بين العقل والوثنية

رؤوف قبيسي

من عاداتنا السيئة أننا نحاسن ونساحن، نحابي ونمالىء، نتصنع ونتكلف. فإذا أحببنا حاكما أو خليفة مجدناه وأطعناه، ورفعناه فوق مستوى البشر. وإذا أحببنا أدباء أو شعراء أو فنانين، صاروا في نظرنا أجلاء في كل شيء، لا نقبل غضا من شأنهم ولا نقدا لسيرتهم، مهما كانت الأسباب. وإذا كانوا من الزعماء  »الروحيين« صاروا في نظرنا مقدسين معصومين من الخطأ!

فكرت في ذلك وانا أقرأ مقالا في صحيفة إنكليزية عن الشاعر البريطاني تيد هيوز، أحد أشهر شعراء الإنكليزية في العصر الحديث. كان المقال عن الجوانب الغريبة أوالشاذة في شخص هذا الشاعر، وقد حملني الموضوع على التساؤل: لماذا لا نلجأ إلى هذا النوع من التحليل كما يفعل الغربيون، فنتناول الجوانب الغريبة أو الشاذة في شخصيات شعرائنا، وشخصيات الذين صنعوا التاريخ العربي القديم والحديث؟

نحن لم نعثر مثلا على دراسة تتناول الحياة الخاصة لشاعر كأحمد شوقي، أو خليل مطران، أو حافظ ابراهيم، أو عمر أبو ريشة، أو نزار قباني، أو حتى الشاعر المعاصر أدونيس. لا بد أن هناك أسبابا تجعلنا نتهيب من تناول شخصياتهم بنوع من التحليل الدقيق، وإذا اتفق وعثرنا على شيء من هذا، فلا بد أن يكون جليلا عظيما، خصوصا إذا كان الكاتب مفتونا بالشاعر الذي يكتب عنه.

كل ما قيل في شعرائنا الذين نحب عظيم ورائع، وهم خليقون به وله مستحقون. لا نحلل شخصياتهم كأفراد، يصيبون ويخطئون ويعيشون حياة فيها المر وفيها الحلو، وفيها الرصانة وفيها العبث، وفيها الجد وفيها المجون، أي السيرة التي تشبه حياة كل إنسان، مذ كان البشر وكانت الأرض.

هل حلل أحد نفس شاعر مثل شوقي؟ كل ما نعرفه عن  »أمير الشعراء« هو من التحليلات التي نشرت، والتي تناولت فنه وشعره. فنحن لا علم لنا بحياة شوقي الخاصة، هل كان سويا أم مجنونا، نزقا أم ضعيفاُ، كافرا ملحداُ أم شديد الإيمان؟ وكيف كانت حياته مع زوجته وأولاده، ومع من عرف من النساء ومع الذين عرفهم وعرفوه؟ كل ما نعرفه عنه لا بد أن يكون جميلاَ ورائعاَ، أما الجوانب الأخرى في شخصه، الجوانب الغريبة أو الشاذة إن وجدت فلا نعرفها، وإن عرفناها فمن العيب أن نتطرق إليها أو نعيرها اهتماما!

إن تحليلا من هذا النوع مفيد من ناحية تقييم آثار الشاعر الفنية، لأنه يزيد معرفتنا به وبمعاني شعره، ويجعلنا نتتبع حياته خطوة خطوة، ونفهم نزواته وطباعه، كأننا ربينا معه وجايلناه. لكن الغريب أننا، بحكم تربيتنا منذ أن نولد، محكومون بثقافة وثنية، فالملك ملك والرئيس رئيس، والحاكم حاكم، وشيخ القبيلة شيخ يتوجب إحترامه. أما الشعراء الذين نحب ويستهوينا شعرهم، فهم من غير طينة الناس العاديين، أو هكذا يجب أن يكونوا!

حين وضع ميخائيل نعيمة كتابه عن جبران، تعرض لنقد الذين لم يكن جبران في نظرهم إنسانا عاديا، بل أشبه بنبي منزه عن كل عيب، لا لشيء إلا لأنه ألف كتاب أسماه  »النبي« ! جاء الكتاب صورة فوتوغرافية حية عن جبران كما عرفه نعيمة، كما هو كائن من لحم ودم، لا كما تصوره آخرون، ومنهم الذين لم يقرأوا حتى آثاره الأدبية.

كان نعيمة في الكتاب فنانا ومحللا دقيقا. أبان ما كان في جبران من ضعف بشري، وما اعترضه من عثرات وما فعل ذلك، إلا ليظهر لنا كفاح جبران، وجميل إيمانه، وما كان أجمل ما في حياته  »وهو صراعه المستتب مع نفسه، لينقيها من كل شائبة، ويجعلها جميلة كالجمال الذي لمحه بخياله، وبثه بسخاء في رسومه وسطوره«. علما بأن نعيمة كان منصفا ووفيا لجبران حين وصفه، بأنه أعظم كاتب ظهر في الشرق منذ أجيال.

 أود هنا أن أذكر بمقال نشره طه حسين في الصفحة الأدبية من جريدة  »السياسة« التي كان تصدر في القاهرة في ثلاثينات القرن الماضي، والتي كان يرئس تحريرها محمد حسين هيكل. كان المقال عن شعراء عصر الرشيد والمأمون، وفيه قال  »‘عميد الأدب العربي« أن قصائد أولئك الشعراء، كانت مرآة صادقة لزمانهم، وأن عصرهم لم يكن عصر حضارة وثقافة فحسب، بل كان أيضا،  عصر لهو وشك وعبث ومجون.

لم يرق هذا الكلام من كان يحب الرشيد والمأمون ويراهما منزهين عن كل عيبـ ومن هؤلاء رفيق العظم، الأستاذ في الجامعة المصرية، الذي كتب في الصحيفة عينها مقالا دافع فيه عن الرشيد والمأمون لأنه كان يحب الرشيد والمأمون، واعتبر المقدمات التي استخرجها طه حسين من شعر أبي نواس وأضرابه من شعراء المجون، لا تكفي لتصورعصر الرشيد والمأمون، وتبنى عليها  »أحكام سوداء في تاريخ أبيض ناصع«، حسب قوله.

وأنقل بعض ما جاء في رد طه حسين على رفيق العظم:

لا يزال العالم الجليل رفيق بك العظم، وكثير من العلماء المعروفين في الشرق يسبغون على التاريخ الإسلامي صفة من الجلال والتقديس الديني، أو الذي يشبه الديني، تحول بين العقل وبين النظر فيه نظرا يعتمد على النقد والبحث العلمي الصحيح. فهم يؤمنون بمجد القدماء من العرب، وجلال خطرهم، وتقديس مكانتهم. وهم يضيفون إليهم كل خير وينزهونهم عن كل شر، وهم يصفونهم بجلائل الأعمال ويرفعونهم عن صغائرها، وهم يتخذون ذلك قاعدة من قواعد البحث ومقياسا من مقاييس النقد. فإذا أضفت إلى الرشيد شيئا، فليس هذا الشيء صحيحا إلا إذا كان في نفسه خليقا بالرشيد، يليق به وبمكانته. وليست هذه المكانة هي مكانته نفسها، وإنما هي المكانة التي خلعها عليه القدم، وبعد العهد، وجلال الخلافة، وكرامة الدين وسطوة الأمة العربية.

فأما النقد التاريخي من حيث هو نقد تاريخي، فأما النظر إلى الناس من حيث هم ناس، ووصفهم بما يمكن أن يوصف به الناس، وتحليل أخلاقهم وعاداتهم كما تحلل أخلاق الناس وعاداتهم، والملاءمة بين هذه الأخلاق والعادات، وما اكتنفها من الظروف والأحوال، فذلك شيء قلما يفكر فيه هؤلاء العلماء أو يلتفتون إليه.

وأنا أزعم، وأعتقد أنني قادر على إثبات ما أزعم، أن القرن الثاني للهجرة كان عصر لعب ولهو وشك ومجون. كان عصر انتقال من بداوة إلى حضارة ومن سذاجة إلى تعقيد، ومن فطرة خالصة إلى علم وفلسفة، وكان فوق ذلك كله عصر امتزاج بأمم مختلفة وشعوب متباينة، منها البدوي والحضري، ومنها الجاهل والعالم، ومنها الغني والفقير.

أفتريد ان تختلط هذه الأمم وتمتزج هذه الشعوب دون أن تضطرب لهذا الإختلاط والإمتزاج أخلاق وعادات ونظم؟ دون ان ينهار بناء قديم ويقوم بناء جديد؟ أفتريد أن أن يمتزج العربي والفارسي والمصري والرومي، وأن تبقى الأخلاق والعادات كما كانت دون أن ينالها فساد أو اضطراب؟

ها نحن عاشرنا الأوربيين معاشرة ليست بالقوية ولا بالمتصلة، فانظر إلى أثرها العميق في حياتنا العامة والخاصة، ثم حدثني عما يمكن أن يحدث لو ان الإتصال بيننا وبين الأوروبيين، كان من القوة والعمق مثل الإتصال بين العرب والفرس والروم.

أذكر في رحلتي الأخيرة إلى اليونان، أن اتصلت بصديق يوناني كان من عشرائي في لندن، وبدأنا نقطع بسيارته شوارع العاصمة أثينا، ونتحدث في أسباب الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد. كنت أتوقع منه أن ينحو باللائمة على الأثرياء، ويحملهم مسؤولية ما وصلت إليه البلاد من أزمات، بحكم معرفتي بفكره السياسي، إذ كان في شبابه ناشطا في الحزب الشيوعي. لكنه، بدلا من ذلك، بدأ يلوم الشعب كله، وفوجئت به يقول إن اليونانيين أمة كسول، وجذور أزماتها مزروعة في  »الأكروبوليس«، في إشارة إلى المعبد التاريخي المرتفع على إحدى هضاب أثينا، والذي بني حوالى ثلاثة الآف سنة قبل الميلاد. وفهمت ما رمى إليه، وهو أن اليونانيين متعلقون بماضيهم وأمجاده، إلى حد ينسون معه حاضرهم، ولا يعملون للمستقبل كما يفعل الأوروبيون الاخرون.

لا أضيف شيئا إلى ما قاله ذلك الصديق وإلى ما قاله طه حسين، فكلام  »عميد الأدب« يكفي ويفي كما يقال. ولو نظرنا في الناس والأشياء كما كان ينظر ذلك المفكر الراحل، لتبدد الغيم وزال الوهم، وخرجنا من الظلمات إلى النور، من الصفحات  »المقدسة« إلى رحاب العقل الذي لا إمام غيره، كما يقول شاعرنا الضرير البصير أبو العلاء المعري.

العدد 98 – تشرين الثاني 2019