ثلاثون دقيقة في حافلة مفخّخة – لمناهل السهوي قصائد الانزياح الزماني والمكاني

بيروت من ليندا نصار

كيف يمكن للشعر أن يعبّر عن معادلة الحرب ما لم يكن انعكاسًا للمحيط الذي يعيشه الشاعر ويوثّق فيه اللّحظات فتصبح القصيدة محكومة بنسبيّة المكان والزّمان لتصل إلى حالة من التأرجح بين الماضي والحاضر فتتشكّل في فضاء تخلقه لنفسها. وكيف يمكن لشاعرة في هذه السّنّ أن تكتب تجربة حرب تكبرها بأعوام وهي تعيش في محاكاة للموت ووسط مشاعر الغربة عن الحب والوطن وتضعنا أمام هذا الجزء الهائل من التّصدّع الوجوديّ وما يهدّد مستقبل الكبار والصّغار وكأنّها تحمل حياتها وترسم صور المعاناة والألم في كفّ ضبابيّ الخطوط؟

في ديوانها ثلاثون دقيقة في حافلة مفخخة الصّادر عن دار المتوسّط ضمن سلسلة براءات 2019 تكتب مناهل السهوي القصيدة الحالمة بالحرّيّة حيث تتنفّس في مساحات أخرى فتعمل على رصد اللحظة الشعرية وتطرح الواقع من خلال المتخيل الشعري المعبّر عن تجربة شخصيّة

مناهل السهوي

تعكس الحضور الجمعي. وتعمل الشاعرة على إبراز رؤية جديدة في أسلوب كتابتها، إذ تأتي بأشكال مختلفة عما قرأناه لها سابقًا.

كذلك تتجلى في قصائدها تصورات الشاعرة ومواقفها من الإنسان والواقع الخانق بمعاناته وتميل في شعرها نحو السرد السيرة الذاتيّة للوطن قبل كلّ شيء مقترنة بكتابة يوميات امرأة شهدت على جيل جديد تعرّض لسياسات خنقت أحلامه في ظلّ الأوضاع المترديّة سواء كانت سياسية أم اجتماعية أو اقتصاديّة وهي التي تحكمت بمحيطه فجعل من المرأة تعيش آلام الرحيل وغياب الحب وما إن كانت تمرّ بلحظات من الراحة حتى تعود أيادي الحرب لتلعب في ساحة مليئة بعقارب الزّمن  لتصبح هنا المعادلة متساوية بين الزّمان والمكان.

بالنسبة إليها، تعتبر الشاعرة في أحد حواراتها أنّ الكتابة ضرورة ملّحة في تجربة الحياة فتقول:

 »الكتابة هي خلاصي من كلّ التّجارب القاسية وحتّى الجيّدة. الخلاص في الكتابة أمر لا يتعلق بمآزق أو بآلام وحسب، إنّما هي ضرورة ملحّة ترافق كلّ تجربة جماليّة وإنسانيّة، أحياها بعيدًا عن القيود والمخاوف الاجتماعية. البعض يجد في العائلة الصّغيرة مع منزل هادئ هي الضّرورة الملحّة، وآخرون يجدون من السّفر والتّنقّل الدّائم ضرورتهم، والبعض الآخر في الرّسم، فالأمر يتعلّق بما نودّه من الحياة، ما أحاول فعله هو أن أبقى شخصًا واحدًا فعكس ذلك سيكون حتمًا الجنون، الكتابة تجعل تجربتنا ومشاعرنا متماسكة وذات شكل قابل للفهم.«

منذ العنوان تتبدّى الإيماءات بشتى أنواع العنف  »ثلاثون دقيقة في حافلة مفخخة« هي الأحداث نفسها تتكرّر… تراها تدور في الحافلة المفخخة؟ وماذا تمثل هذه الحافلة؟ أليست ساحة الوطن أو الفضاء الذي تتحرك فيه الشخصيات وتمثل أدوارها في إطار محدد لها؟ ألا يجد القارئ نفسه أمام حرب ظُنّ، رمزيًّا، أنّها تحتاج إلى ثلاثين دقيقة في حافلة محدودة، فأصبحت مفتوحة على الزّمان مشرّعة أبوابها على امتداد خارطة الوطن؟

حدّدت الشاعرة الإطارين المكاني:  »الحافلة« والزّماني:  »ثلاثون دقيقة«. وهنا تتمثّل نسبيّة الأشياء: ثلاثون دقيقة من الحزن والقلق والمعاناة التي تسببها الحرب، تدلّ على أهمّيّة الشعور بامتداد الوقت. في المقابل ثلاثون دقيقة في بلد آخر في مكان أكثر راحة تعادل لحظة من عمر الإنسان لا تنتسى خصوصًا إذا ما عاشها بفرح وراحة وسلام. أو أنّنا أمام ثلاثين دقيقة في حياة أمّ تنتظر أن تعرف خبرًا عن ابنها الذي أصيب في الغارة الأخيرة… ثلاثون دقيقة تقلب الموازين في ظلّ قرارات حاسمة في حياة الإنسان.

هكذا تأخذنا الشاعرة إلى فضاء آخر تجعل القارئ يخرج من القصيدة بأبعاد ويشغل مخيّلته وكأنّه شريك في هذه القصيدة. فهي الشاهدة على ضياع الأحلام وسط هذا الفضاء العاري إلّا من الاقتتال الدمويّ العنيف الذي أصاب أبناء الوطن.

تبدأ الشاعرة ديوانها بقصيدة عنوانها  »النساء الأوروبيّات« حيث تخاطب رجلًا رحل ككلّ الذين أجبروا على اللجوء إلى الدول الأجنبيّة تاركين أجزاءهم وذاكرتهم في وطن تتبدّى فيه مشاهد الألم والفراق وقد تحكّم الغياب بالحبّ هنا من جرّاء الحرب، وتختم ديوانها بقصيدة عنوانها  »الوحشة« وليس غريبًا بالنسبة إلى القارئ كما أنه ليس عن طريق الصدفة أن تكون قصيدة نهاية الديوان اكتمالا لقصيدة بدايته، حيث تتابع الشاعرة وحشتها لرجل واحد مختلف عن كلّ الرّجال (سبحت في مياه رجال كثر/ كلهم جفوا واختفوا كما تختفي المدن/ لكن واحدا فقط/ كلما تذكرته سرت الوحشة فيّ كنهر/ وتمنيت لو كان للماء ذاكرة ليبكي)… ترى هل هو نفسه الذي سافر إلى أوروبا بعد أن وقع تحت وطأة الحرب في وطن لم يكن له أملًا منه؟ ترى هل سيعود يومًا إلى وطنه؟

إذا ما تأمّلنا أكثر في هذا المنجز الأدبيّ لمناهل السهوي، ومن وجهة نظر أخرى نشعر وكأنّ الشاعرة تأخذنا في مغامرة شيّقة عبر حافلة يركبها المتنقّلون غير آبهين في موعد الوصول حيث المصائر باتت مجهولة وتوقّفت ساعة الزّمن لتمرّر هذه الأفخاخ في ثلاثين دقيقة. نعم ثلاثون دقيقة تكفي لتغيّر مصير شعب بأكمله.

كذلك لقد اعتمدت الشاعرة على الحقول المعجميّة والدلاليّة المعبّرة عن الموت والحزن والأسى والمعاناة.. وقد اتّصفت قصيدتها بعمق المعنى الذي يثير انفعالات القارئ إذ تأتي بمشاهد شعريّة تدهش المتلقّي.

تكتب الشاعرة في قصيدة  »الموت الصباحيّ«:

أيّها الموت الذي أتمَنّاه

لا شكلَ لكَ

لا يَدَين قاسيَتين

ولا عضو يخترق لحمي الطريّ

أيّها الموتُ الوديع

في سريرٍ دافئ

بين يدي رجلٍ عطوف

أيّها الموتُ الصباحي الطويل

امنحني اشتهائك

لأمنحكَ أقدامً حيّة

قل لي أحبُّكَ

لنبدأ بقبلة مثلًا

ربما يكون هذا الرحيل أقلَّ قسوة..

في مكان آخر تكتب مناهل السهوي للأمهات اللواتي شهدن وقع الألم وخبّأنه في قلوب عصيّة على البوح(لا ترفعوا أطفالَكم حديثي الولادةِ في الصور/فهناك آخرون/يرفعونهم أمواتاً).وتقول أيضا(في قريتنا/ينظرُ الجيرانُ إلى البيانو/ويسألون أمّي/هل هذا تابوتٌ؟!/حين نامت جدَّتي في منزلنا/استيقظتْ باكراً/مردّدةً: لم أصدِّق متى طلَع الضوء/لا أستطيعُ النومَ مع تابوتٍ في غرفة واحدة. )

تتنامى القصائد وتتدرّج لتخلق عالمًا يريد النّأي نحو فضاءات الحرّيّة وكأنّ الذات الشاعرة أصبحت ظمأى إلى هذا المتنفّس الذي خرج عبر الصفحات البيضاء إلى عالم الشعر الخالص حيث الحرية التي لا تحكمها أيّة قيود.

يبقى من الحقّ أن نكرّر فنقول إنّ الديوان هو لحظة توثيق للذاكرة الجماعيّة إنّه حضور الشّعر وسط لغة مليئة بالخيال والعناصر الجماليّة ومن خلاله يظهر لنا المستقبل مجهول الهويّة ويجد القارئ نفسه أمام قصائد للإنسان وللوطن بشكل خاصّ…

العدد 99 –كانون الاول 2019