فوزي يمين-وزن ثمين وغامض في الوقت بين سيجارتين

بيروت ــ جاد الحاج

ما زال الناس يسألون فوزي يمين إن كان ما يكتبه شعراً أم نثراً أم ماذا.  يزعجه السؤال قليلاً لأنه يعتبر أنه وليد  جدال عقيم انتهى منذ قرون في الغرب، وبدأ ينحسر منذ نصف قرن عندنا:  »وأعتقد انه حُسم بشكل نهائي وتخطاه الزمن ولا قابلية للعودة به الى الوراء فـ  »خلصنا بقا«، قال فوزي في مقدمة كلمته، عقب توقيع  مجموعته الجديدة   »في الوقت بين سيجارتين«.

 إلا أنه لم يتوقف هنا بل أوضح لمن يهمهم الامر انه لا يضع تصنيفاً على اغلفة كتبه ولا يتجرأ على تصنيف نفسه:  »فأنا اكتب ما اشعر به بأي شكل كان. ربما يأتي احد، ذات يوم يضع الاشياء على السكة، ويقيسها بمقياس«.

 ذكرتني هذه المقاربة بالشاعر الفرنسي هنري ميشو الذي رفض تسمية كتاباته او تنميطها او اخضاعها لنموذج مسبق، وما فتئ يبتكر نصوصاً شعرية مطولة وقصائد نثرية وشعراً حراً وسرديات مهلوسة تحت تأثير فطر الميسكالين. كان ميشو اكثر السرياليين توافقاً مع نفسه بل اكثرهم تمرداً حتى من رامبو، ذلك ان ميشو قرر منذ بداية وعيه ان يتخلى عن ارثه الثقافي المرتبط بالحضارات الاغريقية والرومانية والجرمانية وطفق يتسكع في القارات البعيدة خصوصاً آسيا. ومثله يقول فوزي يمين انه يكتب بمزاجية وتفلت ويتلون كحرباء وان اللغة بحد ذاتها ليست هدفه:  »جل ما في الامر اني اكتب اشياء تشبهني اكتب كما افكر. كما اتكلم. كما اتنفس. كما احب. كما اشتهي وأتشهى«.

أما دوافع الكتابة فيختصرها فوزي بـ  »شيء هوائي يسكنني منذ الصغر وفي هذا الكتاب اليوم يرفعني فوق الجاذبية. يجعلني امتزج بالغيوم. يخففني، ينزل عني اثقالي، فأشعر ان العمر يمر بخفة وسرعة بين سيجارتين، تماماً كدخانهما«.

فوزي يمين

أحياناً أراه يقترب في هذره المموسق من المجنون الفرنسي الآخر لوتريامون. يكتب فوزي:   »انضم الى السفلة، المنافقين، القتلة، / المجرمين، الخونة، الشعراء، السحرة، / حارقي الحياة بسجائرهم النزقة / المتلونين بألوان كل لحظة، / المشعوذين، / الواقفين على سن رمح اعصابهم، / الملتفّين بعباءة ليلهم الطويل، / الاوفياء لكلماتهم المسمومة…«. ثم يعاقر   سكرات رامبو حيث تتجلى فوضى الذات الباطنية المائلة الى خلخلة الحواس ومزجها ورشقها على الصفحة جزافاً. لكن فوزي يتمسك بحبل السلامة،  يؤمّن خط الرجعة، فلا يغطس الى متاهات اللاوعي غير آبه لحيرة القارئ امام النص المغلق الذي اعتبره رينيه شار وسيلة لتمتين الثقة بنفس الشاعر لئلا يخاف من تجربة كل المفاتيح المتوفرة ليديه.

خلال الحرب العالمية الثانية وبعد مرور قرابة قرن على ولادة  »قصيدة النثر« أراد الشاعر الفرنسي الآخر ماكس جاكوب ان يضع لتلك القصيدة إطاراً خاصاً لأنها برأيه تختلف جذرياً عما يثيره الشعر المنظوم من ردات فعل حسية او عاطفية. وأفتى بضرورة الاعتماد على النص القصير الخالي من الاستطراد والتطويل والسرد المفصل ناهيك عن البراهين والمواعظ كي تكون قصيدة النثر: عملاً مغلقاً على ذاته كالفاكهة او البيضة. إلا أن هذه المقاربة لم تصمد طويلاً إذ عزف، لاحقاً، كل شاعر اوتاره الشخصية، ورسم لذاته صورة لا تشبه الا وجهه فحسب. وهكذا فعل فوزي يمين واعترف امام جمهور القاعة  »الكبرى« في إهدن انه غير ميالٍ الى القضايا الكبرى في الشعر ولا الى العناوين العريضة (…) يعنيني الهامش اكثر، الطريق الجانبية، الفسحة الهشة، السقف الذي ينش، اللحظة الرخوة المرخية، المشهد المهجور لكن الدافئ…

تقرأه كأنك تفتش حقيبة مسافر توضبت على عجل ومن دون منطق، ومع ذلك  ترى ان يدك لا تقوى على ترك ما تلمسه بسهولة. ثمة وزن ثمين وغامض في محتويات تلك الحقيبة وما عليك إلا أن تتأمل كل سطر، كل عبارة، وأن تتبع وتتابع تعرجات  رحلته المحصورة بين سيجارتين، بين طلقتين، واحياناً بين قبلتين ايضاً.

—————————————————————————————————————————————————————————————–

رقصة

ثم وأنا استمع الى وقع الحروب أرقص،

نقطة الدم التي تدور مع الأرض منذ قابيل ألحسها

فأهتاج،

تثيرني رائحة الذبح كما تثيرني رائحة إمرأة مشطوفة

الكعبين تقدح شرراً في الباحة الخلفية المعتمة للشهوة،

كلما مشيتُ في الشارع أفرقع بشاربين أحمرين تقطر

منهما  رغوة الرغبة الحامية،

المحاور ساخنة، ولساني،

والرؤوس المنفصلة عن اجسادها تبرق في السماء،

تتقدم دفعة واحدة نحو بيتي، ثم تجمد أمام

شباكي، وتروح تخش في كيس الهواء،

الرؤوس المنفصلة عن اجسادها واقفة معلقة كجرس

مبحوح، عينها في عيني لا ترف،

الرؤوس المنفصلة عن أجسادها، أجسادها الملتصقة

بترابها التي منه واليه كما يقال، ويقال ان اول رأس

طار تلقفه الهواء بيديه، وهدهده، فغفا في حضن

السماء ولم يسقط على الأرض،

وقيل أن الأرض انتظرته طويلاً وهي فاتحة فمها حتى

عطشت ويبست،

الى ان كرّت الرؤوس تباعاً، وجرت الامور على احسن

ما يرام،

الرؤوس التي تتطاير وألمحها خطفاً من شباك

غرفتي، وشباك سيارتي، وشباك المقهى المجاور،

ويسألني عنها أولادي فأخبرهم أنها عصافير مهاجرة،

 أحياناً تظهر

وأحياناً لا،

لكن الآن موسمها،

كمهاجرين من ضفة الى ضفة، من رأس جبل الى

كاحل وادٍ، من جرد مجرود الى ساحل مبروش، من

بطن الارض الى جفن السماء

أحياناً يظهرون وأحياناً لا

وأحياناً تكون الارض بلا سماء – مقطوعة الرأس،

وأحياناً تكون السماء بلا أرض – مقطوعة الجسد،

وأحياناً يكون ضوء على الرأس وعتم على الجسد،

أو عتم على الرأس وضوء على الجسد،

لكن أنا دائماً بين عتم وضوء – لا هو عتم ولا هو

ضوء،

وبين ليل ونهار – لا هو ليل ولا هو نهار،

أنهض كل يوم كباب يحاول استجماع اخشابه المخلعة

ولا يستطيع،

وأفعل، كما لي بالعادة ان افعل،

أزرع قنبلة صامتة بين كل كلمة وكلمة كيما تنفجر

كلها اخيراً،

وكيما تصل كلماتي كلها اخيراً،

بلا رأس ولا جسد،

متشظية،

محترقة،

ساخنة،

وجميلة كما لم يقرأها احد من قبل.

فوزي يمين

العدد 99 –كانون الاول 2019