثلون المواطنين في المحافظات الخمس، وأهمل هذا الملف للسنوات الثلاث الماضية لحين تفجره قبل شهرين بعد إعلان الكشف عن رفات العشرات ما تم تسميتهم  »الجثث المجهولة« وفي محاولة للتستر على مصير المغيبين خاصة في منطقة  »جرف الصخر« ادعت السلطات العراقية أن ما جرى الكشف عنه هو لجثامين مجهولة الهوية. غير أن الوقائع تشير إلى أن هؤلاء كانوا جزءا من آلاف جرى تصفيتهم على يد الميليشيات الطائفية بعد سيطرتها على المدينة قبل أكثر من ثلاث سنوات. لا شك إن منظمات حقوق الانسان المحلية والعالمية لم تهمل هذا الملف ولديها الوثائق الكثيرة المدونة من شهادات عوائل المختطفين، إلا أن الجهات العراقية الرسمية والبرلمانية أهملت هذا الملف وتحاول الآن بعد ظهور فضيحة المقابر الجماعية لما تسميه  »الجثث المجهولة« محاولة وضع المبررات التي تبعد المسؤوليات عنها.أما بعض الجهات السياسية السنية فقد اكتشفت فجأة أهمية هذه الملف الانساني وأخذت تحرك وسائلها الاعلامية وأدواتها التقليدية لتحميل الحكومة المسؤولية وراحت تهدد برفع الموضوع الى الأمم المتحدة للتدخل وحسم هذا الموضوع الانساني. وقد تذكرت ممثلية الأمم المتحدة في العراق ( يونامي ) هذه القضية فانتدبت لجنة لتقصي الحقائق وصلت بغداد. والمعروف الى أن العراق من الموقعين على الإتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2009 لكن الجهات المسؤولية لم تفّعل هذه الاتفاقية عبر البرلمان. وسبق لرئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر ( بيتر ماروير ) الحكومة العراقية خلال زيارته لبغداد أوائل فبراير الماضي بالكشق عن مصير أكثر من 1050 مفقوداً وفتح 5250 طلباً جديداً للبحث عن المفقودين، مشيراً إلى التحديات الاستثنائية التي لا تزال تواجه المجتمعات المحلية في عموم محافظات العراق، بضمنها وجود 1.8 مليون شخص ما زالوا نازحين داخل العراق. إن قصة المختطفين والمغيّبين ليس حالات فردية وإنما مشكلة جماعية تتحمل مسؤوليتها الحكومة والقضاء بضرورة فتح ملفات المعتقلين والمسجونين ومعرفة تفصيلات أوضاعهم، وإعتبار هذا الملف من أهم القضايا التي ينبغي حلها وفق العدالة. إن أقسى ما يمر به شعب العراق الآن هو تحويل قضية وجوده الانساني الى أوراق سياسية للمساومات.

العدد 97 – تشرين 2019