يويوما في مدينة الحرف

جاد الحاج

تأخذ  »مهرجانات جبيل« في عين الاعتبار ضرورة ادراج فعالية فنية متقدمة جدا ضمن برنامجها السنوي المتنوع. وهو بلا شك تدبير ثقافي على قدر كبير من الصحة والجدارة. يتجسد هذا المنحى في دعوة موسيقيين ومغنين وفرقا مميزة الى خشبتها المطلة على البحر الابيض المتوسط. وهذه السنة دعت  »مهرجانات جبيل« الموسيقار العالمي يويوما لتقديم مقطع طويل من احدى متتاليات سيباستيان باخ.

يويوما عازف تشيللو كلاسيكي من أصل صيني، ولد في فرنسا سنة 1955 ودرس في الولايات المتحدة الاميركية بعد هجرة عائلته اليها، فبرع منذ صغره وانكب على البحث في منجزات عازفي التشيللو على مر التاريخ دارسا كل الحقبات التي مرت بها الموسيقى الكلاسيكية ودور آلة التشيللو في تركيبتها، انطلاقا من عصر الباروك حتى اواخر القرن العشرين. إلا أن يويوما اعتاد ان يأخذ عطلة من مساره الكلاسيكي الصارم في اتجاهات مختلفة مثل الاعلانات الدعائية للساعات الفاخرة وغيرها. إضافة اليه لم يستطع يويوما عزل نفسه عن مؤثرات الشهرة ومعظمها غير لائق بقامته الفنية البحت، بحسب بعضهم…

 سنة 2006 عينته الامم المتحدة رسول سلام عامي، علما ان هذا الدور لا يعدو كونه جولات تمظهرية فارغة لا تقدم ولا تؤخر في وقائع الاوبئة والحروب وانهيار المجتمعات في العالم الثالث على وقع كثافة اللاجئين من كل حدب وصوب. لكن يويوما حاول تفعيل تلك المهمة وأجرى جولات بحث عن المواهب الموسيقية في مخيمات اللاجئين السوريين. ثم قام بتنفيذ

 مشروع كبير بعنوان  »طريق الحرير« فاصدر اسطوانات من موسيقى الشعوب التي مرت فيها تلك الطريق قبل اكثر من ألفي عام، وتشكلت فرقة  »مجموعة طريق الحرير« من موسيقيين مختلفين باختلاف الموسيقى المطلوبة كل مرة. وفي مجال موسيقى الافلام نفذ يويوما الجزء الصوتي لعدد كبير من افلام هوليوود.

المعروف ان باخ خصّ آلة تشيللو بعمل موسيقي ضخم هو  »المتتاليات الست« للتشيللو المنفرد: تحفة خالدة اكتشفها مصادفة الموسيقار الكاتالوني بابلو كازالاس وهو لا يزال تلميذا في الثالثة عشرة من عمره، يتجول في الاسواق ويتحرّى كل ما له علاقة بالموسيقى. وذات يوم وجد بابلو دفاتر نوطات معروضة للبيع في محل الاغراض المستعملة فاشتراها وأذهله ما رآه. خلال 13 سنة لاحقة لم يتوقف بابلو كازالاس عن تمرين يديه على عزف تلك الموسيقى، وفي النهاية ادرجها في امسياته الحية. مع ذلك بقي يتأمل ويتعمق في المقطوعات التي بلغ عددها 36 مقطوعة واستمر يعزفها لأكثر من أربعة عقود. وبين 1936 و1939 انتهى تسجيله النسخة الاولى من رائعة باخ التي اصبحت امتحانا امام كل عازف تشيللو مبدع على مر الحقبَ. واليوم هناك ما لا يقل عن مئتي تسجيل كامل لتلك المتتاليات لموسيقيين من كل انحاء العالم.

السنة الفائتة قرر يويوما القيام بجولة عالمية لتقديم جزء من هذا العمل الكبير في ست قارات بينها امسيته الجبيلية. مما لا شك فيه انه حدث مميز وفريد من نوعه، يصبو الى جمع عشاق الموسيقى الكلاسيكية المدركين خلفيات العمل وقيمته والتحدي الماثل امام اي عازف يتصدى له. ومن جهة اخرى لا مكان للتسلية والترفيه والثرثرة والاكثار من التقاط الصور والكزدرة بالمشروبات والمآكل فيما يعزف يويوما واحدة من اجمل ما كُتب موسيقيا لآلة التشيللو.

بطبيعة الحال سيطر يويوما بسرعة قياسية على جمهور اعتاد ’البلعطة‘ وطاول الإصغاء امواج البحر، بحسب إحدى السيدات!

العدد 98 – تشرين الثاني 2019