لبنان: لا ثورة من غير شهداء، السلطة أسيرة مأزقها والانتفاضة تشق طريقها الطويل

بيروت ـ غسان الحبال

في اليوم السابع والعشرين على قيامها قدمت الثورة اللبنانية شهيدها الثاني علاء أبو فخر ابن الشويفات الذي سقط غدرا وعمدا عند جسر خلدة أمام عيون زوجته وطفله عمر، وذلك بعد أن كان الشهيد حسين العطار قد قتل ثالث أيام الانتفاضة على طريق المطار خلال محاولته التصدي لابتزاز المسافرين ماديا قبل نقلهم إلى مبنى مطار رفيق الحريري الدولي.

فمع صدور هذا العدد تكون انتفاضة الشعب اللبناني، التي انطلقت في السابع عشر من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، قد ارتفعت إلى مستوى الثورة بدماء شهيديها، وهي دخلت يومها الخامس والاربعين، بعد أن كان عشرات الآلاف من طلاب المدارس الرسمية والخاصة قد انضموا إليها ليضاعفوا زخمها والضغط على السلطات التقليدية تنفيذا لمطالبهم المحقة في وطن حضاري تسوده المساواة والعدل، ومجترحين أشكالا سلمية لا ينقصها الإبداع في سبيل الوصول إلى أهدافهم المشروعة، فيما أركان السلطة في حال مراوحة ومراوغة وطرح مناورات مكشوفة لا هدف لها سوى الالتفاف على مطالب الناس وإطلاق وعود بالإصلاح مع تمسكهم بمواقعهم التي طالما  »باضت« لهم ذهبا.

إلا أن ما تم إنجازه خلال الأسابيع الستة الماضية لم يكن للسلطة ان تتنازل عنه من غير الضغوطات التي مارسها الشارع عليها: إسقاط الحكومة، تخفيض تسعيرة الخليوي وتحديدها بالعملة المحلية وليس بالدولار الاميركي، التراجع عن الضرائب الجديدة وخفض بعض القديم منها،

الثوار في ساحة رياض الصلح: استرداد بهجة الحياة

الموازنة بعجز صفر.

وإذا كان مطلب إسقاط النظام الطائفي في لبنان يعتبر خلافياً على مستوى السلطة القائمة، فإن الإجماع في صفوف المنتفضين يعتبر تاما ومتحققا ومؤكدا على مطلب استقلال السلطة القضائية التي يفترض أن تعمل على استعادة أموال الدولة المنهوبة ومحاسبة المسؤولين المتهمين بنهبها، فيما يبدو الحكم مرتبكا أمام إصرار الانتفاضة على تشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة تنجز انتخابات لبنانية مبكرة لإعادة تركيب السلطة التشريعية.

ومع حراكهم اليومي، واجه الثوار أكثر من محاولة لإطفاء شعلتهم، وكان لابد لهم من الانتقال إلى مرحلة ثانية من حراكهم تمثلت بمسيرات وتظاهرات إلى بعض مراكز المؤسسات الرسمية والخاصة المتهمة بالفساد، وذلك في مختلف المناطق اللبنانية، وعمدوا إلى تعطيلها ومنع الدخول إليها، وقد جوبهت بعض هذه التحركات بالقمع من قبل القوى الامنية، وبمحاولات هدفت إلى شق صفوف المتظاهرين عبر لجوء بعض المندسين إلى إثارة النعرات الطائفية والمذهبية، وكلها محاولات باءت بالفشل أمام وعي الثوار ووضوح رؤيتهم وقراءتهم الصحيحة والمبرمجة لاهدافهم الوطنية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

تصعيد يواجه طلب الهجرة

وفي محطة أثارت غضب الناس والانتفاضة، وتمثلت بمقابلة تلفزيونية أجراها الإعلاميان سامي كليب (تلفزيون الميادين) ونقولا ناصيف (جريدة الاخبار) مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، مساء الثاني عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وأعلن فيها الإصرار على حكومة مختلطة من التكنوقراط والسياسيين، كما دعا فيها من يرى  »عدم وجود أوادم في البلاد الى الهجرة« ومغادرة لبنان. هذه المواقف للرئيس عون دفعت الانتفاضة للانتقال إلى مرحلة ثالثة تصعيدية من حراكهم، وكان ان انتشرت التظاهرات الشعبية الغاضبة في مختلف المناطق فور انتهاء المقابلة، وعاد المتظاهرون إلى قطع الطرقات بالحجارة والإطارات المشتعلة، كما دعوا إلى مسيرة شهدها يوم 13 نوفمبر/ تشرين الثاني إلى القصر الجمهوري في بعبدا، سجل خلالها لجوء عناصر من مخابرات الجيش إلى خطف الناشط خلدون جابر من قلب المسيرة السلمية قبل الإفراج عنه بعد 24 ساعة حيث تبين أنه تعرض للعنف أثناء التحقيق معه. ويعلق ناشط في الحراك الشعبي على هذه الحادثة بالقول:  »إنها ليست الأولى من نوعها، إن استدعاء الناشطين وممارسة الضغط على الشارع أمر مريب جدًا، وكأننا في صدد نظام بوليسي يطل برأسه. الاعتداء على الموقوفين بالضرب لإجبارهم على  »الاعتراف« مسألة لا يمكن القبول بها في أي حال«.

مآخذ الناشطين على مواقف عون

ويسجل ناشطون عددا من  المآخذ على كلام الرئيس التي فجرت الشارع واغلقت الطرق، منها:

1- تهديده  »بالسلبية مقابل سلبية الحراك الشعبي في الساحات والشوارع«.

2- لم يقدم تصوراً للخروج من المأزق.

3- تأخير بدء الاستشارات النيابية لتسمية رئيس للحكومة.

4- تحذير المتظاهرين من قمعهم إذا استمر الوضع على ما هو عليه.

5- عدم حسم الوضع بالنسبة للوزير جبران باسيل،  »الذي من شأنه أن يتخذ القرار المناسب كرئيس لأكبر كتلة نيابية«.

6- أكثر ما أثار غضب المتظاهرين قول الرئيس انه:  »اذا لا يريدون تصديق كلامي فأنا لن أصدقهم، هيدا مبدأ المعاملة بالمثل، لا يمكن وضعي ضامنا لكل ما سيحصل، نحن نريد العمل حتى نخلص أنفسنا، أما  »كوني فكانت« فليبحثوا عنها في مكان آخر«، مشددًا على ان  »العهد فيه مجلس نواب وحكومة وليس أنا وحسب، اذا خسرنا التنسيق بين القوى الموجودة، فلن تكون الحكومة منتجة وسنواجه من لا يريد أن يعمل«.

بدوره، مصدر مقرب من رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري (رفض ذكر اسمه  »نظرا لدقة المرحلة«)، يعلق على المقابلة التلفزيونية لرئيس الجمهورية بالقول انّ الرئيس عون  »لم يقدم في مقابلته التلفزيونية جديداً، وكان من الأفضل لو لم يدل بها في هذه الظروف، لأنها جاءت تصعيدية، ولم تشكل مفتاح حلول، إذ جاء تلقفها السلبي وكأنه معدّ سلفاً، بدليل أنّ الحراك كان جاهزاً برده السلبي عليها بالتظاهرات وقطع الطرق ليلاً«.

ويلفت إلى أن  »استشارات التكليف إبتعدت أكثر مما اقتربت، وأنّ الأمور عادت الى مربع التعقيد، وباتت بحاجة الى قدرات خارقة لحلها، قد لا تملكها السلطة وقد لا يملكها الحراك، فعون رمى الكرة في ملعب الحريري، وحمى الوزير باسيل بتأكيده أن لا أحد يستطيع أن يمنعه ديموقراطياً من أن يكون موجوداً في الحكومة الجديدة، وأمّن للحراك، في الوقت نفسه وقوداً للتحرك الإضافي«.

اشتباك سياسي أم أمني؟

ويحذر المصدر من أنّ  »البلد ربما يكون قد دخل في وضع اشتباكي، حيث اشتعل فتيل الإشتباك الذي قد يفتح الوضع على ألوان متعددة من الصدام، بدليل أنه بعد المقابلة مباشرة برزت حركة الإعتراض في عدد من المناطق المحسوبة على تيار  »المستقبل«، ما فسّر أنه اعتراض للحريري على مضمون ما قاله عون، حيث تبيّن لاحقا أنّ صدى المقابلة كان سلبياً في بيت الوسط«.

ويعتبر المصدر  »أنّ الصورة بدت غير مطمئنة، وان الوضع بات يتطلّب اتصالات في منتهى الدقة والإلحاح لبلورة مخرج، وبالتالي الكرة في ملعب كل القوى السياسية، خصوصاً أنّ هناك خوفاً من تدخل الأشباح لتتلاعب بالحراك«.

ويختم قائلا أنّ  »لبنان دخل في مرحلة ما فوق الخطر، لأنّ المواقف التي أعلنها رئيس الجمهورية ربما تكون قطعت خط التواصل بين الحريري والتيار الوطني الحرّ، إذ انّ عون كشف كل الموقف وخلاصته: لا لحكومة تكنوقراط ولا فيتو على توزير أحد، ونأى بنفسه عن مسؤولية

إضاءة الشموع حيث سالت دماء شهيد الثورة علاء أبو فخر عند جسر خلدة

الأزمة التي تتحمّلها الطبقة السياسية بكاملها، لكنّ الخشية هي أن يأتي رد الفعل من الحريري على شاكلة إرجاع الكرة الى ملعب رئيس الجمهورية وإعلان عزوفه عن الترشح لرئاسة الحكومة«.

هذا على جبهة العهد أو الحكم، فماذا عن الجبهة المقابلة، أين الثورة اليوم وأي مرحلة بلغت على صعيد تحقيق المطالب الاصلاحية التي من شأنها أن تضع لبنان على سكة التنمية الشاملة؟

الثورة وأهدافها الإصلاحية

1- يشي كلام رئيس الجمهورية في مقابلته المتلفزة، بأن السلطة قرّرت إعتماد موقف المواجهة مع الإنتفاضة بديلا لموقف الإستيعاب الذي مارسته طوال 4 أسابيع من بدء الانتفاضة، وذلك على الرغم من التراجع الذي شهده تحالف السلطة السابق (التسوية الرئاسية) في اعقاب انطلاق الانتفاضة وانفراط عقد التسوية الذي كان قد بدأ يتزعزع منذ ما قبل 17 أكتوبر/ تشرين الاول الماضي.

وفي ضوء هذا الواقع بات من الصعب على التحالف المبتور إدارة الأزمة الوطنية السياسية والإقتصادية/النقدية وتأمين شروط مواجهة هذه الأزمة في ظل الظروف السياسية الراهنة.

2- بانتقالها إلى مرحلة تصعيدية جديدة، وارتفاعها إلى مستوى الثورة، ازدادت الإنتفاضة قوة وتبلوراً وتصميماً، وبات استهدافها لموقع الرئاسة جزءا من موقفها الشامل تجاه السلطة، كما بات ميزان القوى السياسي راجحا لصالحها مهما استخدمت السلطة من أدوات تهديد ووعيد.

3- أصبح من الضروري أن تبادر السلطة إلى تقديم الثمن المطلوب من قبل الناس الذين يحتلون الشوارع والساحات في طول البلاد وعرضها، وذلك ليس عبر محاولة رشوتهم بتوزيرهم في الحكومة، بل بخطوات جوهرية تلاقي مطالبهم وتلبّي طموحاتهم في دولة نظيفة بلا فساد ومفسدين، وتبعد عن الحكومة كل الوجوه المستفزة، والشركاء في تقاسم السرقات والصفقات طيلة السنوات الماضية.

الانتفاضة تتجاوز مطالبها

4- لم تعد الانتفاضة اللبنانية تقف عند حدود تشكيل حكومة من عدمها. الحكومة وشكلها وحصصها وتوزيعاتها، أصبحت تفاصيل في ظلّ ما كرّسه اللبنانيون على مدى أكثر من شهر. وهذا الكلام ليس من باب التفاؤل بالتحركات، بقدر ما هو جزء من مباحثات تقوم بها معظم الأحزاب والقوى السياسية، التي تجد نفسها وقد أصيبت بأعطاب كبيرة من جرّاء ما حدث.

إن كل ما جرى على الأرض من حيوية التحركات ونوعيتها وإبتكارها ودخول عناصر جديدة إليها، أثبت أن اللبنانيين دخلوا في مسار طويل من التطوير والتجديد لم يعد بالإمكان تجاهله، لا بتشكيل حكومة تكنوقراط، ولا بإخماد هذه المطالب والتحركات بأي من الألاعيب السياسية أو التشريعة أو القانونية.

5- إدراك السلطات الدستورية التشريعية والتنفيذية والقضائية التي اعتادت على العمل ضمن إطار مقفل وشبكة مقفلة لا أحد يحاسبها عليه، أن المضي في صيغة العمل هذه أصبح مستحيلاً، حيث يعيد الفاسدون حساباتهم الآن، فيما يسود الخوف من المرحلة المقبلة اوساطهم لأن المحاسبة آتية ولا ريب في ذلك.

6- لقد فاجأ الوعي والنضوج السياسي اللذين برزا في صفوف الشباب المنتفض، الدول الأجنبية والعربية التي تراجع حساباتها وتعيد النظر في تقييمها للانتفاضة، ذلك أن محاولات شق صفوفها عبر الاستفراد برموزها وشخصياتها واحدا بعد الآخر، أو دس أزلام السلطة بين

حسين العطار على طريق المطار حيث ارتقى شهيدا

المنتفضين، او بث الشائعات والأكاذيب عبر وسائل التواصل الإجتماعي، أو جر الجيش اللبناني والمنتفضين إلى صدام، كلها محاولات باءت بالفشل نتيجة وعي المواطنين لأهداف حراكهم المشروعة.

واليوم، فيما تواصل السلطة بحثها عن طريق للخروج من الأزمة عبر محاولة النجاح في تشكيل حكومة جديدة مؤلفة من سياسيين وتكنوقراط لتأمين التغطية السياسية اللازمة كي تتمكن هذه الحكومة من نيل ثقة الكتل النيابية، فإن الناس يتابعون انتفاضتهم الواعية حتى بلوغ أهدافهم وأولها حكومة جديدة من خارج الطبقة السياسية ومؤلفة من أصحاب الكفاءة والنزاهة والقدرة، وهم يدركون تماما أن الطريق إلى لبنان العادل والسيد والمستقل والحر ما زال طويلا، بقدر ما يدركون بأن لا أحد يمكنه أن يلغي الآخر، لكن إيمانهم قوي بأن التنحي هو مصير  الطبقة السياسية الحالية التي ما زالت تحتل مراكز القرار منذ 30 عاماً على الرغم من ثبوت فشلها وفسادها بالوقائع والوثائق.

 

 

 

العدد 99 –كانون الاول 2019

.