وقى الله لبنان وأهله

عصام الجردي

الكل يحبس أنفاسه في لبنان هذه الأيّام.  »الآتي الأسوأ الذي لم يأت بعد«، وكان جليا في الرسم البياني للأزمة اللبنانية المالية والاقتصادية والاجتماعية، قد أتى بالفعل. لم يعد الهمّ الأساسي للبنانيين الآن كيفية الخروج من الأزمة. بل اللطف في تداعياتها أولا، لالتقاط الأنفاس حؤولا دون الإنهيار والفوضى العارمة في البلاد.

لبنان المصنّف في الشريحة العليا من لائحة الدول المتوسطة الدخل بحسب المصرف الدولي وصندوق النقد الدولي، (فوق 10 آلاف دولار أميركي للفرد سنويا) بات نحو 50 في المئة من مواطنيه في حال الفقر. ونحو 30 في المئة بين خطي الفقر المدقع والمطلق. البطالة من نحو 25 في المئة ترتفع الى نحو 35 في المئة بين الفئات العمرية الشابة الكفية وخريجي الجامعات والمعاهد المهنية. ونحو 40 في المئة خارج شبكة التأمينات الصحية والإجتماعية. كان اللبنانيون يتقبّلون نظرية أطلس التي يعتمدها المصرف وصندوق النقد الدوليان في محددات الثروة والدخل الى الناتج المحلي، القائمة على الناتج الإجمالي موزعا على تعداد السكان بالتساوي، رغم ما تنطوي عليه من مبادئ مجافية للواقع لاستخلاص نتائج دقيقة علميا وعادلة اجتماعيا. بيد أن السياسات الحكومية لم تردم فجوات نموذج الريوع الذي قام عليه الإقتصاد اللبناني منذ الإستقلال 1943 حتى اليوم. ففي مقابل درجة الشريحة العليا من البلدان المتوسطة الدخل، بات كل لبناني مدينا بأكثر من 20 ألف دولار أميركي على فرضية  نحو 90 مليار دولار أميركي دينا عاما 4.5 ملايين نسمة. رقم الدين العام المذكور ليس هو نفسه المعلن رسميا. هو في منزلة بين منزلتين. الرقم الرسمي من زهاء 85 مليارا، والرقم الكامن فوق 100 مليار باحتساب دين مصرف لبنان (المصرف المركزي). إسقاط الشق الثاني من الدين العام بدعوى إنه ضمن الأدوات النقدية التي يستخدمها المصرف المركزي في علاقاته بالمصارف من خلال توظيفاتها لديه، (شهادات إيداع وودائع دولارية وسواها) لا يلغي في حال من الأحوال واقع تلك الأدوات التزامات على المصرف مصرف الدولة اللبنانية لا تدخل في بند الموجودات في ميزانيته بل في بند المطلوبات فحسب. لذلك، فكل التقارير التي تحتسب توظيفات المصارف لدى المصرف المركزي احتياطات للمصرف (المعلن 36 مليار دولار أميركي في نهاية أكتوبر 2019) كان مبالغا فيها منذ اعتماد سياسة تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية قبل نحو 22 عاما. وليس ما يواجهه لبنان اليوم من تفاقم الأزمة المالية والمصرفية في منأى عن تلك المعادلة المسكوت عنها منذ 22 عاما. شحّ السيولة بالدولار الأميركي وجنوح عدد كبير من المصارف اللبنانية نحو فرض قيود على سحوبات عملائها من الورقة الخضراء، إنما يكمن في تعقيم نحو نصف الدوائع الدولارية والأجنبية لدى المصرف المركزي ذخيرة للدفاع عن تثبيت سعر الصرف على متوسط 1507.5 ليرات لبنانية. السعر الرسمي ما زال هو نفسه. لكن السعر الفعلي بات لدى الصيارفة في السوق الموازية يتحكمون به بهامش 1700  و1900 ليرة للدولار الأميركي. الأمر غير مسبوق منذ نحو 44 عاما بداية الحرب الأهلية في لبنان 1975.

لحظة كتابة هذه السطور (السبت 9-11-2019) كان كانت الأنظار مصوبة نحو سلسلة اجتماعات تعقد في القصر الرئاسي بين المسؤولين الحكوميين وبين جمعية المصارف. والهدف واحد لا يتبدّى عليه آخر. كيف نوقف موجة التحويلات الى الخارج؟ وكيف نحدّ من السحوبات على المصارف، ونستعيد ثقة مهيضة بسلطة سياسية أسرفت في الحمق والفساد والتنكر لواجباتها الوطنية. في لبنان أكثر من 173 مليار دولار أميركي ودائع مصرفية. وموارد بشرية كفيّة وجديرة حتى اللحظة لتوظيف تلك المدخرات في النمو الإقتصادي وبدء استعادة الثقة والولوج إلى مخرج من الأزمة. السلطة السياسية الحرون التي أسست للأزمة ودفعت بها الى القاع المظلم، ترفض حتى الساعة القيام بواجباتها الدستورية لتأليف حكومة إنقاذ وتفعيل الموارد الكامنة الجاهزة لهذه المهمّة.

معضلة لبنان المالية اليوم، وخفض التصنيف السيادي للدولة اللبنانية، والتصنيف الإئتماني لمصارف ثلاثة في رأس لائحة المصارف اللبنانية تكتنز نحو 60 في المئة من الودائع والنشاط المصرفي في لبنان، إنما كانا نتيجة تراجع الجدارة السياسية للحكم في لبنان قبل تراجع الجدارة الإئتمانية للمصارف. وتغول الفساد والإنكشاف السياسي على  »محور ممانع« عن الحرية والتحرير والتنمية. خفض وكالة موديز تصنيف لبنان ومصارفه الرئيسة الى Caa2، يعني إننا دخلنا في مندرجات الطريق الى درجة D. أي حالة الإعسار عن سداد الديون. وقبل ذلك، فالتصنيف نفسه يوصد الأبواب في وجه الحكومة لتمويل عجز مستدام بالدين. سيكون علينا دفع عائد على الديون بين 17 و20 في المئة في المرحلة المقبلة أذا وُجد الدائن. وقد تتخطى تكلفة التأمين على مخاطر عدم سداد أوراق الدين الأجنبية يوروبوندز (CDS) 12 في المئة. لا يمكن حتى لدولة من دول في مجموعة العشرين تحمّل هذه الأعباء. وسيكتب على المصارف اللبنانية التي وفّت بمعايير الملاءة المصرفية وفقا لانفاق بازل 3 قبل سنة من سريانها، أعباء جديدة للولوج الى الأسواق المالية الخارجية. الحكم في لبنان المترع فسادا، كان على علم مسبق بأن تصنيف أي مصرف أو مؤسسة اقتصادية لا يمكن أن يعلو تصنيف الدولة.

إستخففنا بكل التقارير المحلية والدولية التي حذّرت من مخاطر عدم الإستقرار السياسي، وتشرذم القرار السياسي على الاوضاع المالية والنقدية والإقتصاد الكّلي. وقيل لنا من وكالات التصنيف أن الإنزلاقات السياسة والمخاطر السياسية، مثل الخلافات المحلية التي تمنع تنفيذ الموازنة، يمكن أن تؤدي في أسوأ الأحوال إلى نزاع أو حوادث أمنية. وتداعيات تلك الاحتمالات لو حصلت، ترسِخ تراجع الثقة، وتراجع الودائع، وارتفاع تكاليف التمويل، والصعوبات في عبء الدين العام. وتزيد من الضغط  على سعر الصرف  وتراجع الإحتياطات. ويمكن أن تؤدي إلى تباطؤ التدفقات المالية وإلى ضغوط تمويل كبيرة لكل من المصارف وديون الدولة السيادية.

تقرير بعثة صندوق النقد الدولي (المادة الرابعة) الذي أودع الحكومة اللبنانية في أب/ أغسطس 2019، حضّ على الحفاظ على مستوى عال من الاحتياطات. وتشجيع القدرة التنافسية المحلية وتشجيعها، لتقليل الاعتماد على التدفقات الخارجية. وتنفيذ تعديل مستدام للسياسة المالية. وإصدار تشريعات رئيسية، لإظهار إطار موثوق به لوضع السياسات. وزيادة تقوية مخازن رؤوس الأموال والسيولة لدى المصارف. بيد أن الدولة أمعنت في استنزاف الموارد المصرفية لتمويل عجز ودين بلا حدود. رفعت الفوائد التجارية الى مستويات مناوئة الإستثمار والنمو. ووضعت الإقتصاد على شفا ركود بطالة وتضخم. وغاب عن بالها أن التمويل والدين من ودائع الناس.

لهذه الأسباب وليس على وجه الحصر، تتهددنا المخاطر اليوم. الثورة التي انخرط فيها كل الناس، حققت في لحظتها الأولى في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، الإنجاز العظيم بكسر القيد الطائفي جلبابا تخفّى فيه سدنة نظام سياسي فاسد في بلد يعشق الحرية والحياة والرفاه. اللبنانيون من وراء البحار وفي دول الخليج العربي الذين كانوا يمدّون الإقتصاد بنحو 9.5 مليارات دولار أميركي سنويا قبل أن يتراجع الرقم الى 7 مليارات وما دون، قدم عدد منهم لدعم الثورة. سلمية الثورة ورقيها وحجمها واستدامتها بلا كلل ولا تعب، أرعبت سدنة النظام السياسي الفاسد. فراح كل أتباع السفارات ينعتونها صنيعة الخارج والسفارات. كل الشعب بات موضع شك. الفقراء. الطلبة. العاطلون من العمل. المرضى بلا تغطية صحية. المثقفون والفنانون.  »وحدهم الساسة ونظام الزبائنية واقتصاد الريوع منقذون«!

بلغني في الطريق الى خاتمة المقالة، أن  »رئيس جمهورية لبنان القوي« ميشال عون، قرّر مشكورة أتعابه، الشروع بعد أيام في الإستشارات النيابية لتكليف من يؤلف الحكومة  العتيدة، ممّن يعتقد الرئيس و »الحلف الممانع« إنه أهلٌ لتولي الحكم بمن حضر. بعد أن اعتذر رئيس الحكومة المستقيلة سعد الحريري عن عدم توليه المهمّة من جديد بشروط الحلف المذكور.

نحن أمام فصل خطر جدا من فصول الأزمة السياسية المالية والإقتصادية الإجتماعية. نكتب على رقّاص الساعة لمجلة شهرية. المعلومات الأخيرة تفيد بأن لا عمل في المصارف قبل تأليف الحكومة في صرف الإعتبار عن شخصية الرئيس الملكلّف تأليفها. والناس باقية في الشوارع وعلى أبواب مؤسسات الدولة وزعمائها حتى تأليف الحكومة. موجة الغلاء مستفحلة. وهناك خشية من فقدان سلع أساسية وغذائية. اللائحة تطول. وقى الله لبنان وأهله.

العدد 99 –كانون الاول 2019