حُب آخر زمن

نسرين الرجب- لبنان.

هذا النص هو محاوَلة بسيطة في ترتيب فوضى الاعتراف بالحب، في زمن كثُر الغُبار عليه، وبتنا نحتاج إلى إعادة أفهمة للكثير من المصطلحات المتداولة في حياتنا. وهو ومحاوَرة مرتبكة كونه غير محيط بكل التفاصيل التي يحتاجها الموضوع كحالة بحث.

 »نحنُ متخلّفون في فهم الحُب!«

 »نحنُ متخلّفون في فهم الحُب!« هذا ما لفتني في محاضرة للدكتورة سُميّة الناصر -وهي مُدربة سعودية مُتخصصة في مجال التطوير الذاتي، ولديها مؤلفات في مجال التنمية الذاتية –  في برنامجها  »ليش« عبر قناتها على اليوتيوب، قالت بما معناه: أن تعريف الحُب عندنا -كثقافة مجتمع عربيّ- مُرتبك وغير ناضج، فإذا ما جئنا على توصيف شعور الحب نُضيف قيَمًا وصفات إليه كأن نقول: الحُب هو الحرية، الحُب هو السعادة. في موقف آخر اعتبرت أن،ضُمنيًا، ما نقصده بالحب بين المرأة والرجل هو الجنس، وأنّ ما نصف به حب المرأة لابنها هو بحقيقته رحمة، لذا فتوصيفنا للحب غير واضح وَتخلّف…

في حصّة جامعيّة ذكر أستاذ جامعي، مثلاً تعريفيًّا عن حرف التحضيض  »هلا«:  »هلا سألت الخيل يا ابنة مالك/ إن كُنتِ جاهلةً بما لم تعلمي«، وجد المُحاضر في البيت فرصة لتلطيف جو الدرس مع الطلبة، يسألهم عن عنترة وعن حبّه لــعبلة، يدخل في أحاديث جانبيّة:  »لم يعد هناك حب مثل زمان«، ويستدرك ليسأل طلبته:  »من منكم متزوج؟« ثم يطلق ضحكة يخبرهم فيها  »شو بدكن بهالشغلة«، ثم يتسامى ليتحدث عن الحب المقدّس -بين هلالين- حب الأم لابنها، حب الأب لابنه، حب الأبناء وافتخارهم بأبائهم.

 ذاتيًا فكّرت: ما دام ينصح العزّاب ألا يتزوجوا لما لا يُطلّق هو زوجته ويعود عازبًا! ألا تعكس هذه الأقوال المتناثرة عن ارتباك وعدم وضوح في تعريف مفهوم الحب؟ وللمناسبة الأستاذ هنا هو متخصّص في اللغة العربية وآدابها وبالطبع غابت عن أقاويله اللغة وآدابها!

الحب في الأغنيات

غنّت فيروز الفراق   »الله معك يا هوانا«:  »ما تاري الكلام بيضلو كلام وكل شي بيخلص حتى الأحلام!«

باحت بخوفها وهواجسها، في  »حبيتك لنسيت اليوم«:  »حبسي إنت إنت حبسي وحريتي إنت، وإنت الي بكرهه والي بحبه إنت!«

الحب في أغاني فيروز رقيق حتى في عذابه، مهذّب في تعبيريته حتى لو  »فضيت فينا الدار ونحنا ولاد زغار«..

الأغاني العاطفية العربية في نسختها القديمة وبعض مما هو حديث -وفيه شيء من رُقي في التعبير- تنعى صورة الحب،  الحبيب مسافرٌ لوحده، يجيء بعد غياب ليشتكي للمرأة التي تنتظره بلهفة حُبه لامرأة غيرها، والمرأة المكسورة تخرج عن صمتها منددة  »لا بأحلامك« وترتدي درع القوة والصلابة  »م رح إزعل ع شي..« وتعلن أنها  »اعتزلت الغرام«، والحبيب في حنينه يسأل ملتاعا  »كيف بتنسى كيف؟« ولا جواب؟ سوى  »دايما دموع«؟!

هكذا سوّقت لنا الأغاني العربية الذائعة الصيت طبعًا -وليس كلها- الحب نعوة وفقد وظلم وهوان.

وهكذا نشأ جيل على أغاني هاني شاكر، يجوب شاب بسيارته ذات المحرّك الهدّار الحيّ متقصدًا أن يرفع حدّة الصوت عندما يقترب من منزل ذات  »العيون السود« يصدح مكبّر الصوت:  »يا ريتني«، ولا يخطر على بال المُتعنتِر، أنه لغويًا حكم على ما يريده بالاستحالة..وهو موضوع يستحق دراسة أعمق.

الحب في الأدب

عالجت الروايات مفهوم الحب بكثرة، الحب في زمن الكوليرا لماركيز نموذجًا، أن يظل رجل يحافظ على حبه لامرأة حتى عندما يشيخان،  سيمازحها مُشيرا إلى تجاعيد وجهها وستُشاركه الضحك، وتلتفت إلى حبه، فيقرران أن يعيشان في باخرة لا يقربها أحد بحجة أنّ فيها مصابين بالكوليرا.

 يوسف زيدان في روايته النبطي تحدّث عن الحُب المُتحيّر بين مارية والنبطي، كان الحب بينهما لمحٌ تكفي إشارته ولم يكن لأيّ منهما أن يغيّر مصيره لأجل الآخر، حتى انتهت الرواية على مشهد رحيل مارية مع الآخرين وبقاء النبطي لوحده.. وهي في ترردها عاجزة عن اتخاذ خطوة تأخذها إليه..

لا أعلم مدى صحة المقارنة ولكن يبدو لي هنا الفاصل بين الحب ولا الحب، أن  »تنتظرها« كما قال الشاعر الراحل  »محمود درويش« وأن تتخذ/ي موقفًا حاسما كما حصل مع العجوزين حتّى ولو تأخر الزمن وتغيّرت السُبُل!

الكاتبة مَي زيادة عاشت وهم الحب إذا أمكن لي القول، كُتّاب عُشاق كُثر تسابقوا على كسب ودادها، وهي اكتفت بالنظر الخاطف، لأنها تعرف مقاصد الذكورة الشرقيّة مهما تسربلت ثوب الثقافة والانفتاح تبقى  »لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهليّة«، كما قال لاحقا نزار في معرض آخر، كان المجتمعون في صالونها الأدبي يرون فيها:  »ولادة بنت المستكفي« في اختلافها وتميّزها عن بنات عصرها، ظنّ كل واحد منهم أنه سيكون زيدونها. سألت مَي العقاد في رسالة:

-لما تكتب لي  »أنتي« وليس  »أنتِ«؟

فأجابها: يعزّ عليّ كسرك في اللغة.

طبعا الجميع كسرها في الأخير. ليس نحوًا فقط بل روحًا وواقعا عندما تخلوا عنها في مرضها،  تجمع المصادر التي تناولت سيرتها أنّ صديقها أمين الريحاني هو الوحيد الذي مدّ لها يد العون.

ابن حزم  الأندلسي يقول بما معناه: إن حقيقة الحب لا تدرك إلا بالمعاناة، ويرى أنّ: الحب أوّله هزل وآخره جدٌّ. في كل زمن هناك من يشكو من عدم الوفاء، من الخذلان، وتتكرر مفردات: هجر، فراق، رحيل، حنين و »حبك عذاب«: حتى أنّ قيس المنفطر حبًّا في ليلاه عاتب قلبه:  »أليس وعدتني يا قلبُ/ إذا تُبتُ عن ليلى تتوب..«!

الشاعر محمود درويش عرّف في قصيدة له الحب بالكذبة الصادقة، نزار قباني رأى  »الحب في الأرض بعض من تخيلنا لو لم نجده عليها لاخترعناه«، الجواهري اعتبر  »ليس خاليًا من الحُب إلا بارد الطبع جامد« غادة السمان:  »وصل الحب.. رحل الحب/ تلك هي الحكاية ببساطة، فلنودع حبنا بامتنان، لمجرد أنه كان..«.

فدوى طوقان، عن شعورها بالخذلان:  »كيف أصدّق أنك أنت/ صاحب ذلك الوجه الآخر/ الباعث في أغوار كياني/ كل البغض وكل المقت…«

هل الحب العذريّ كان ليكون لو أنّ جميل بن مُعمر –مثلا- كان يمتلك هاتفًا نقالاً!

زمن الأول تحوّل

لِما تجمّدنا في تعريفنا لمفهوم الحب الحقيقي عند: (عنترة وعبلة وجميل بثينة وقيس وليلى وإلى غيرهم من مشاهير قصص الحب)، لما نربط الحب بصورته القديمة؟! غير آخذين بعين الاعتبار أن مقاييس حياتنا اليوم تختلف عن مقاييس الزمن الآفل، كثُرت مشاغل الحاضر وبالتالي من الطبيعي أن يتأثر تعاملنا مع المفاهيم الثابتة في الحياة. رندوحة« ما عاد في حُب متل زمان« خاطئة في طرحها لأن  »زمن الأول تحوّل«، تنوّعت وسائل الاتصال والتواصل، التسلية، الأطعمة، الخروجات، الطموحات، وبالتالي تقلّصت المساحات وزادت المسافات..

ومع أنّ اللغة العربية لم تبخل علينا في إعطاء مسميّات للحب، وإدراجه في مرتبات تبدأ من  »الهوى« والذي يعني به الميل للشخص الآخر، حتى يصل إلى  »الهيام« أعلى درجات الحب، ومرحلة الجنون بالحبيب، إلا أن الجمع العام لا تعنيه الاختلافات هو يتوقف عند الهوى ويميل مع الريح كيف تميلُ!

هل تؤمن بوجود الحُب بعد الزواج؟

سؤال على هزالته وأعجوبة طرحه، يطرح في مكمن آخر تساؤل  ما هو الحب المقصود في العبارة، الخالية من العبرة.

لم يعد بإمكاننا أن نكون محدودين في رؤيتنا للحب، لأننا أبناء زمان يخصنا وحدنا، والحُب فيه أمتن من الحب في الأزمنة السالفة والتالفة، لأنّ المغريات والمشتتات كثيرة، ولكن ما يُحرّف الشعور عن حقيقته هي المقولات التي نتدوالها على غير وجه علم وإدراك، ومنها  »الحب لازم ينتهي بالزواج«،  »القفص الذهبي«، لما نحكم على الحُب بالنهاية من بدايته، ولما يتفاخر بعض أدعياء الثقافة  »بالتنكيت« وبالحديث عن مؤسسة الزواج وكأنها الغضب الكاسر والغريب أنّ معظم هؤلاء أزواج ولم يفكروا في الهرب من أزواجهم؟

أختم المقال ببعض أبياتٍ للجواهري:

 »عاطِفات الحبّ ما أبدعها/ هذّبت طبعي وصفت خُلقي/ حُرَقٌ تملأ روحي رقّة/ أنا لا أنكر فضل الحُرقِ«

العدد 99 –كانون الاول 2019