في ذكرى عملاق من زمن الكبار في فن الغناء – وديع الصافي… في الذكرى السادسة لرحيله

صوت له سحر خاص، يملأ الآذان طربا، وتهتز له المشاعر نشوة واحتفاء. صوت قوي يجلجل في خيلاء وكبرياء. أداء رفيع بقدر ما تنطلق آهاته ترسل صداها بعيدا الى عنان السماء، بقدر ما تتلون نبراته لتدغدغ الحواس وتطويها رقة وعذوبة فتملأ علينا كامل الوجدان. سألوا عنه الموسيقار محمد عبد الوهاب، فقال (ان صوته يمثل جبل لبنان بكل شموخه وجماله). أنه وديع الصافي الذي تحل ذكرى ميلاده 98 والذكرى السادسة لرحيله هذه الايام. جمال الصوت يمكن أن يتلاشى ان لم تصاحبه عبقرية الأداء، فالغناء ليس مجرد صوت جميل يصدح، ولكنه وهو مهم، رأس قادرعلى ادارة الصوت وضبطه وتوجيهه وفق قدرات الصوت، وتوظيف النبرات وامكاناته، وهنا تكمن عبقرية الآداء، والتأثير، ومن هنا كان وديع الصافي مبهرا الى حد الاعجاز.

ظروف النشأة، وعناصر التكوين

الصوت ثروة طبيعية، تهبها السماء لبعض الأفراد، لا ترتبط بمستوى اجتماعي، أو تأهيل ثقافي ومعرفي ولا اجتهاد بشري، الا من خلال التنمية للموهبة، وصقلها بالتدريب على النطق، وعلى حركة التنفس، ومتابعتها، لأكتساب اللياقة اللازمة، بالرعاية الدؤوبة الملحة. استقبلت قرية (نيحا الشوف) اللبنانية مولد الطفل (وديع فرنسيس) الذي عرفناه مطربا ذائع الصيت باسم (وديع الصافي) في 21 يوليو(تموز)عام 1921، ووالده هو بشاره يوسف جبرائيل فرنسيس (رقيبا في الدرك اللبناني) وكان ترتيبه الثاني بين ثمانية أولاد. كانت العائلة تنتمي الى طبقة متوسطة في مستوياتها الأدنى، انتقلت عائلته عام 1930 للأقامة في بيروت، حيث تتوفر في المدن عادة فرص العمل بشكل أكبر، ناهيك، عن أن تكون المدينة هي العاصمة بيروت بكل حيويتها وأضوائها وصخبها، وتشعب سبل الحياة على أرضها. هناك التحق (وديع) بمدرسة دير المخلص الكاثوليكية، إلا انه لم يعمر بها سوى ثلاث سنوات، وفي اطار ظروف اقتصادية ضاغطة على الأب، اضطر الصبي اليافع الى ترك الدراسة للعمل لمساندة الأب في النفقات التي أصبحت تتطلبها ظروف الأسرة بعد أن تكاثرت أعدادها. كان الأبن باعتباره من الكبار بين الأخوة، وفيا وبارا بالأسرة وباحتياجاتها. لكن المدرسة من جانب آخر شكلت المهد الذي احتضنه في مجال الدراسة عموما، ومجال الغناء خصوصا. ففي المدرسة اكتشف زملاؤه جمال صوته وروعة أدائه، وأدرك هو بالتالي من ردود الفعل على مستمعيه، من اعجاب، أنه يتفرد بينهم بموهبة طبيعية تطرب من يعطيه أذنه، وعلى ذلك فان عليه أن ينميها ويرعاها. في أجواء الموسيقى التي غمرته في المدرسة بدأ نجمه يلمع حين يتم اختياره بين فريق الكورال في تلك السن الصغيرة، ثم المنشد الأول في جوقتها. تقدم للأذاعة عام 1938 في مسابقة تم الاعلان

العملاقان وديع الصافي وعبدالوهاب.. جبل لبنان وهرم مصر

عنها، وتقدم لها أكثر من أربعين طلبا، ولكن وديع فرنسيس كان نجم الاختيار بعد أن فاز بالمرتبة الأولى في العزف واللحن والغناء، بين المتسابقين في الاذاعة اللبنانية في أغنية (يا مرسل النغم الحنون) وهي من كلمات للشاعر (الأب نعمة الله حبيقه). اختارت له اللجنة الفنية الفاحصة في ذلك الوقت اسم (وديع الصافي)، نظرا  »لصفاء صوته«، ليكون اسمه الفني، وكانت تلك اللجنة مكونة من السادة ميشيل خياط وسليم الحلو والبير أديب ومحيي الدين سلام، كما اعتمدته رسميا كمطرب للأذاعة. التفتت اليه الأنظار، بعد تلك المسابقة، والفوز الكاسح الذي حققه، فتبناه الأستاذان في الموسيقى (ميشيل خياط) و(سليم الحلو)، وكان يعملان في البرنامج الموسيقي لأذاعة معروفة في ذلك الوقت باسم (أذاعة الشرق الأدنى) ولذلك كانت استوديوهاتها بمثابة معهد موسيقي تتلمذ فيه ودبع الصافي على ايدي اساتذته، وكان لهما الأثر الكبير في تكوين شخصيته الفنية، وتأثيرها الجماهيري الواسع، كانت البداية التي انطلق منها اللحن الذي شدا به هو (طل الصباح وتكتك العصفور) عام 1940، ويقول المطلع:

طل الصباح وتكتك العصفور سهرنا وطولنا بنومتنا

شوفي الشفـق فرق علينا النور والشمس منشورة عا خيمتنا

والكون غاشي والفلك مسحور

كان النجاح الذي حققه في تلك البدايات، عاملا في ثقته بفنه وبصوته، وكان القبول الذي يصادفه من مستمعيه يعزز تلك الطاقة من الابداع التي تولدت فيه، ودافعا للمزيد من هذا التقدم.

مرحلة الأنتشار

كانت الأغنية اللبنانية تشق طريقها، عبر ظروف صعبة، فقد كانت لبنان في ذلك التاريخ ما زالت تحت الأنتداب الفرنسي، وكأي بلد محتل يبحث عن طريق للتحرر، كانت الطرق كثيرة معقدة وغير ميسورة، تزرع قدرا من الاحباط لكن على جانب آخر فان الفن له سحر انساني خاص، ومن هنا فان صوت وديع الصافي حين انطلق، كان ايذانا بميلاد فن رفيع عالي القيمة، وبمثابة ظهور جبل آخر انساني التكوين، في مقابل جبل قديم طبيعي النشأة والتكوين. كانت مسيرته الفنية بمثابة شق طريق للأغنية اللبنانية، والتي كانت من قبله ترسم ملامحها مع بعض المحاولات الخجولة، عن طريق إبراز الهوية وتركيزها على موضوعات لبنانية وحياتية بكل شجونها آنذاك. ذاع صيته عام 1950 وأصبح أول مطرب عربي يغني الكلمة البسيطة باللهجة اللبنانية، بعد أن أضاف إلى أغانيه موّال الـ »عتابا« الذي أظهر قدراته الفنية. ثم كان عليه ان ينطلق ليجدد فنه بلقاء مدارس مختلفة من التلحين ورواد الغناء، ومن هنا جاءت زيارته الى مصر عام 1944. التقى في تلك الزيارة بالموسيقار محمد عبدالوهاب، الذي عبر عن تقديره واعجابه بذلك الصوت قائلا (لا أصدق أن هناك من يملك ذلك الصوت الجميل). في مصر أيضا عام 1947 ظهر في فيلم (زهرة السوق) للفنانة بهيجة حافظ، واخراج حسين فوزي، وقد صادف هذا الفيلم العديد من المشاكل التي صاحبت عرضه. تعالى رصيده من الشهرة فوصل الى الجالية اللبنانية والعربية في البرازيل التي ظلت تناديه أن يذهب اليها، فشد الرحال الى هناك، وأغراه النجاح المتواصل أن يمد من فترة الزيارة هناك، التي امتدت الى نحو ثلاث سنوات. عاد من البرازيل ليقدم رائعته الجميلة التي تعلقت بها الآذان (عا اللومه) وتقول كلماتها

عا اللومه

اللومه اللومه اللومه دخل الله ودخل عيونك

ياحلوة ويا مهضومة دخيل الله ودخيلك

شوفي الدنيا مقابيلك غني لي وبغني لك

عاللومه اللومه اللومه يا بلسم قلبي الشاكي

كان وديع الصافي بتلك الأغنية رائدا من رواد الكلمة البسيطة، وباللهجة اللبنانية بكل مفراداتها، التي تشكل جسرا في التواصل الأجتماعي بين اللبنانيين خاصة في دول المهجر، كما أنها كذلك دعامة من

دعامات التقارب في الداخل، ولنجاحه المذهل أطلق عليه (صاحب الحنجرة الذهبيه)، وبذلك تسلل وديع الصافي رويدا رويدا الى وجدان كل مستمعيه، مع تكاثر اعدادهم. في عام 1952 دخل وديع الصافي الى عش الزوجية، حين تزوج من ملفينا طانيوس، وهي فتاة لبنانية من

وديع الصافي
 أرزة من أرزات لبنان العظام

قريباته، فقد اطمأن الى جهوده ومكانته الفنية، وتطلع الى استقراره العائلي، وقد أثمر هذا الزواج عن دنيا ومرلين وفادي وأنطوان وجورج وميلاد، وكان بيته هو قلعته الاجتماعية.

وبين كثرة أغانيه وتعددها نستطيع أن نرصد له أعمالا تمثل محطات رئيسية للمتابعين لفنه ومن هذه المحطات أو العلامات أغنية (ولو) التي شدى بها فأطرب وأبدع

أغنية.. ولـــــــو

ولو هيك بتطلعوا منا؟ وما تعودوا تسألوا عنّا عالقليلة تذكروا الماضي..

بسمة على شفاف الهوى كنا.. ولو ولو ولو هيك بتتركوا المجروح؟

عفراقكم صفّى عآخر روح متعوب فكرو منكسر قلبو

عفراقكم روحو بتجي وبتروح ولو.. ولو ولو ولو ولو

ومن أشهر ماقدم كذلك : عن لبنان غنى (لبنان يا قطعة سما / عا الأرض مالها تنا

 لوحات الله راسمها / شطحات أحلى من الحلى

وغنى لمصر (عظيمة يا مصر/ يا أرض النعم

 يامهد الحضارة / يا أرض الكرم

كما غنى من الروائع أيضا الكثير من الأغنيات الطربية (يا عيني عا الصير) و(على رمش عيونها) و(الله يرضى عليك يا ابني) وغير ذلك، من الأغنيات والأناشية، والمواويل) يحيث أن تراثه يشكل قاموسا فريدا من الألوان الشجية والطربية التي تتخذ من الكلمة ذات الجرس والمعنى في مستوياته الرصينة عنوان لها، والألحان ذات الرتم والأيقاع الذي يسكن الوجدان، وليس فقط الذي ينعش الآذان.

  وفي أواخر الخمسينات شارك مع عدد كبير من الموسيقيين اللبنانيين في عمل لنهضة الأغنية اللبنانية انطلاقًاً من أصولها الفولكلورية. كما انه في اطار دعم هذه النوعية من الفن اللبناني شارك في العديد من المهرجانات الغنائية على الصعيدين العربي والدولي، ومن هذه المهرجانات التي شارك فيها: العرس في القرية (بعلبك 1959 وموسم العز ومهرجان جبيل عام 1960 ومهرجانات فرقة الانوار 1960- 1963، ومهرجان الارز 1963، وارضنا الى الابد (بعلبك 1964)، ومهرجان نهر الوفا 1965، ومهرجان مزيارة 1969، ومهرجان بيت الدين 1970 – 1972، ومهرجان بعلبك 1973- 1974.

سنوات الغربة

عرف وديع الصافي الغربة في حياته بعد ان بدأت الحرب الأهلية في لبنان، والحرب تعني القتال والدمار، ويتوارى العود والكمان والناي، وتتوارى معهم كلمات المودة والحب والحنان، ولذلك يغترب الفنان بعد ان اغتربت أدواته، واختفت من على الساحة، ليتفرد البارود والنار. غاب لبنان الحضارة، وأطلت شريعة الغاب، فكان ذلك ايذانا باغتراب الفن والفنان. غادر وديع الصافي لبنان عام 1975 وذهب الى مصر، وبعدها الى بريطانيا ثم الى فرنسا حتى 1978، وقد حصل وديع على عدة جنسيات مصرية وفرنسية وبرازيلية بالأضافة الى الجنسية الأصلية اللبنانية. جند وديع الصافي موهبته في الخارج في الدفاع عن لبنان الفن والثقافة والحضارة، والدعوة الى الوفاق والوئام بين الشعب الواحد.

تكريمه

حظي وديع الصافي بالعديد من الوان التكريم، بصفته أحد الفنانين الكبار الذين أضافوا الى فن الغناء من حيث الأداء الرفيع لكل الألوان الغنائية، ومن المعروف انه لم يكن مطربا فقط، عرف باللعب على اوتار الصوت خاصة ولكن باعتباره موسيقيا قدم الكثير من الحانه، كما غنى

وديع الصافي
لقاء الطرب مع الصوت والعود والجمهور

لكبار الملحنين، وفي المقدمة منهم فريد الأطرش ومحمد عبدالوهاب والأخوين رحباني وفيلمون وهبه. فيما اشتهر به كذلك من فن الموال بحيث أصبح مدرسة يحتذى بها. نال خمسة أوسمة لبنانية من الرؤساء كميل شمعون وفؤاد شهاب وسليمان فرنجيه والياس الهراوي أما الرئيس اميل لحود فقد منحه وسام الأرز برتية فارس، ومنحته جامعة الروح القدس  الكسليك دكتوراه فخرية في الموسيقى في 30 يونيو عام 1991 وهي جامعة خاصة في لبنان تأسست عام 1950 وتقع في مدينة جبل لبنان. كما منحه سلطان عمان وساما رفيع المستوى يدعى وسام التكريم من الدرجة الاولى عام 2007. كما اقام له المعهد العربي في باريس حفل تكريم بمناسبة اليوبيل الذهبي لأنطلاقته وعطاءاته الفنية المتميزة

رحيله

خضع وديع الصافى عام 1990 لعملية القلب المفتوح، ورغم نجاح العملية الا انها قد تركت آثارها على الجسد المنهك من كثرة الترحال، وعشقه الشديد لفنه، وما يبذله فيه من عطاء، ولكنه استمر مع ذلك في دأبه وتواصله فى عطائه الفنى بالتلحين والغناء. ان ولع الفنان بفنه واخلاصه لجماهيره له خطوطه الحمراء المنذرة بالخطر، ولكن وديع الصافي الفنان كان هو الآمر الناهي على الجسد المرهق حتى أزفت ساعة الرحيل. لقد تعرض لوعكة صحية خلال وجوده فى منزل ابنه، حيث شعر هناك بهبوط حاد فى الدورة الدموية، نقل على إثره للمستشفى، ولكن لم تفلح جهود الأطباء فى إنقاذه، بسبب عدم تحمل قلبه للإجراءات العلاجية، ورحل الفنان الذي امتعنا بفنه وأطربنا بصوته يوم 11 اكتوبر عام 2013، وقد شيع فى كاتدرائية مارجرجس فى وسط بيروت، ودفن فى بلدته نيحا الشوفية، وأقيم له مأتم رسمى وشعبى حضره حشد كبير من الشخصيات الفنية والسياسية والاجتماعية فى بيروت. رحل وديع الصافي المطرب والملحن والرائد الذي قام بترسيخ قواعد فن الغناء اللبناني، وفي نشر الأغنية اللبنانية عبر السماوات المفتوحة لكي تصل الى كل الآذان.

العدد 98 – تشرين الثاني 2019