العلاقات العربية الروسية: حاضر الماضي ومستقبل الحاضر

ا.د.مازن الرمضاني*

بعد تفكك دولة الاتحاد السوفيتي في أواخر عام 1990 ووراثتها من قبل روسيا الاتحادية انتقلت السياسة الخارجية لهذه الدولة من الأخذ بتوجه ذهب خلال عهد يالتسن، إلى الانسياق وراء السياسة الخارجية الأمريكية لاسباب متعددة وجلها داخلية إلى الاخذ بتوجه آخر مختلف انطلق من إعادة بناء الفاعلية الداخلية للدولة الروسية الاتحادية التي كانت قد تميزت بالانهيارالاقتصادي والتفكك الاجتماعي خلال عقد التسعينيات السابق سبيلا لدعم فاعليتها الخارجية وتوظيف مخرجاتها لدعم بناء دولة ناجحة داخليا ومؤثرة خارجيا.

ويُعد القومي والبرغماتي الروسي فلاديمير بوتين هو صانع هذا التوجه والقائم كذلك منذ ولايته الاولى في عام 2000 على تنفيذه. وتُعبر استراتيجية الأمن القومي الروسي حتى عام 2020 التي تم تبنيها في عام 2009 رسميا عن هذا التوجه. وبموجبها يراد عبر تأمين النمو الاقتصادي المتسارع تحويل روسيا الاتحادية اقتصاديا إلى قوة دولية كبرى وتوظيف مخرجات هذا التحول لتأمين مصالح الأمن القومي الروسي.

وقد استدعى تنفيذ هذه الاستراتيجية، التي حظيت بدعم شرائح واسعة من المجتمع الروسي ولاسيما من قبل القوميين والشيوعيين الروس استدعى الأخذ بأنماط من الحركة الخارجية تميزت بالانغماس المحسوب والمتوازن في دوائر السياسة الخارجية الروسية اقليميا وعالميا.

وقد كان الوطن العربي من بين تلك الدوائر الاقليمية التي حظيت باهتمام خاص من قبل الرئيس الروسي. وقد ساعد على ذلك متغيرات اقتصادية وجيواستراتيجية وتاريخية. وتجسيدا لهذه الاهمية لم يتردد الرئيس الروسي عن تكرار زياراته الى العديد من الدول العربية ابتداء من عام 2001 صعودا. وبالمقابل تكررت زيارات، منفردة أو مجتمعة، لملوك ورؤساء عرب إلى روسيا الاتحادية، والتي بدأت بزيارة الملك عبدالله بن عبد العزيزعام 2003 واستمرت ممتدة لاحقا.

 وقد نجم عنها عقد إتفاقات اقتصادية وعسكرية وتقنية مهمة للطرفين.

وفي ضوء مخرجات هذه الزيارات المتبادلة يمكن القول أن العلاقات العربية ـ الروسية تتجه وخصوصا منذ وصول الرئيس بوتين إلى قمة الهرم السياسي في بلاده، إلى التطور التدريجي والمتواصل ضمن إطار من علاقات التعاون في العموم. ومما ساعد على هذا التطور ادراك روسي بالفوائد الناجمة عن إعادة تفعيل العلاقات التاريخية مع بعض العرب وتطويرها مع البعض الاخر منهم. وقد تفاعل هذا الادراك مع اخر عربي مماثل.ومن هنا كان الشعور المشترك بحاجة كل طرف إلى الآخر هو المدخل الاساس لهذا التطور الراهن.

إن إرتقاء العلاقات العربية ـ الروسية إلى ما هي عليه حاليا من تطور يدفع إلى التساؤل عن إحتمالات (مشاهد) تطورها المستقبلي. وللاجابة نرى فائدة الرجوع، أولا إلى ماضي هذه العلاقات مدخلا لاستشراف مشاهد مستقبلها لاحقا. ذلك لان تاريخ العلاقة بين دولتين ينطوي على تأثيرفي كيفية ادراك صناع القرار لدلالات تجربة دولته مع سواها وبالتالي على أنماط حركته السياسية الخارجية في الحاضر والمستقبل.

تفيد خبرة تاريخ العلاقات العربية ـ الروسية أنها بدأت خلال مرحلة اشتداد حدة الحرب الباردة بعد منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، كحصيلة لادراك مشترك بين ثمة دول عربية والاتحاد السوفيتي السابق لنوعية التأثير السلبي للمتغير الأمريكي حيالها وهو الامر الذي افرز حاجة متبادلة لعلاقة وطيدة لم يحل التباين الايدولوجي بينهما دونها.

فعربيا ادرك انذاك بعض صناع القرارالعرب أن السياسة الخارجية الأمريكية كانت تشكل التحدى الاخطر. لذا لم يجدوا مفرا من الاستعانة بالاتحاد السوفيتي خصوصا وأنه، كان في زمان اشتداد حدة الحرب الباردة، يقود سياسة الممانعة للاستراتيجية الأمريكية في العالم. وبالمقابل وجد صناع القرار السوفيتي في مثل هذه الحاجة العربية فرصة مهمة لاختراق سياسة الاحتواء الأمريكية حيال دولتهم من ناحية، ولدعم اهداف الاستراتيجية الكونية السوفيتية بمدخل مهم مضاف من ناحية اخرى. وجراء هذا التحدي الخارجي نمت علاقات ثنائية عربية ـ سوفيتية دعم تطورها اللاحق قوة تأثير متغيرات داخلية مهمة ولاسيما على صعد التسلح والاقتصاد وسواهما.

على أن هذه العلاقات لم تبق، في الأقل ثابتة عند مستوى معين. ففي أحيان كانت في حالة صعود. اما في معظم الأحيان فقد تميزت بخصائص التراجع والانتكاس. وترد هذه الحالة إلى تحفظ متبادل كامن وفاعل جراء مدخلات إنطوت مخرجاتها على تأثير سالب في طبيعة العلاقات العربية ـ السوفيتية. فالسوفيت لم يدركوا أن دعمهم للعرب لا يرتب إنحيازهم المطلق أو شبه المطلق الى جانب سياساتهم. وبالمقابل لم يدرك العرب أن الاتحاد السوفيتي، كدولة عظمى، تعمد إلى إيلاء مصالحها القومية العليا أولوية خاصة. ومنها تعزيز العلاقة الايجابية مع الولايات المتحدة، التي افضت اليها سياسة الوفاق انذاك.

إن عدم ادراك اطراف العلاقات العربية ـ السوفيتية لمحددات هذه العلاقات ادى، وكما قال وبدقة محمد حسنين هيكل في وقته، إلى أن يكون للاتحاد السوفيتي أخطاؤه في تعامله مع العرب مثلما كان للعرب أخطاؤهم في تعاملهم مع السوفيت. لذا وجراء سوء الادراك المشترك لهذه المحددات تحولت تدريجيا العلاقات العربية ـ السوفيتية، التي كانت واعدة لعقود، إلى عادية في الاقل.

إن اقتران حاضرالعلاقات العربية ـ الروسية بحالة من التطور يدفع إلى التساؤل: كيف ستكون مستقبلات هذا الحاضر؟ وإنطلاقا من الخاصية الأساسية التي يتميز بها المستقبل، أي الانفتاح على عدد من المشاهد تتعدد بالتالي المشاهد المستقبلية الممكنة و/أو المحتملة لهذه العلاقات. وغني عن القول أن طبيعة كل من هذه المشاهد تتحدد على وفق محصلة تأثيرمجمل المدخلات الحاكمة في نوعية تطور هذه العلاقات.

فاما أولا، قد ترتقي هذه العلاقات تدريجيا إلى مشهد العلاقات الخاصة أو الاستراتيجية بين الدول. بيد ان مشهد الارتقاء يتطلب توافر تلك الشروط التي تدفع عادة إلى مثل هذه العلاقات، وابرزها التحدى الخارجي المشترك وما يتبعه من تبني سياسات موحدة حياله، ووجود قضايا تعد أساسية بالنسبة لاطراف هذه العلاقات.

ولا نرى أن حاضر العلاقات العربية ـ الروسية يدعم مثل هذا المشهد. فمعطيات هذا الحاضر لا تفيد بمثله. فمن السذاجة رؤية الولايات المتحدة الأمريكية وكأنها تشكل هذا التحدي.

فكما كان هو الحال انذاك مع البوصلة السوفيتية كذلك استمرت البوصلة الروسية تتجه نحو الدولة الأمريكية. ومما يؤكد ذلك أن إستراتيجية الأمن القومي الروسي المشار اليها في اعلاه، قد جعلت من مثلث العلاقة مع الولايات المتحدة وأوروبا والصين ركيزتها الاساسية. ولا يلغي التنافس بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية هنا وهناك. ديمومة هذه الركيزة. فالتنافس ظاهرة استمرت السياسة الدولية تقترن بها على الدوام.

والشىء ذاته ينسحب على جل السياسات الخارجية العربية. فتاريخها يفيد إنها إستمرت تتميز بالحرص على بناء علاقة وطيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية. ولا يلغي ذلك الاختلافات الانية التي كانت تقترن بها في أحيان. ولنتذكر أن العلاقات العربية ـ الأمريكية تتأسس على مصالح متنوعة وعميقة، وارث تاريخي طويل، فضلا عن توجه ثقافي مؤثر. لذا يعد القول أن روسيا الاتحادية ستكون هي البديل لعلاقات العرب مع الولايات المتحدة لا يدرك عمق هذه العلاقات التي لا يلغيها إحتمال انتقال مركز العالم إلى منطقة اسيا ـ المحيط الهادي فضلا عن توجه الادارة الأمريكية نحو الانشغال بالقوى الاسيوية البازغة، كالصين مثلا، إدراكا منها لنوعية الدورالمستقبلي لهذه القوى.

كذلك لايمكن اعتبار إيران تشكل هذا التحدي الخارجي المشترك. فعلى العكس من جل دول الخليج العربي، التي ترى في إيران التحدي الاساس لامنها الوطني، تحرص روسيا الاتحادية على إدامة العلاقة الوطيدة مع إيران جراء مدخلات جيوإستراتيجية واقتصادية وامنية مهمة. وبالمقابل تحرص إيران على ديمومة الدعم الروسي لها، وعدم استبدال العلاقة الروسية معها بعلاقة مع دولة أخرى سواء من داخل منطقة الخليج العربي أو من خارجها.

واما ثانيا لا تفيد خبرة السياسة الدولية أن العلاقات بين الدول تستقر على وتيرة واحدة إلا نادرا. فكما أن العلاقات العادية قد تتحول، جراء تحول معطيات البيئة العالمية و/أو الاقليمية التي تتحرك بداخلها هذه العلاقات إلى اخرى وطيدة كذلك قد تتحول هذه العلاقة الوطيدة الى عادية وحتى إلى متدهورة. والشىء ذاته ينسحب على العلاقات العربية ـ الروسية. فهذه قد تقترن بمشهد التراجع واستمرارها عادية. وإلى ذلك يدفع الآتي على سبيل المثال:

اولا: التأثير الأمريكي في العلاقات العربية ـ الروسية. غني عن القول أن الولايات المتحدة ترتبط بالعرب والروس بعلاقات وطيدة. ولطبيعة هذه العلاقات من السذاجة القول: أن الولايات المتحدة لن تعمد إلى توظيف الفرص التي تتيحها هذه العلاقات للحد من تطور العلاقات العربية ـ الروسية إلى ذلك المستوى الذي يهدد مصالحها القومية العليا في الوطن العربي عموما والخليج العربي خصوصا. ومن غير المحتمل أن تتخلى الولايات المتحدة عن هذه المصالح لحيويتها.

ثانيا: وكذلك من السذاجة القول: أن روسيا الاتحادية ستعمد إلى التضحية بعلاقتها الوطيدة مع إيران لصالح علاقات مماثلة مع العرب أو في الأقل إلى تبني سياسة اقليمية متوازنة. لذا ينطوي الدعم الروسي، المباشر وغير المباشر، لانماط الحركة الايرانية حيال قضايا عربية أساسية على تأثير سالب يحد من تطور العلاقات العربية  الروسية بالضرورة.

ثالثا: تفتقر العلاقات العربية ـ الروسية إلى دعم وإسناد جماهيري واسع. ويرد ذلك إلى محدودية الانفتاح العربي على مكونات الراي العام الروسي، هذا بالمقارنة مع الانفتاح الايراني. والعكس كذلك صحيح. ولنتذكر أن الفاعلية الخارجية للدولة لا تتجسد في كفاءة دبلوماسيتها فحسب، وإنما أيضا في توظيفها الفاعل لدبلوماسيتها الشعبية. لذا قد ينطوي ضألة دعم الراي العا م العربي والروسي للعلاقات المتبادلة إلى دفعها إلى أن تبقى عادية في الاقل.

واما ثالثا لا تستطيع العلاقات العربية ـ الروسية أن تكون بمعزل عن تأثير تلك المعطيات التي تدفع بها إلى أن تكون وطيدة ولا كذلك بمعزل عن تلك التي تؤدي إلى تراجعها أوالبقاء عادية. ومرد ذلك أن العلاقات بين الدول تتحرك ضمن بيئة عالمية واقليمية متغيره ومعقدة تتيح مجموعة من الفرص الداعمة للحركة الفاعلة، ومجموعة اخرى من الكوابح التي تحد من هذه الفاعلية.

وجراء ذلك، وعلى خلاف تلك الآراء العربية التي تتراوح رؤيتها لمستقبل العلاقات العربية ـ الروسية بين التشاؤم والتفاؤل نرى أن مستقبل هذه العلاقات قد يقترن بمشهد مركب يجعل من التكيف المتوازن الذي يجمع بين خصائص الارتقاء والتراجع ركيزته الاساس. هذا فضلا عن استمرارها على هذا النحو ولزمان قادم حتى تستقر أما إزدهارا أو تراجعا.

وحتى ذلك الزمان تستدعي الحكمة أن نتعامل مع روسيا الاتحادية على وفق كيفية تعاملها وإيانا بمعنى مقاربة الاستراتيجية الروسية الواقعية حيالنا بمقاربة إستراتيجية عربية واقعية حيالهم وليس بمقاربة مثالية. فالاخذ بمثل هذه المقاربة أفضى، في أوقات سابقة، إلى تحملنا خسائر باهظة. والحكمة تقتضي أن نتعلم من تجاربنا.

*استاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات