المؤامرة الحقيقية التي تواجهنا..هي سياساتنا الخاطئة  – الثورة صرخة من أجل التصحيح..وليست سلاحا لهدم الاوطان

أمين الغفاري

هل ما زالت رياح مايسمى بالربيع العربي تعصف بأمواجها العاتية أرجاء الأمة العربية، وهل يمكن أن نتجاوز في احكامنا،ونعمد الى ما يريحنا ويوفر علينا اي جهد لكي نحلل أو حتى نفهم وننسب كل هذه الأعاصيرالى مفهوم المؤامرة الخارجية.نتساءل بكل البراءة،هل هناك مؤامرة مازالت تنسج شباكها حولنا في  هذا القطرأو ذاك.أم أننا بالفعل في حاجة الى اصلاح جذري لهذا الكم الهائل والمتراكم من القضايا النائمة،والتي أصبحت  بفعل اهمالها،ومضي العقود عليها، دون حل، قضايا شائكه. ان نظرة عابرة على الخريطة العربية كافية، لكي ترى الدخان الغاضب وهو يتصاعد لحد الأختناق،في سماء أكثر من دولة.

لبنان

في لبنان : الذي لم يكن فقط هو أرض الجمال والتسامح والطبيعة الساحرة،بل كان أيضا واحة العرب التي كان يفر لها من يجد على أرض وطنه صعوبة في ابداء الرأي،أو وقع في خصومة مع النظام الحاكم. كان البعض يصنف لبنان بأنه سويسرا الشرق العربية، فهو المرفأ الذي

لبنان..أين المؤامرة ؟
ثورة ضد الهيمنة والطائفية والفساد

يلتقط فيه السياسيون أنفاسهم،لأنه يتسع للجميع،وكان لبنان ساحة لحرية الرأي والتعبير،بقدر ماكان أيضا مركزا للبهجة وللطرب.الصوت الشادي فيروز، والصوت الساحر وديع الصافي والأخوين رحباني،ثم الرائعة ماجدة الرومي،وأيضا مدرسة للفكر جبران خليل جبران وايليا ابو ماضي،ومعقلا للساسة الكبار رياض الصلح صاحب المقولة الخالدة (لن يكون لبنان للأستعمار مقرا أو ممرا) وكمال جنبلاط الزعيم والمفكر السياسي والكاتب الذي تصدى للقوى الاستعمارية وللأحتلال وللطائفية ولكل الوان الفساد.

لكن لبنان لظروف تاريخية،ولطبيعة القوى المؤثرة،فان نظامه في الحكم قد تشكل على اساس طائفي،وتماهى الى حد أن توطن هذا النظام،وأصبح  قيدا على الحريات العامة وليس حلا لمشاكلها وقضاياها،ومع الأستسلام له أدى الأمر الى التقسيم الذي تداعى بدوره الى الأنقسام،واستدعى كل ذلك في النهاية هذا الانفجار الذي شاهدناه، يطالب بدولة عمادها الوطن والمواطن، ولايحكمه سوى الدستور على اساس المواطنة،وليس المحاصصة ولا يحميه سوى سلطة القانون، التي تطال الجميع، فهل يمكن بعد كل ماجرى أن نعد ذلك مؤامرة علينا أم مؤامرة من صنع ايدينا ؟

العراق

وفي العراق: أحد ركائز الأمة العربية قوة وعنفوانا،والذي تعرض لكوارث عظمى،أثر تحالفات عالمية وأقليمية، تكالبت عليه،وقفزت به من دولة واعده،من خلال برامج التنمية الجسورة،الى دولة توازي في ظروفها العصر الحجري،وفق ما هدد به الرئيس الامريكي بوش الأب،

في العراق.. أين المؤامرة ؟
ثورة ضد الأحتلال والطائفية والفساد

واستمر على نفس المنوال الرئيس بوش الأبن ،لقد  خططوا وأقدموا، ولكن لم يكن بوسعهم أن يحققوا شيئا يذكر، مالم يكن في ركابهم من حرضوا من ابناء البلد،وجاؤوا في صحبة الطائرات،وعلى متن الدبابات التي قصفت ودمرت،وقتلت وشردت. كانوا عونا للمحتل،ومستشارون للمغتصب. فهل نعد ذلك تخطيطا خارجيا صرفا، أم أننا كنا نحن جوهر المؤامرة، وكان بعض مواطنينا هم السكين التي ذبحت. نعم فعلنا ذلك بأنفسنا حين ساند أشقاؤنا العدوان،وبالأحرى استدعوه لديارنا. ثم تعددت الأنتفاضات العراقية تنذر بالثورة الشاملة أزاء تردي

 

الأوضاع،وانهيار قيمة الأنسان، وعبر تلك السنوات العجاف التي انصرمت، وعظم النكبات التي لحقت بالعراقيين،والهجرة التي شتت أبنائهم،والفساد الذي فاق الخيال،والنهب المنظم،علاوة على اذكاء روح الطائفية،والأقتتال. تأتي الآن ساعة الحسم هذه الأيام، فالشعب  لا ينتفض فقط،ولايثور فحسب، ولكنه يقرر،ويقدم على الأطاحة،بالشعارات التي تبث الفتنة،وبآليات الأنقسام،ويعلن وحدة الشعب ضد كل أنواع الأحتلال أو التسلط،أو الهيمنة،فالعراق بلد العراقيين بكل أجنحتهم،وهم يعلنون وحدتهم وكل ولائهم للعراق الوطن، وللأرض التي هي المهد وهي اللحد، فهل يعد ذلك أيضا مؤامرة ؟.

السودان

وفي السودان :حدثت الأنتفاضة،ثم تطورت الى ثورة اقتلعت نظاما استفحل خطره الى حد ان تمزق الوطن،وانقسم الشعب، وتدهورت المصالح الأقتصادية،وانسحقت الطبقات الدنيا،وأمعن الفساد واستشرى في جسد الأمة، حتى طال الرئيس الرمز،فهل ذلك الحال كان في حاجة الى مؤامرة ؟.

وفي الجزائر: انتفض الشعب أثر محاولات التمديد لنظام بوتفليقه، الذي استمر في الحكم من 1999 حتى 2 ابريل 2019،وعبر أربع ولايات متتابعة،وكان يتطلع لولاية خامسة،ورغم تاريخة النضالي،الا ان نظام حكمه قد ترهل، وتحلل،وتسلل اليه النهابون،بحيث أصيب النظام كله بالشلل،ولم يعد قادرا على اعطاء المزيد،في عالم تتسارع خطواته نحو التجديد، ويصر الجزائريون في وثبتهم تلك على استعادة زمام امورهم،وأن يباشروا بأنفسهم ترتيب أوضاعهم،دون الأنصات أوالأستسلام للوعود الطنانة،التي طالما انتظروها ولم يحصلوا في التهاية حتى على أنصاف الحلول التي ألقيت من قبل اليهم.فهل يعد ذلك مؤامرة ؟

اليمن

وفي اليمن: كان الصراع السياسي يحكم اليمن بشكل عام،حتى في فترة علي عبدالله صالح،وكانت المظاهرات تندلع حتى قبل ما يعرف بالربيع العربي،وان كان صالح قد تنحى بعد محاولة اغتياله بناء على المبادرة الخليجية،الا انه عاد ليطل من جديد ويحرك الأحداث والتآمر على الرئيس الجديد عبدربه منصور، ويتحالف مع جماعة كانت تلقب بالخارجة على القانون في حركتها وهم جماعة (الحوثيين)،وبعد ان فك تحالفه معهم اغتالوه،وتحالفوا مع ايران، وأصبح التهديد بذلك واضحا للأمن القومي العربي،عموما ولأمن دول الخليج خصوصا،وتوالت الأحداث

في اليمن.. أين المؤامرة ؟
ثورة ضد النفوذ والطائفية والفساد

تكشف المطامع الفارسية للأستحواذ،وأصبحت اليمن بفضل صراعات الأحزاب داخلها،وتزاحم الجيوش على أرضها،وتهاوي البنية التحتية لديها،وأثر ذلك صحيا واقتصاديا واجتماعيا،مايستدعي وصف اليمن بدولة شبه فاشلة،فهل كان ذلك وليد مؤامرة خارجية،أم بفعل قياداتنا وسياساتهم الحمقاء؟!

ليبيا

في ليبيا  استمرحكم معمر القذافي لليبيا أكثر من أربعين عاما،وابتدع للحكم نظرية باسم (النظرية العالمية الثالثة) وقدمها في (الكتاب الأخضر) وهي تعني نظاما للحكم يعتمد على الجماهير وليس على السلطة التي هي أساس الدولة الحديثة،ورغم تكوينه للجان الشعبية الا انه كان المركز الحقيقي للسلطة،وتدرجت القابه من الأخ العقيد الى أن أصبح ملك ملوك أفريقيا الذي يحكم (الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى)،،وقد غادر السلطة بعد ثورة عارمة لقب ثوارها بمدمني حبوب الهلوسة،وترك خلفه نزاعات قبلية وسياسية سمحت للأنف الأجنبي بأن يتدخل،بعد أن حول جيشه الى ميليشيات  يقودها أبناؤه،وبكم الأسلحة الهائل الذي كان يختزنه،وتم الاستيلاء عليه من قوى وعصابات وميليشيات جعلت من ليبيا قبلتها،ومركزا لنشاطها للترويع والتهديد،كما أنها أصبحت من جانب آخر معقلا لجماعات تمول من خارج ليبيا لبسط نفوذها،والتحكم في القرار الليبي،وقد كان ذلك الحال مدعاة لبعض القوى الوطنية في الاتجاه الى تكوين الجيش الوطني الليبي ليخلص البلاد من كل تلك الفوضى العارمة،ويعيد ليبيا الدولة الى فرض سيطرتها وقوتها لحماية الشعب والأرض فهل كانت كل تلك الأحداث وليدة مؤامرة خارجية،أم أنها بالأحرى كانت وليدة نزق وتخبط واستئثار مرضي بالسلطة واتخاذ القرار، فهل تآمر علينا الخارج،أم أننا نسجنا بأنفسنا خيوط حبال قيودنا ؟

التاريخ ليس مؤامرة

التاريخ ليس مؤامرة،ولكن في التاريخ الكثير من المؤمرات،لعل من أشهرها بالنسبة لنا نحن العرب مؤامرة (سايكس – بيكو) نسبة إلى البريطاني سير مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو،عام 1916 وكانا يمثلان بريطانيا وفرنسا،وقد ترجما هدف الدولتين في اقتسام الدول العربية الواقعة شرقي البحر الابيض المتوسط،وقد أرسلت الأتفاقية الى روسيا القيصرية،بعد أن نصت الاتفاقية على اعطائها بعض الولايات العثمانية المتاخمة لها،وبمقتضاها تمت وراثة الأمبراطورية العثمانية التي كانت تعرف باسم (الرجل المريض)،وكان من نتيجتها تقسيم المنطقة العربية،والتمكين للقوى الصهيونية من فلسطين العربية،وكانت الأتفاقية سرية،كشفت عنها روسيا بعد الثورة،ونشرت نصوصها في جريدة برافدا.ومؤامرة أخرى سرية وقعت في تاريخنا الحديث هي اتفاقية (سيفر) عام 1956 التي تمت في فرنسا بين كل من فرنسا وبريطانيا واسرائيل  وتقضي على مهاجمة مصر واسترداد قناة السويس بعد أن قام عبدالناصر بتأميمها. فقد التقت مصالح الدول الثلاث على تدبير تلك المؤامرة،والقيام بتنفيذها. بريطانيا باستعادة نفوذها الذي بدأ يتهاوى بعد تحقيق الجلاء عن مصر،وخروجها من السودان بعد استقلاله والآن تأميم القناة. أما فرنسا فكانت تسعى الى ضرب ثورة الجزائر الذي بات عنفوانها يتصاعد من خلال تصفية نظام عبدالناصر،الذي يقوم بالامدادات العسكرية للثورة،بالأضافة الى دعمه السياسي، وأيضا من أجل استرداد نصيب شركاتها في قناة السويس،أما اسرائيل فقدوجدتها فرصة لأجهاض صفقات السلاح التي ابرمتها مصر مع الاتحاد السوفيتي،كما أنها ترغب في قضم بعض أجزاء من سيناء،ان لم يكن ضمها بالكامل،وقد أعلنت ذلك من خلال قرار الكنيست الأسرائيلي بضم سيناء الى اسرائيل بعد العدوان.كانت مؤامرة على هذا النحو كاملة الأركان والأهداف،ولكنها فشلت أزاء رفض عبدالناصر للأنذار البريطاني الفرنسي،واعلانه المقاومة،ولدعم الأمة العربية للموقف المصري،وتعاطف دول العالم الثالث خاصة بعد مؤتمر(باندونج)عام 1955 ألذي كان مظاهرة عالمية ضد الأستعمار بكافة  أشكاله وألوانه،كذلك الأنذار

الجزائر.. أين المؤامرة ؟
ثورة  ضد التسلط والهيمنة والفساد

الروسي،وأيضا الموقف الأمريكي بقيادة ايزنهاور الذي رفض العدوان،اذ لم تتم استشارته بأمره،وايضا لأنه كان يريد وراثة النفوذ البريطاني الفرنسي في المنطقة،فقد أصبحت الأمبراطوريتان البريطانية والفرنسية أمبراطوريات غاربة،أما الولايات المتحدة الأمريكية فهي الأمبراطورية البازغة التي تتطلع الى زيادة نفوذها،وتأثيرها.يقول (كيث هايل) وهو واحد من أهم مؤرخي أزمة السويس،ان المشكلة لم تكن السرية التي غلفت الأجتماعات التي تمت في (سيفر)،فالسرية جزء من العمل الدبلوماسي،ولم تكن كذلك في ان أحد أعضاء تلك الأجتماعات هو(اسرائيل)، فاسرائيل لها قبول في أوساط المعارضة الأوروبية الرسمية عام 1956، ولا لأن الموقف السياسي الذي اتخذ قد فشل، لكن المشكلة في سقوط الأتفاقية وفشلها،يعود الى سببين الأول أن بريطانيا كانت العنصر الأساسي في الأعتداء بصفتها الأكبر والأهم.الثاني أن الحكومة البريطانية كذبت على شعبها ونوابه وأحزابه ونقاباته حين نفت (عملية التواطؤ) وزعمت أن قيامها بالدعوة الى الحرب كانت للدفاع عن مصالح بريطانيا،وقد تم ذلك عن طريق الخديعة والكذب والمواربة حتى النهاية.

المؤامرة الثالثة التي لم تتكشف كل ابعادها حتى الآن هو عدوان عام 1967،ودور الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك العدوان، وقد كانت له اشارات متعددة قبل ذلك 1- تحذير من الزعيم الباكستاني الراحل ذو الفقارعلي بوتو لعبدالناصر،بأن القوى المتطرفة في الولايات المتحدة،لن تتركك،وعليك الحذر، وكانت الأشارة الثانية من مدير البنك الدولي عام 1956،وقد جمعته صداقةلاحقة بعبدالناصر

وقد ذكر له تعبيرا بالأنجليزية،اجتهد عبدالناصر في معرفة مضمونة على وجه الدقة،وكان يعني الأطاحة به.  كما أن أجهزة التصنت التي زرعتها المخابرات المصرية في السفارة الأمريكية في القاهرة خلال الستينات،وكان يتم الأشارة الى المعلومات التي حملتها تلك الأجهزة باسم (العصفورة قالت) كانت الأحاديث التي تتم مداولاتها في السفارة تشير الى ضرورة التخلص من عبدالناصر، وقد سمعها عبدالناصر بنفسه ،كما أن هناك تصريحا صدر عن الجنرال ديجول يقول (ان العدوان على مصر عام 1967 كان أمريكيا بأدوات اسرائيلية). ومازلنا في انتظار فتح الكثير من الملفات حول ذلك العدوان، وأسراره خصوصا ان التعليق المباشر الذي صدر عن الرئيس جونسون وقتها كان يقول (أن الديك الرومي قد انتهى). وكان ذلك التعبير هو الأسم الكودي لعبدالناصر.

في النهاية

التاريخ في سباقه العام ليس مؤامرة،ولكن التاريخ تفاعل بين ألأحداث ولقاء بين المصالح المشتركة،وقضايا وطموحات سواء لزعماء أو لقوى سياسية،وظروف خاصة سواء اقليمية أو دولية تسمح لبعض القوى أن تنسج شباكها في هذه المنطقة أو تلك. التاريخ صراع بين موازين حاكمه، وضرائب تدفعها الدول المتخلفة بحكم تخلفها،للدول المتطورة بحكم تقدمها العلمي والتكنولوجي،وفي عالم تحكمه القوة وتمسك بمقاديره، لامفر من اعمال العقل والتدبر في الأمر،مع المخاطرة في الأقتحام،فالحرية لاتعطى للمتسولين، أو المظلومين،ولكنها تعطى بضرائب من العرق والدم والدموع.

العدد 99 –كانون الاول 2019