طهران تقلق على نفوذها في بغداد وبيروت وخامنئي يتدخل لتأثيم الاحتجاجات

لبنان-العراق: حراك فوق السلطة!

محمد قواص (*)

لا يمكن إلا وضع المجهر نفسه فوق العراق ولبنان في تمرين أي تحليل للأوضاع التي تطورت على نحو لافت في الأسابيع الأخيرة. يكاد المشهد في تفاصيله أن يكون واحداً، حتى أن المراقبين قرأوا الحدث وفق نفس الأبجديات كما وفق سمات التعقد الذي يعصى على التحليل. الشراع المتحرر من أحزابه وتياراته كما من طوائفه ومذاهبه، ينتفض مجتمعا متوزعا على مدن البلدين يحمل شعارات واحدة ويصدح بمطلب واحدة.

لا يريد العراقيون التعايش مع منظومة حكم قيل إنها أطاحت بديكتاتورية منقرضة منذ غزو عام 2003. ولا يريد اللبنانيون منظومة حكم أنتجها اتفاق الطائف عام 1989، انتهت بموجبه الحرب الأهلية (1975-1990) دون أن يؤسس الحدث لدولة عادلة حديثة. فقد النظامان مشروعيتهما الشعبية، على الرغم من أن انتخابات تحدد الحصص في برلمان العراق وانتخابات ترعى التحاصص في حكم لبنان.

بيد أن المشترك في حالتي البلدين هو خضوع نظاميهما لهيمنة إيرانية لا جدال فيها. تتولى منظومة الأحزاب الدينية المتحالفة مع بقية أطراف العملية السياسية في العراق تمثيل الحضور الإيراني داخل أقبية ودهاليز السلطة في العراق، فيما يمثل حزب الله بشكل حصري مصالح طهران داخل لبنان. وفيما تبدو الشيعية السياسية مسيطرة على مفاصل حكم ما بعد سقوط نظام الرئيس الراحل صدام حسين، وبالتالي سهل على طهران التغلغل من خلال الوعاء المذهبي إلى داخل شرايين الحكم في العراق، استخدم حزب الله الخطاب المذهبي نفسه، وتمكن من عقد

ما الذي يحرك احتجاجات اللبنانيين

اتفاقات مع بقية الطوائف كما تمكن من اختراق بعضها بميليشيات عسكرية رديفة سهّلت هيمنة الحزب ومن ورائه إيران على صناعة القرار في لبنان.

وعلى هذا فإن نفوذ إيران في العراق ولبنان ليس تحليلا معقدا بل واقعا لا لبس فيه. وعلى ذلك أيضا فإن إيران تعتبر أن حراك العراق كما لبنان شبيه بأي حراك يحصل في أي بقعة من البقاع الإيرانية. وعلى هذا يمكن فهم الموقف العدائي السلبي الذي اتخذه حلفاء إيران في العراق ولبنان من الحراك الشعبي المفاجئ. وعلى ذلك يمكن فهم اضطرار مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران علي خامنئي إلى التقدم نحو واجهة الحدث والإدلاء بدلو حاسم جازم متهما الحراكين بشبهات العمل لتنفيذ أجندات خارجية، لا سيما أميركية إسرائيلية، ناصحا  »الحريصين« في البلدين على المسارعة في التعامل مع هذه الظواهر.

ولا بد من الاعتراف من أن شيئا طارئا حصل في لبنان والعراق أربك كل الخرائط التي كانت تُرسم في الكواليس من أجل تعبيد الطريق باتجاه طاولة حوار تبني اللبنات الأولى لاتفاق جديد. حظيت الورشة التي تبرّع رئيس وزراء باكستان عمران خان في تمثيلها بتواطؤ إقليمي دولي. بدا أن العواصم آثرت الصمت وترك المداولات الخلفية تعمل دون أي تورط رسمي في المآلات التي ستصل إليها.

بقيت واشنطن تتحدث عن ضغوط قصوى من أجل مفاوضات مقبلة تفضي إلى إنتاج اتفاق جديد. امتنعت السعودية عن توجيه اتهام رسمي لإيران في الوقوف وراء الاعتداءات على منشآت أرامكو على أراضيها قبل أن ينتهي التحقيق الدولي من إعلان نتائجه. روجت طهران لزيارات تقوم بها وفود إماراتية، فيما، وبقدرة قادر، توقفت منابر إيران عن شتم الرياض ودول الخليج، تاركة للرئيس الإيراني حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف نظم قصائد حول خصال الحوار ومديح السلم والتعاون بين دول المنطقة.

في روحية الانجراف نحو خيار الحوار ما قيل إنه قناعات دولية صدر أهمها من واشنطن وإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول عدمية شن حرب ضد إيران.

جاء أيضا أن مأزق الحرب في اليمن أنضج توجها دوليا إقليمية للبحث عن منافذ للحل تتجاوز قواعد الحرب الدائرة منذ سنوات.

في ذلك أيضا أن ما تمتلكه إيران من نفوذ في العراق بات من التماسك بحيث لا ينافسه نفوذ مرتجل يسعى العرب إلى تجريبه هناك، وأن ما تمتلكه طهران من نفوذ في لبنان يستدعي مقاربة جديدة غير تلك المعتمدة، سواء في سياسة العقوبات والعزل أو في التعويل على تحولات شعبية داخل إيران أملاً في إحداث تحولات لتدجين قرارات النظام.

وفق تلك المعطيات بنت واشنطن والعواصم المعنية مشروع الاتفاق الجديد المؤمل أن يتم الاهتداء إليه.

بيد أن الحراك الشعبي في لبنان والعراق خلط كل الأوراق لجهة اللعب بالأوراق التي تمتلكها إيران، والتي يجب أن تحتفظ بها، وألا تقدم أي تنازلات بشأنها إلا على طاولة المفاوضات.

ووفق الثابت في ما استنتجه العالم من نفوذ تمتلكه إيران في الشرق الأوسط، لم تدفع واشنطن وحلفاؤها بأي موقف يشتم منه دعم للمتظاهرين في العراق أو أولئك المنتفضين في لبنان والمنتشرين من شمال البلد إلى شماله.

تعتبر الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي أن ما يجري في العراق هو شأن إيراني داخلي. الغضب في العراق يأخذ طابعا شيعيا يكاد يكون حصريا ضد المنظومة السياسية التي تهيمن عليها أحزاب السلطة الموالون لطهران.

لا تعول العواصم الغربية على أي تغيير ممكن لشارع أن يحدثه داخل طبيعة العملية السياسية التي تديرها طهران منذ الغزو الأميركي لهذا البلد عام 2003. والأصح أن هذه الدول لا تحبذ حدوث أي تغيير جذري يستدعي إعادة تموضع مكلفة ومنهكة تجاه بلد اعتادوا، من البوابة

كيف تمرد الشارع على أحزاب العملية السياسية

الإيرانية، مقاربته وإجادة التعامل مع مفاتيحه.

سكت العالم على نحو مريب حيال الحراك الشعبي الذي يجتاح لبنان هذه الأيام منذ 17 اكتوبر الجاري.

ثرثرت العواصم الكبرى كثيرا حين خرج اللبنانيون في 14 آذار/مارس 2005 مطالبين بخروج القوات السورية من لبنان. حينها ظهر  »تحالف 14 آذار« ينادي بلبنان سيد مستقل مبشرا بالخروج من عصر الوصاية السورية الذي حكم البلد برعاية دولية منذ عام 1976. سحبت دمشق جندها. هلل العالم لهذه الخطوة، ثم صمت وأصابه شلل، حين راحت موجة الاغتيالات تزيل قادة الحراك السيادي وحين اجتاحت قوات حزب الله العاصمة والجبل في ما أطلق عليه  »غزوة 7 أيار«.

هذه المرة لم تقل العواصم كلمتها في حدث تاريخي لم يسبق له مثيل منذ استقلال لبنان. لم يطلب المنتفضون رعاية دولية، وربما أنهم لا يثقون أصلاً بأية رعاية مزعومة تدير الظهر خدمة للمصالح العليا. قيل إن انخراط الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في ورشة التحضير للاتفاق مع إيران حول برنامجها النووي دفع واشنطن لترك لبنان لحزب الله والتخلي عمن اتهموا بأنهم حلفاء واشنطن في لبنان لمواجهة مصيرهم الأسود. وما يقال هذه الأيام أن تلك المداولات الخلفية التي تحيك نسيج اتفاق جديد بين واشنطن وطهران، قد يكون سببا لعدم إعارة كثير اهتمام لشأن لبناني قد يدرج أيضا في خانة الشأن الداخلي لإيران.

بيد أن الشعوب ترسم الخرائط. والأمر ليس مقولة رومانسية بقدر ما هي حقيقة ترتبك واشنطن وباريس ولندن وبرلين تجاهها قبل أن ترتبك طهران. وفيما قد تعتبر العواصم أن شؤون العراق ولبنان هي شؤون إيرانية صرفة تقاربها طهران، تظهر الأخيرة عزما على عدم اسقاط هذا المكتسب المعترف به ضمنا لدى دول العالم.

تعرف إيران أن أي اتفاق جديد مع العالم سيسلط المجهر على ملفات أخرى تتجاوز ملف البرنامج النووي.

تعرف أن الضغوط التاريخية التي تمارسها الولايات المتحدة بصمت يشبه الرضى من قبل دول يفترض أنها صديقة مثل الصين وروسيا، سيجبر إيران على إعادة التموضع داخل خارطة النفوذ التي تمتلكها في المنطقة. فحين زار رئيس وزراء باكستان طهران صدر عن المرشد علي خامنئي كما عن بقية المنابر القيادية ما يفهم أن طهران ترى أن في اليمن مفتاح الحل الشامل. وفي ذلك أن إيران تلوّح بمقايضة اليمن بالتسليم بنفوذها في مناطق أخرى.

لا تسمح إيران بالمسّ بمكتسبها الكبير في العراق. العراق بوابة إيران الكبرى، وسقوط العراق وسحبه من منظومة نفوذها هو سقوط للنظام الإيراني برمته.

لن تتخلى إيران عن نفوذها في العراقي، وهي التي قال أحد منابرها يوما أنها أصبحت إمبراطورية عاصمتها بغداد. تعتبر طهران أن العراق خارج ملفات أي حوار بينها وبين واشنطن، وهي لن تتخلى للعراقيين عما قدمته الولايات المتحدة لها لحظة اسقاط نظام صدام الحسين، وهي لن تتهاون في نصر حققته على العراق بعد هزيمتها في الحرب ضده قبل أكثر من 30 عاماً.

بيد أن لبنان أكثر تعقيدا بالنسبة لطهران. يحظى البلد باهتمام دولي عام لا يسلّم بوصاية طهران على قراره. ثم أن تعددية هذا البلد الطائفية تجعله لقمة يصعب هضمها داخل أدبيات السياسة في دولة الولي الفقيه وفي أبجديات العلاقات الدولية.

تتعامل إيران مع البلد بصفته بلدا ساقطا من الصعب استرداده. يتضح أن مستقبل نفوذ إيران في سوريا محدود الطموح ولن يتجاوز القواعد التي تضعها روسيا وبالتواطئ الكامل مع العواصم الغربية.

يتضح من ردود الفعل أن لبنان هو شأن يهمّ حزب الله أكثر من كونه قيمة حياة أو موت بالنسبة لإيران. والأرجح أن طهران تسعى لتكون شريكة داخل الفسيفساء اللبناني، ذلك أنها لا تستطيع ومن غير المسموح لها، محليا وإقليميا ودوليا، أن تحكم البلد من خلال حزب الله في لبنان.

المرشد علي خامنئي: حراك لبنان والعراق مشبوه تابع للخارج

على هذا تبدو إيران مستشرسة بالدم في الدفاع عن مكتسبها العراق تاركة للقمصان السود المشاغبة بسوقية مقرفة على حراك عابر للطوائف مخترق للبيئة المفترض أنها حليفة لإيران في ظاهرة حضارية تاريخية، غير مسبوقة في تاريخ هذا البلد، وربما في تاريخ المنطقة جمعاء.

وقد سلط مراقبون المجهر على الارتباك الذي أظهرته المنظومات الإقليمية المنضوية تحت قيادة إيران في مقاربة الحراكات الشعبية في العراق ولبنان. ورأى هؤلاء أن إيران وأحزابها التابعة في البلدين سارعت، ومنذ اللحظات الأولى، إلى اتخاذ مواقف عدائية من الاحتجاجات دون الحاجة إلى ركوب الموجات الجماهيرية وادعاء تبنيها لشعارات الشارعين العراقي واللبناني.

وقال باحثون في الشؤون الإيرانية إن طهران أدركت أن الاحتجاجات التي اندلعت في لبنان وتلك التي اندلعت قبل ذلك في العراق وتطورت في انتشارها وزخمها في الأيام المقبلة، تحمل في دينامياتها الداخلية عداء للمنظومات السياسية التي تحكم البلدين وتشرف طهران على التحكم بها.

ورأى هؤلاء أن تجاوز التحركات الشعبية للأحزاب المعروفة حتى تلك التي تناهض التيارات الموالية لإيران، جعل من التعامل مع حركة الشارع أمراً صعبا كونه غير خاضع لسياسة الترغيب والترهيب التي لطالما انتهجتها إيران في التعامل مع كافة القوى السياسية في البلدين.

ولفت مراقبون إلى الطابع الشيعي الذي يميز الحراك في العراق على نحو يحول الصراع إلى وجه داخلي يجري داخل البيت الشيعي، بما يحرم الأحزاب الموالية لإيران من اللجوء إلى أدوات الفتنة والاستعانة بالتاريخ القديم والعودة إلى مظلومية الشيعة القديمة منذ مقتل الحسين بن علي في كربلاء.

وذكّر هؤلاء بخطاب رئيس الحكومة الأسبق نوري المالكي حين تحدث عام 2014 عن أن المعركة في الأنبار هي بين جند الحسين وجند يزيد، كما بالأجواء التي حضنت قيام الحشد الشعبي بناء على فتوى المرجع الشيعي علي السيستاني فهم منها نداء لحماية الشيعة من خطر يمثله إرهاب السنة.

ويرى متخصصون في الشؤون الإيرانية أن الخطاب الإيراني المنتقد للحراك الشعبي في العراق ولبنان يستهدف تأثيم الأمر بصفته رجساً مشبوهاً يتبع السفارات وينفذ أجندات أجنبية، وبالتالي تخوين المشاركين في هذه الاحتجاجات تمهيداً للتعامل معهم وفق هذا المفهوم.

ويذكّر هؤلاء أن الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت عشرات المدن الإيرانية قبل انسحاب الرئيس الأميركي من الاتفاق النووي وفرض الولايات المتحدة عقوبات وصفها بـ  »التاريخية«، خرجت من مناطق ومدن محسوبة على التيار المحافظ داخل مشهد السلطة الحاكمة في إيران، وأن الأمر أقلق النظام السياسي ودفع حتى التيار الإصلاحي للانضمام إلى التيار المتشدد في نعت المتظاهرين بالغوغاء الخارجين عن القانون واتهامهم بتنفيذ أجندات أجنبية مشبوهة تستهدف الجمهورية الإسلامية.

وتقول مصادر شيعية مشاركة في احتجاجات لبنان ان إيران وحزب الله يسعيان لـ  »تطهير« الحراك اللبناني من المشاركة الشيعية الواسعة التي شملت مناطق ومدنا وقرى في جنوب لبنان والبقاع، وأن خطاب التخوين الذي أطلقه أمين عام حزب الله حسن نصر الله جرى رفده بالتوصيفات التي أطلقها مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي على احتجاجات العراق ولبنان، كما جرى محضها بشرعية لمواجهة هاتين الانتفاضتين تأخذ بعداً فقهياً كونها صادرة عن الولي الفقيه.

غير أن بعض المصادر الدبلوماسية تشكك في إمكانية نجاح طهران في إقناع جمهورها قبل إقناع الآخرين بنظرية المؤامرة التي تسعى للترويج لها.

وتقول المصادر إن الناس في العراق ولبنان يعرفون بعضهم البعض ويتعارفون كل يوم داخل الساحات بما يزيل أي شك في حيثيات خروج الاحتجاجات وأجنداتها. وتضيف المصادر أن النظام الإيراني أمام معضلة وجودية، وأن خامنئي اضطر شخصيا إلى الخروج بموقف علني

كيف تمرد سعد الحريري واستقال

مما يجري داخل ساحات النفوذ في العراق بسبب تقارير مقلقة تحذر من سقوط ورقة البلدين من يد إيران عشية مدّ طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة لمناقشة ملفات عديدة من ضمنها ملف نفوذ طهران في الشرق الأوسط.

وتؤكد مصادر إيرانية معارضة أن خامنئي يخشى من انتقال عدوى العراق ولبنان إلى إيران، خصوصا وأن الأخيرة كانت سباقة في الثورة على نظام الحكم، وأن المدن الإيرانية سبق أن اجتاحت الشوارع مطالبة بما يطالب به المنتفضون في العراق ولبنان.

وتضيف المصادر أن الضغوط الهائلة التي تتسبب بها العقوبات الاقتصادية الأميركية على إيران عظّمت من حجم وثقل وخطورة الأزمة المعيشية في البلد، وأن خروج الناس إلى الشوارع هي مسألة وقت تحتاج إلى لحظة معينة تحاول طهران تأجيلها والوقاية من ظهورها.

وتخشى بعض الأوساط من أن كلمة السر التي أعطاها خامنئي لـ  »الحريصين« في العراق ولبنان لإنهاء الاحتجاجات، هدفها تفجير الأوضاع خارج الحدود الإيرانية، داخل ميادين النفوذ في البلدين، لرد موجات العدوى الحتمية التي ستنتقل عاجلاً أم آجلاً إلى داخل إيران نفسها.

وتعتبر أوساط مراقبة للشؤون الإيرانية أن نظرية المؤامرة التي يروجها خامنئي والقوى المنخرطة داخل معسكر الممانعة الإقليمي، يعكس العقم الذي وصل إليها نظام طهران في إنتاج خطاب نظري مواكب للتطورات في العالم، ويدل على أن لجوء خامنئي لإعادة استخدام بضاعة  »المؤامرة«، يكشف عن عجز عن إنتاج بضاعة حديثة، كما العجز الكبير عن فهم ما استجد واستحدث في العراق ولبنان، وعن عدم رؤية التحولات الجيلية الكبرى التي جرت في المنطقة، على نحو لم يعد حراك العراقيين واللبنانيين يفهم اللغة التي يستخدمها خامنئي والأبجديات التي يدلي بها زعماء الأحزاب الموالية له في العراق ولبنان، وأنه سيكتشف يوماً ان نظرية المؤامرة لم تعد تقنع الإيرانيين أنفسهم، حتى أولئك الذين ما زالوا يدينون بالولاء للولي الفقيه.

ومع ذلك من المهم ألا يتسرع المراقب في توقع الخلاصات، ذلك أن مسارا ومصير الدول لا يتحدد بالضرورة وفق الأبجديات المحلية أو حتى الإقليمية، بل أنها تجري وفق خرائط يتم المصادقة عليها دوليا. ويعتبر المراقبون أن غزو العراق جاء نتاج قرار دولي قادته الولايات المتحدة وأن أي تغير في منظومات الحكم في العراق ولبنان لا بد أن يمر وفق خرائط معقدة من المصالح الجيوسياسية الدولية.

ويعني أمر ذلك أن المسائل المتعلقة بأدوات تطوير الحراك الشعبي في العراق ولبنان كما الضوء الأخضر لقمعه وإنهائه لا تقرره عاصمة ما ولا يحدد حدوثه موقع حاكم وأجهزة الأمن التابعة. وعلى هذا يرى المراقبون أن ما تشهده الشوارع في العراق ولبنان ما هو إلا واجهات متقدمة لمداولات كبرى تجري خلف الكواليس تحدد حالة التموضع المناسبة أو المناوئة على نحو تأتي أي فوضى منظمة داخل سياقات لا عبث فيها ولا ارتجال.

لا تعول العواصم الغربية على أي تغيير ممكن لشارع أن يحدثه داخل طبيعة العملية السياسية التي تديرها طهران منذ الغزو الأميركي لهذا البلد عام 2003. والأصح أن هذه الدول لا تحبذ حدوث أي تغيير جذري يستدعي إعادة تموضع مكلفة ومنهكة تجاه بلد اعتادوا، من البوابة الإيرانية، مقاربته وإجادة التعامل مع مفاتيحه.

ولفت مراقبون إلى الطابع الشيعي الذي يميز الحراك في العراق على نحو يحول الصراع إلى وجه داخلي يجري داخل البيت الشيعي، بما يحرم الأحزاب الموالية لإيران من اللجوء إلى أدوات الفتنة والاستعانة بالتاريخ القديم والعودة إلى مظلومية الشيعة القديمة منذ مقتل الحسين بن

رئيس الوزراء العراقي عادل عبد الهادي استقالة أم بقاء

علي في كربلاء.

بيد أن الشعوب ترسم الخرائط. والأمر ليس مقولة رومانسية بقدر ما هي حقيقة ترتبك واشنطن وباريس ولندن وبرلين تجاهها قبل أن ترتبك طهران. وفيما قد تعتبر العواصم أن شؤون العراق ولبنان هي شؤون إيرانية صرفة تقاربها طهران، تظهر الأخيرة عزما على عدم اسقاط هذا المكتسب المعترف به ضمنا لدى دول العالم.

لماذا تخاف إيران من الاحتجاجات المناهضة

ظهرت صور على وسائل التواصل الاجتماعي لرجال يعتقد أنهم من أنصار حزب الله اللبناني، وهم يقومون بتمزيق معسكر للمتظاهرين المناهضين للحكومة في بيروت في 29 أكتوبر، محطمين للكراسي ومشعلين للنيران في خيام المتظاهرين، وهو الأمر الذي أدى إلى اشتعال غضب الجماهير أكثر، فمحاولات حزب الله لم تنجح لتدخل الجيش اللبناني الذي وأد محاولات الحزب في وقف المد الشعبي، وفق ما ذهبت شبكة سي إن بي سي الأمريكية.

لكن المحاولات المستميتة لحزب الله في وقف الحراك الشعبي في لبنان ومحاولات أنصار النظام الإيراني في العراق بوأد المظاهرات، يلقيان بظلالهما على الدور الإيراني في قمع أي حراك يؤثر على مصالحها في هذين البلدين.

تعد التوترات بين حزب الله والاحتجاجات التي تجتاح لبنان بلا قيادة والتي تجتاح لبنان علامة على القلق الكبير الذي تشعر به إيران ووكلائها في جميع أنحاء المنطقة في تصاعد المظاهرات المناهضة للحكومة.

كانت المفاجأة لإيران، إنه بعد كل هذه السنوات، التي عملت فيها طهران لسنوات على تعميق نفوذها في هذه البلدان، خرجت المظاهرات المطالبة بنفض كل ذلك، وهذا هو بالضبط ما يسعى المتظاهرون إلى تعديله، وفقًا لما قاله نيل كويليام، زميل مشارك في تشاتام هاوس، مركز أبحاث دولي في لندن.

وقال كويليام:  »تشكل الاحتجاجات تهديدًا للمصالح الإيرانية في لبنان والعراق لأنها ذات طابع وطني، وبالتالي تتحدى النظام السياسي الحالي، الذي تدعمه جماعات تدعمها إيران«.

ولهذا، فأمام إيران الكثير لتخسره إذا تم التخلي عن حلفائها مثل حزب الله القوي سياسيًا في لبنان، فضلًا عن حكومة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي والميليشيات الشيعية العراقية بالسلطة إذا تلاشى نفوذها.

في العراق، بعد أن أطاحت القوات الأمريكية بصدام حسين في عام 2003، حل الحلفاء الشيعة محل النظام البعثي. وهؤلاء هم الأشخاص الموجودون في السلطة اليوم وهم حاليا موضوع غضب المحتجين. كما تدعم إيران الجماعات المسلحة الشيعية في الدولة الغنية بالنفط، والتي يتهمها المحتجون ببناء إمبراطوريات اقتصادية بينما يكافح الكثير من العراقيين في الفقر.

في لبنان، تسيطر الحكومة على الفصائل المتحالفة مع حزب الله والتي تسيطر على مساحات شاسعة من جنوب لبنان.

من جانبها، تلوم إيران الغرب على إثارة الاضطرابات. حيث اتهم المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي الحكومات الأجنبية بالتدخل في العراق ولبنان، واتهم الأربعاء الماضي  »أجهزة المخابرات الأمريكية والغربية، بدعم مالي من البلدان الشريرة« لــ  »تأجيج نيران الفوضى«.

ما هو الموقف الحقيقي لإدارة دونالد ترامب في واشنطن

وقال البروفيسور فواز جرجس المحاضر في كلية لندن للاقتصاد:  »تحاول إيران أن تبتعد عن التوترات المتصاعدة والاضطرابات في كلا البلدين، لكن قدرتها على القيام بذلك محدودة لأن حلفائها المحليين، الجماعات المسلحة، مستهدفون من قبل المتظاهرين«.

لقد أدى التدخل الإيراني المتصاعد إلى تغذية الغضب المناهض للحكومة ومكافحة الفساد بين المحتجين. وقال كليمنت ثيرم، باحث في معهد ساينس بو للعلوم السياسية في باريس:  »لا يحبون في العراق على وجه الخصوص حقيقة أن إيران يمكن أن تتدخل في شؤونهم«.

ففي العراق، غالبًا ما كانت الاحتجاجات تصاحبها هتافات معادية لإيران، مثل  »اطردوا إيران!« و »سيبقى العراق حرا«.

ويقول المحتجون بالعراق “إنها تعمل لجعل العراق جزءًا من إيران. لقد نجحوا جزئيًا في تحقيق ذلك من خلال تشكيل كل الميليشيات التي تسيطر فعليًا على البلاد، وهذا ما سنهدمه«.

وبصورة أو بأخرى تشكل الاحتجاجات في كلا البلدين العراق ولبنان، نجاحًا للدولتين وإفشالا لإيران، التي تعاني من عقوبات جمة بسبب تدخلها في شئون الدول الأخرى، وعملها على برنامج نووي تهدد من خلاله بالحصول على قنبلة نووية، تعني نهاية لأي سلام في منطقة الشرق الأوسط.

(*) صحافي وكاتب سياسي لبناني

العدد 99 –كانون الاول 2019