تركيا سوريا: هدية ترامب المسمومة

واشنطن فاجأت أردوغان وأنقرة تذهب وحيدة في مغامرتها شرق الفرات

محمد قواص (*)

انشغل العالم كثيرا بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامي سحب جنود بلاده من الحدود السورية التركية. الحدث اعتبر رعاية أميركية لحملة عسكرية لطالما توعد بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ضد المنطقة التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وهي خليط كردي عربي تقوده وحدات حماية الشعبي الكردية، التي تتهمها أنقرة بأنها تنظيم إرهابي تابع لحزب العمال الكردستاني في تركيا والمدرج على لوائح الإرهاب في العالم.

ترامب ينسحب

وعلى الرغم من أن موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن العملية العسكرية التركية شرق الفرات قد فاجأ المؤسسات السياسية والأمنية والأميركية، إلا أن الأمر، وفق خبراء في الشؤون الأميركية، لم يتجاوز الخطوط الكبرى التي تضعها المؤسسات الأميركية في شؤون الأمن القومي والسياسة الخارجية.

واعتبر هؤلاء أن إعادة ترامب تصويب قراره من خلال وضع ضوابط للتحرك التركي، يكشف تدخل المؤسسات التي حذر بعضها (البنتاغون) بشكل علني تركيا من القيام بعملية عسكرية في سوريا. ورأى الخبراء أن التحذيرات والتحفظات التي تصدر عن دوائر الأمن والعسكر في

أي مستنقع دخلت به القوات التركية في سوريا

الولايات المتحدة، ليست مواقف إعلامية، بل أنها ستتحول مهنيا إلى إجراءات ميدانية كآليات تعرفها أنقرة بحكم عضويتها التاريخية داخل حلف شمال الأطلسي.

ويدعو مراقبون في واشنطن إلى حسن تلمس الخيط الرفيع الذي يفصل موقفيّ ترامب الرئيس عن ترامب المرشح في ما يصدر وسيصدر عنه خلال الأسابيع والأشهر المقبلة. ورأى هؤلاء أن الحملة الانتخابية التي يخوضها ترامب للتجديد لنفسه داخل البيت الأبيض في الانتخابات الرئاسية العام المقبل، تتطلب منه رفع جرعات الشعبوية التي وقفت وراء فوزه المفاجئ برئاسة الولايات المتحدة في انتخابات عام 2016.

ويلفت هؤلاء إلى أن ترامب أجاد منذ تبوئه منصب الرئاسة عدم تجاوز القواعد الكبرى للسياسة الخارجية التي تضع المؤسسات قواعدها، وأنه وإن أقدم على اتخاذ قرارات بصفتها تحولات كبيرة يفخر في تحقيقها، إلا أنها جاءت من صلب المزاج الأميركي الداخلي الذي يحظى بإجماع داخل الكونغرس.

ويذكر المراقبون بأن قرارته بشأن القدس والجولان مثلا لم تلق أي اعتراض داخلي طالما أن الكونغرس كان أصدر قانونا بشأن القدس عام 1995يعترف بها عاصمة لإسرائيل، فيما غالبية أعضاء الكونغرس يوافقون ترامب قراره بشأن الجولان.

ترامب المرشح

ويعتبر خبراء في شؤون الشرق الأوسط أن قرار ترامب الأخير بسحب القوات الأميركية من على الحدود التركية السورية، يصب داخل الحملة الرئاسية التي تركز على أن الرجل يفي بوعوده التي قطعها أمام ناخبيه بإخراج بلاده من حروب الخارج التي يصفها بالعبثية.

غير أن هؤلاء يرون أن ترامب يقوم بإحداث ضجيج باتخاذ قرار من هذا النوع، على منوال ما أعلنه في ديسمبر 2018 عن قراره سحب القوات الأميركية بشكل كامل من سوريا، قبل أن يعود عن قراره بعد تدخل البنتاغون ومؤسسات الأمن القومي.

ويقول خبراء الحملات الانتخابية أن وقع القرار بالانسحاب يبقى قويا لدى الكتل الناخبة بسبب الضجيج الذي يثار حوله، فيما أن هذه الكتل لا تتأثر بالعودة عن هذا القرار، وحتى تعظيم التواجد العسكري الأميركي، بسبب الشكل الرتيب الذي لا يثار غبار حوله لاتفاقه مع أجندة الكونغرس والمؤسسات.

ولفت خبراء في الشؤون العسكرية أن ترامب أعلن انسحابا للقوات الأميركية ما أحدث ضجيجا داخليا في الولايات المتحدة كما في الإقليم وبقية دول العالم المهتمة بالشأن السوري، كما أثار ردود فعل غاضبة ضد أي تدخل عسكري تركي شمال سوريا، قبل أن يوضح البنتاغون أن سحب القوات الأميركية يشمل 50 جنديا أميركيا فقط ولا يشكل انسحابا أميركيا من سوريا.

وفيما يستفيد ترامب انتخابيا من الجلبة التي أحدثها بالتأكيد لناخبيه بأنه يعمل على سحب بلاده من حروب الآخرين، سيضيف على هذا الموقف بضاعة انتخابية أخرى من خلال المواقف المهددة لتركيا والتي تتناقض مع مضمون المكالمة الهاتفية التي أجراها مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان التي سبقت قراره سحب الجنود الأميركيين من أمام حملة تركية عسكرية في شرق الفرات في سوريا.

ونقلت منابر إعلامية أميركية عن مصادر في وزارة الخارجية الأميركية لم تسمها أن هناك لغطا في فهم السياق الذي دفع ترامب إلى اتخاذ قراره. وقالت المصادر إن أردوغان أراد إقناع ترامب برعاية واشنطن للعملية العسكرية التي يتوعد بها، إلا أن أردوغان فوجئ بموقف الرئيس

القوات الكردية تمتلك أسلحة نوعية موجعة للقوات التركية

الأميركي في أن الولايات المتحدة لن تدعم مثل هذه العملية شكلا أو مضمونا وأنها فكرة سيئة جدا وأنها لن توفر أمنا أفضل لتركيا وأبناء المنطقة في القتال مع داعش.

الفخ الأميركي

وقالت مصادر دبلوماسية أن ترامب قدم لأردوغان هدية مسمومة من خلال تبرؤ الولايات المتحدة من العملية العسكرية التركية، وبالتالي الإيحاء بأن موقف البنتاغون الميداني يحظى بضوء أخضر للدفاع عن مصالح الولايات المتحدة إذا ما تعدى أردوغان حدودا معينة لهذه العملية.

وتضيف المصادر أن موقف ترامب أحرج القيادة التركية لجهة اجبارها على القيام بعملية عسكرية تخلصها من الحرج من جهة، على أن تكون تلك العملية محدودة ولا تمس  »المحرمات« التي عاد ترامب للتحذير من تجاوزها من جهة ثانية، وبالتالي ألا تكون وفق التصور القديم لتركيا بشأن عرض المنطقة الآمنة وعمقها.

ودعت مصادر دبلوماسية إلى قراءة التباين جيدا في خطاب أنقرة وواشنطن حول نفس الحدث. لفت مصدر وزارة الخارجية إلى التباين الوارد في بياني البيت الأبيض والرئاسة التركية حول مضمون الاتصال.

وأوضح أن الرئاسة التركية أوردت أن أردوغان تلقى دعوة لزيارة واشنطن و »هذا صحيح«، غير أن بيان البيت الأبيض لم يلحظ مثل هذه الدعوة بعد انتهاء المكالمة. وقالت المصادر أن التحالف الدولي أعلن أنه يسيطر على أجواء المنطقة ما سيحرم تركيا من تفوق جوي. يرفد قواتها البرية ويجبر أنقرة على الاكتفاء بعملية متواضعة محدودة.

ويخلص بعض الخبراء في الشؤون الدولية إلى قراءة الحدث في بعد يتجاوز العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة. ويتحدثون عن أن إعادة إثارة مسألة الانسحاب الأميركي من سوريا، توحي بأن تسوية كبرى قد حصلت بين واشنطن وموسكو ستؤدي حتما إلى انسحاب كامل القوات الأميركية من سوريا، إضافة إلى الاعتراف بأن القرم جزء من الأراضي الروسية، في مقابل ذلك على موسكو أن تسحب دعمها وغطاءها السياسي عن فينزويلا، إذا إن الأخيرة تهم واشنطن أكثر بكثير من الصراع القائم في شمال سوريا وشرقها.

حرب أردوغان

ويهدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالقيام بعملية عسكرية لفرض المنطقة الآمنة التي يتوق إليها في شمال شرق سوريا. والتهديد يستهدف قوات سوريا الديمقراطية لكنه خصوصا يستهدف الولايات المتحدة ونفوذها في سوريا. والرجل حين يهدد فذلك يعني أنه، وكما كان متوقعا، استنتج أن الاتفاقات التي أعلن عنها بين البلدين لم تنفذ، وأن واشنطن غير مستعدة حتى الآن لمنح أردوغان نفوذا متقدما داخل سوريا يوفر له ورقة قوية في المداولات الدولية الكبرى اللاحقة لإنتاج تسوية في سوريا.

ويعاني الزعيم التركي من معضلات بنيوية داخلية تؤشر إلى أفول نجمه ونجم حزبه، العدالة والتنمية، الحاكم منذ عقود. العلامات العامة برزت في الانتخابات المحلية الأخيرة، والتي خسر فيها الحزب مدنا رئيسية كانت أبرزها مدينة اسطنبول العزيزة على قلب أردوغان شخصيا. تلقى الرجل صفعتين في هذه المدينة حين خسر مرشحه بن علي يلدريم الانتخابات في التصويت الأول ثم في التصويت الثاني الذي جرى بعد زعم أردوغان التشكيك في الاقتراع الأول.

والعلامات الأكثر حرجا برزت في التفكك الذي حصل في حزب العدالة والتنمية وانفضاض القيادات التاريخية للحزب عن زعامة أردوغان، وتحول أسماء لامعة مثل رئيس الجمهورية الأسبق عبد الله غل ورئيس الحكومة الأسبق، ُمنظّر الحزب، أحمد داوود أوغلو والوزراء السابقين علي باباجان وبشير أطالاي وسعد الله أرغين… إلخ. وعلى هذا يفقد أردوغان قيادة تاريخية محضته شرعية، فيما تترنح محاولاته لاستعادة شعبيته وتطيح بها المؤشرات النقدية والاقتصادية المقلقة.

يلحظ المراقب في تركيا أن رفع أردوغان لواء الدفاع عن أمن تركيا من خلال المعركة شرق الفرات لا ينسجم مع حجم الخطر الذي يتهدد البلاد. لا يهدد أكراد سوريا الأمن التركي وليس لديهم أي جاهزية لوجيستية أو تغطية دولية لكي يشكلوا امتدادا مقلقا لحزب العمال الكردستاني.

ترامب هدد بتدمير اقتصاد تركيا في حال تجاوزت الحدود

ليس في الأمر أي عجلة تستدعي هذا التجييش الممل ضد أخطار لم يثبت أنها حقيقية ضد تركيا. ناهيك عن أن علاقة الولايات المتحدة بهذا الملف تنزع عن الأكراد أي قدرة على المناورة، حتى لو قصدوا أن يحيكوا نوايا عدائية ضد تركيا.

ومع ذلك فإن معركة أردوغان ضد الأكراد في سوريا تبدو لازمة خطابية، لا تنقذ بالضرورة شعبيته المتصدعة، على الرغم من أنها قد تستفز عصبية عنصرية تركية لطالما تنفخ بها التيارات القومية ودوائرها. ثم أن ذلك التهديد العسكري ضد الأكراد الذين يحظون حتى إشعار آخر بالحماية الأميركية، لا يبدو أنه يقلق  »وحدات حماية الشعب« الكردية المستعدة وفق بياناتها للدفاع عن نفسها والمناطق التي تسيطر عليها. وواضح أن موقف الأكراد يستند على موقف أميركي يدفع ببيانات قوات سوريا الديمقراطية أن تكون جازمة في تحديها لخطاب أردوغان.

المنطقة الآمنة

تبيح المنطقة الآمنة لأردوغان الرفع من شأن سياسة بلاده الخارجية على حساب تلك الداخلية. توفر للرجل مكانة داخل المشهد الدولي المرتبط بالورش الجارية حول سوريا. قمة جمعته مؤخرا مع نظيريه الروسي والإيراني في إطار عملية أستانا، وهو يمنّ النفس بشراكة مع الولايات المتحدة تمحضه شرعية تواجد لقواته في سوريا معترف بها دوليا. والرجل، من خلال المشاغبة بالقرب من مناطق النفوذ الأميركي في سوريا، يحاول تحسين موقعه في مقاربة العلاقة المضطربة مع واشنطن منذ أزمة صواريخ أس 400 الروسية التي دخلت في المنظومة الدفاعية لتركيا، إحدى الدول الأساسية في حلف شمال الأطلسي.

يدخل أردوغان كل المعارك معوّلا على جني ثمار التسويات. بات موقف الجيش التركي في شمال سوريا مذلا داخل المسارات التي تتطور في إدلب. تسرّب أن تململا شاع داخل القيادات العسكرية التركية نتيجة النكسة التي تعرضت لها المواقع التركية ومحاصرة بعضها من قبل قوات النظام السوري. وقيل إن استقالة بعض الجنرالات جاءت تبعا لهذه الخلفية، وأن قيادات الجيش تنظر بعين القلق إلى أن سلامة القوات التركية في محافظة إدلب باتت تحت رحمة القوات الروسية التي تقرر وحدها وقف النيران المعادية ضد قوات أنقرة كما حجم ودقة هجماتها.

لا يبدو أن أردوغان يخوض المعارك العسكرية لكي يكسبها. يعرف الرجل أنه يلعب مع الكبار، مع روسيا في الشمال الغربي ومع الولايات المتحدة في الشمال الشرقي لسوريا. ويدرك أن تلك المعارك محكومة بالفشل، لكنها مع ذلك تتيح لتركيا اللعب مع الكبار. يطلق أردوغان في نيويورك على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة مواقف استفزازية لا تهدف إلا إلى لفت أنظار هؤلاء الكبار. شكك بمسؤولية إيران عن الهجمات التي استهدفت منشآت أرامكو في السعودية ولم يتخذ أي موقف متضامنة مع الرياض.

يسهل للمراقب أن يلحظ أن أردوغان يلهث للخروج من أزمته الداخلية بالاستناد على سياسة خارجية ركيكة لا ترقى إلى المستوى الاستراتيجي. يمارس أردوغان السياسة بشكل انفعالي. تصطدم أجندته مع أجندة إيران في سوريا، وتصطدم قوات المعارضة السورية المتحالفة مع أنقرة مع الميليشيات الشيعية التابعة لطهران. ومع ذلك، يتطوع الرئيس التركي بالدفاع عن إيران ويرعى اختراق بلاده للعقوبات الأميركية المفروضة على طهران.

حسابات أنقرة

يذهب أردوغان لتبني مواقف قريبة من روسيا مقابل ابتعاد عن الحليف الأميركي التاريخي دون أن تثق موسكو بميول أردوغان الروسية الجديدة. ينتهج الزعيم التركي موقفا عدائيا ضد الاتحاد الأوروبي، سواء من خلال التنقيب داخل المياه القبرصية، أو من خلال العودة لابتزاز

بوتين مسرور لتورط تركيا وخلافها مع واشنطن

الأوروبيين بالتلويح باستخدام سلاح المهاجرين ضد البلدان الأوروبية. وفيما يندفع أردوغان لتشويه علاقة بلاده مع العالم الغربي، يندفع بالمقابل للإمعان في تشويه علاقات بلاده العربية من خلال تدخل مباشر في الشؤون العربية، لا سيما ضد مصر والسعودية والإمارات، كما التلويح بالتواجد العسكري في قطر، كما الدعم العسكري المكشوف الذي تمنحه أنقرة لقوات طرابلس في ليبيا.

يطلق أردوغان معركته الموعودة شرق الفرات دون أن يأخذ العالم تلك التهديدات على محمل الجد. قد يبدو أن خصوم أردوغان في الإقليم والعالم يتمنون له الغرق في معركة شمال سوريا تنزل به هزيمة عسكرية بعد تلك الانتخابية التي مني بها قبل أشهر. لن يتجاوز موقف واشنطن حدود التحذير، فيما أسلحة نوعية فتاكة ستسلم إلى الأكراد لكي يكتبوا بالنار رسائل واشنطن إلى أنقرة. بالمقابل يبتسم فلاديمير بوتين كلما زاد غضب أردوغان ولوح بحربه ضد المنطقة التي يتواجد فيها الأميركيون شرق الفرات. سيبتسم بوتين إذا ما اصطدم أردوغان بواشنطن وسيبتسم إذا ما أنهكت تلك المعركة جهود أردوغان العسكرية. ففي المحصلة تتفق موسكو وواشنطن على أن مآلات سوريا تقررها العاصمتان، وإذا ما كان من مكان لأجندة تركيا وإيران داخل تلك المآلات، فإن تقليص أحجامهما هو مصلحة مشتركة يتواطأ الأميركيون والروس على تحقيقه بخبث الكبار.

المشهد المرتبط في سوريا يتطور بإيقاعات متطورة، وما التطور المرتبط بانخراط أردوغان أكثر فأكثر داخل سوريا يعيد تموضع كافة الأطراف داخل موقع تعبر عن توازن القوى الإقليمي والدولي الذي سيتحدد وفقه مسار التسوية المتوخى في سوريا.

موقف ترامب أحرج القيادة التركية لجهة اجبارها على القيام بعملية عسكرية تخلصها من الحرج من جهة، على أن تكون تلك العملية محدودة ولا تمس  »المحرمات« التي عاد ترامب للتحذير من تجاوزها من جهة ثانية، وبالتالي ألا تكون وفق التصور القديم لتركيا بشأن عرض المنطقة الآمنة وعمقها.

قرار ترامب بسحب القوات الأميركية من على الحدود التركية السورية، يصب داخل الحملة الرئاسية التي تركز على أن الرجل يفي بوعوده التي قطعها أمام ناخبيه بإخراج بلاده من حروب الخارج التي يصفها بالعبثية. ترامب يقوم بإحداث ضجيج باتخاذ قرار من هذا النوع، على

البنتاغون حذر تركيا من حملتها العسكرية شرق الفرات

منوال ما أعلنه في ديسمبر 2018 عن قراره سحب القوات الأميركية بشكل كامل من سوريا، قبل أن يعود عن قراره بعد تدخل البنتاغون ومؤسسات الأمن القومي.

يعاني الزعيم التركي من معضلات بنيوية داخلية تؤشر إلى أفول نجمه ونجم حزبه، العدالة والتنمية، الحاكم منذ عقود. العلامات العامة برزت في الانتخابات المحلية الأخيرة، والتي خسر فيها الحزب مدنا رئيسية كانت أبرزها مدينة اسطنبول العزيزة على قلب أردوغان شخصيا. تلقى الرجل صفعتين في هذه المدينة حين خسر مرشحه بن علي يلدريم الانتخابات في التصويت الأول ثم في التصويت الثاني الذي جرى بعد زعم أردوغان التشكيك في الاقتراع الأول.

العلامات الأكثر حرجا برزت في التفكك الذي حصل في حزب العدالة والتنمية وانفضاض القيادات التاريخية للحزب عن زعامة أردوغان، وتحول أسماء لامعة مثل رئيس الجمهورية الأسبق عبد الله غل ورئيس الحكومة الأسبق، ُمنظّر الحزب، أحمد داوود أوغلو والوزراء السابقين علي باباجان وبشير أطالاي وسعد الله أرغين… إلخ. وعلى هذا يفقد أردوغان قيادة تاريخية محضته شرعية، فيما تترنح محاولاته لاستعادة شعبيته وتطيح بها المؤشرات النقدية والاقتصادية المقلقة.

لا يبدو أن أردوغان يخوض المعارك العسكرية لكي يكسبها. يعرف الرجل أنه يلعب مع الكبار، مع روسيا في الشمال الغربي ومع الولايات المتحدة في الشمال الشرقي لسوريا. ويدرك أن تلك المعارك محكومة بالفشل، لكنها مع ذلك تتيح لتركيا اللعب مع الكبار.

عن مكالمة ترامب-أردوغان

الاتصال الهاتفي الذي جرى، في 6 أكتوبر، بين الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ونظيره التركي، رجب طيب أردوغان، بدأ إيجابيا لكنه انتهى بطريقة غير متوقعة وبشكل سلبي زاد العلاقة بين واشنطن وأنقرة سوءا.

كما دفعت بالرئيس الأميركي إلى تهديد نظيره التركي، بتدمير اقتصاد بلاده إذا قام بشيء تجاوز الحدود في سوريا.

وقبل أن يروي مسؤول كبير في الخارجية الأميركية لبعض وسائل الإعلام، ومن بينها الحرة، تفاصيل الاتصال الهاتفي بين الزعيمين، استعرض الأجواء التي سبقت المكالمة.

وقال إن الاتصال جاء في وقت كان فيه العمل جار بين الولايات المتحدة وتركيا على تطبيق المنطقة الآمنة على الحدود السورية التركية والتي كانت تسير على ما يرام.

وأضاف أن  »هذه الآلية قامت على تسوية بين قوات سوريا الديمقراطية والولايات المتحدة وتركيا وكنا نعتبر أنها تلبي حاجات الأتراك«.

ويعود المسؤول الأميركي إلى مضمون الحوار بين ترامب وأردوغان، وقال إنهما تطرقا إلى حلول معينة تتعلق بصفقة صواريخ أس 400 الروسية التي تسلمتها تركيا.

كما تطرق الحوار إلى قضية طائرات أف 35 الأميركية التي علقت الولايات المتحدة عضوية تركيا في برنامجها وأوقفت تسليمها لأنقرة، إضافة إلى أمور قضائية وإمكانية الوصول إلى اتفاق تجاري بين البلدين يصل إلى مئة مليار دولار أميركي.

الدخول إلى شمال شرق سوريا

وأوضح المسؤول أنه بعد نقاش إيجابي لتلك القضايا، أثار أردوغان  »مسألة الدخول إلى شمال شرق سوريا وادعى أن آلية المنطقة الآمنة التي وضعناها ونطبقها لا تلبي حاجاته ومطالبه وأنه يريد أن يقوم بعملية أحادية الجانب لم يحدد تفاصيلها لكنه أوضح أنه يريد دعما أميركيا لها«. بيد أن ترامب رفض رعاية الحملة التركية وأعلن سحب قوات بلاده من الحدود التركية السورية، ما فاجأ أردوغان.

وأشار المسؤول الأميركي إلى أن ما قامت به الإدارة الأميركية بعد المكالمة في شمال شرق سوريا، هو سحب أفراد من القوات الأميركية من مواقع على الحدود التركية  »لعدم توجيه رسالة بأن قواتنا تدعم العملية العسكرية التركية وفي نفس الوقت لا نريد أن تبقى هذه القوات هناك

أحمد داوود أوغلو وعبد الله غل يقودان الانشقاق على أردوغان

لتظهر وكأنها باقية لمنع الأتراك من التحرك باتجاه الداخل السوري«.

ووصف هذا القرار بالتكتيكي، وبأنه كان يمكن اتخاذه على مستوى القيادات العسكرية الوسطى لكنه اتخذ على المستوى الرئاسي.

وأشار المسؤول إلى أن  »ليس هناك أي تغيير في وجودنا العسكري في شمال شرق سوريا ونقوم بمراجعة وجودنا العسكري كما نراجع موقفنا السياسي«.

الخطوات الأميركية هذه ربما فاجأت الجانب التركي الذي كان يتوقع دعما عسكريا أميركيا للعملية العسكرية التركية، وفق مسؤول الأميركي الذي قال إن  »موقف الرئيس التركي أردوغان في اليوم التالي للمكالمة كان منضبطا أكثر مما كان عليه من قبل«.

ومضى المسؤول في الحديث عن الخطوات المقبلة، وقال  »إن الإدارة الأميركية تراجع الوضع لمعرفة ماذا سيحصل في المستقبل«، مضيفا  »لدينا عدة مؤشرات تشير إلى أن الأتراك جاهزون عمليا للقيام بعملية عسكرية ولكن لا نعرف متى ستبدأ. ربما لن تحصل ولكن هناك احتمالات كبيرة أنها ستحصل ولا نعرف ما إذا ستكون عملية صغيرة أو كبيرة«.

ومن الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الأميركية كذلك على أثر إعلان الرئيس التركي عن خطوته الأحادية، تعليق تطبيق آلية المنطقة الآمنة لأنه  »لا فائدة من مواصلة تطبيق هذه المنطقة« لكن الإدارة حافظت في الوقت ذاته على التواصل العسكري الأميركي مع الأتراك.

وفي خطوة لها دلالاتها العسكرية ورسائلها السلبية بالنسبة لتركيا، أعلن المسؤول الكبير في الخارجية الأميركية أن واشنطن أغلقت الأجواء أمام تركيا في شمال شرق سوريا.

وأردف  »نحن الآن نسيطر على هذه الأجواء وليس لدينا أي نوايا في تغيير ذلك في المستقبل القريب وسنكون حريصين ونشطين في تطبيق سيطرتنا على هذه الأجواء من أجل حماية أفرادنا وقواتنا«.

وهذا الأمر يعني بالنسبة لتركيا أنه لا يمكنها أن تستخدم طائراتها الحربية في أي عملية توغل داخل الأراضي السورية ما سيعرضها لخسائر كبيرة ويعيق عملية تقدمها على الأرض.

واختتم المسؤول الأميركي تصريحاته بالقول إن هدف الاتصال مع أردوغان كان دفعه إلى التركيز على تطوير العلاقات وتطبيق المنطقة الآمنة لمعالجة مخاوفه الأمنية، إلا أنه قرر أن يقوم بالعملية بمفرده.

وقال إن  »على أردوغان أن يستوعب المعلومات الجديدة بأن الولايات المتحدة لا تدعم توغله العسكري في شمال شرق سوريا ولن يكون هناك أي دعم من المجتمع الدولي… ولا نعرف ماذا سيفعل«.

 

(*) كاتب سياسي لبناني

العدد 98 – تشرين الثاني 2019